لو أن الأمور علي مايرام, لكانت انتخابات مجلس النواب القادمة بمثابة خطوة هامة في طريق استكمال بناء النظام الجديد أو إتمام منظومة المؤسسات السياسية المزمع ترتيبها بعد الثورة. ولكانت أيضا إعمالا لواحدة من أهم آليات الديمقراطية في مجال حسم التناقضات السياسية التي تشهدها الساحة, وفي باب تحقيق أهداف الثورة وتلبية مطالب الجماهير. لكن ما حدث في الفترة الانتقالية أمر مختلف.... مختلف بحيث يجعل هذه الانتخابات نوعا من المخاطرة السياسية قد تزيد الأوضاع سوءا. فلم تمض عملية بناء المؤسسات علي النحو الصحيح أو المأمول; فالرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي يشهد تراجعا ملموسا في شرعية أدائه بصفة عامة, ولا تلقي أغلب سياساته وقراراته قبولا عاما. ومؤسسة الرئاسة باتت تعاني من الارتباك والتخبط; سواء في تركيبتها أو في توزيع الأدوار أو في نمط صنع القرار أو في تصريحاتها الملتبسة والمتناقضة. والدستور لم يحظ بالتوافق ولم تزل هناك فصائل عديدة تطالب بتعديله, والحكومة لم تنجح في معالجة القضايا الملحة ولا في تخفيف معاناة المواطنين, بل تفاقمت الأوضاع في عهدها, ومجلس الشوري تحاصره الشكوك وترفضه بعض القوي السياسية وتحتج علي ما يصدره من تشريعات, يضاف إلي ذلك اضطراب العلاقة بين مؤسسة الحكم والقضاء من ناحية, وبينها وبين المؤسسة العسكرية من ناحية أخري; في ظل هذا الوضع فإن الانتخابات ليس لها معني إلا مراكمة الأخطاء في أعلي مستوي بنيوي. وفي مجال بناء المؤسسات ينبغي ألا نتجاهل البعد القيمي وهو ما يتعلق بالقيم وبالثقافة السياسية عموما حيث شهد تدهورا ملموسا, فقد سادت قيم عدم احترام القانون والبلطجة وانعدام الثقة والاستقطاب والعداء والتربص والفوضي والتمرد والالتفاف والتخوين. هذه القيم كانت من صنع هؤلاء الذين أصبحوا في سدة الحكم, شاركهم فيها بعض فصائل التيار الإسلامي, ولاغرو بعد ذلك من أن تعاقرها أقسام النخبة وصفوف الجماهير. لقد تدني مستوي الخطاب السياسي إلي أقصي حالات التردي, ذلك أن فحص ما يصدر عن المسئولين وعن قيادات في الإخوان- خصوصا- ينبيء عن انفصال تام عن الواقع أو تجاهل له- وكأنهم يخاطبون شعبا آخر, وعن ارتباك وقلة خبرة, وناهيك عن الإسفاف في حالات كثيرة. لم يكن بناء النظام الجديد سليما لكي نكمل عليه, ولاكانت الانتخابات مجدية في تحقيق وظائفها, فالانتخابات( أو الاستفتاءات) التي تم إنجازها بعد الثورة لم تحسم تناقضا واحدا في الحياة السياسية, بل إنها أثارت تناقضات ربما كانت كامنة, وأفرزت أخري لم تكن موجودة. ولم ترض ظمأ الشعب في تلبية احتياجاته, ولم تحقق أي هدف من أهداف الثورة; لذلك استمر الغليان في الشارع واستمرت الاحتجاجات وتصاعدت وتيرتها إلي حد العصيان المدني في بعض المناطق ومن المتوقع أن تتسع رقعته كما اتسعت رقعة العنف والفوضي. ولا يبدو أن الانتخابات القادمة سوف تكون أفضل في تحقيق أغراضها, وذلك لأكثر من سبب: فالسياق العام الذي ستجري فيه الانتخابات معطوب, ومظاهر العطب كثيرة نذكر منها حالة الاستقطاب الحاد, والتدهور الاقتصادي, والانفلات الأمني. الاستقطاب مازال سائلا في الشارع السياسي وأخشي أن تنقله الانتخابات إلي دهاليز العمل المؤسسي فيعطل ماكينة العمل برمتها. هذا رغم الشعور بأنه قد تسرب فعلا إلي بعض أجهزة الدولة والتي أصبحت تتربص ببعضها البعض وصارت أبعد ما تكون عن إمكانية التعاون المطلوب أو المفترض لتسيير أعمالها. ولا أدري أين موقع الأزمة الاقتصادية والأمنية من العملية الانتخابية, اللهم إلا أن الدولة تساوم المواطنين علي أقواتهم بأن تضغط عليهم برغيف الخبز مقابل أصواتهم أو تمنحهم جرعة من الديمقراطية بدلا من رغيف العيش وأمن الشارع. والحقيقة أن الفشل الذريع هو حصاد هذه المرحلة; فكل آفات النظام السابق مازالت كماهي, وبعضها شهد تفاقما, وأضيفت إليها آفات أخري لم تكن موجودة; فأي نوع من السفه السياسي هذا الذي يجعلنا نعقد انتخابات في سياق هذه هي ملامحه ؟. سوف تعني الانتخابات إسهاما واضحا في عملية التكويش التي يمارسها الإخوان ومن معهم علي كل مفاصل الدولة, ولأن هذه العملية قد أسفرت عن شغل كثير من المواقع بمن هم دون مستوي الكفاءة المطلوب فإنه يجب عدم الإسهام فيها. من أجل ذلك هم يستعجلون الانتخابات في مناخ بائس, ومن أجل ذلك هم لايشعرون بالفشل لأن لديهم مشروعهم الخاص والذي لاصلة له بالثورة وأهدافها ولا بالجماهير ومطالبها...... لايشعرون بالفشل لأنهم يقيسون النجاح بمدي ما تحقق من مشروعهم الخاص!. وسوف تعني الانتخابات اكتمال نجاح سياسة التمرير التي انتهجها الإخوان, والتمرير يعني التحايل واستخدام كافة الوسائل من أجل تحقيق هدف معين لاترضي عنه القوي السياسية وقطاع من الجماهير... حدث ذلك في أول استفتاء علي الإعلان الدستوري, وحدث في انتخابات مجلس الشعب السابقة, وفي اللجنة التأسيسية للدستور عدة مرات, وفي انتخابات الرئاسة, وفي الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس, وفي حالة النائب العام, وفي الاستفتاء علي الدستور. لقد أصبحت سياسة التمرير وفرض الأمر الواقع منهجا في الحكم, ولا أشك في أن هذه المرة سوف تكون جد خطيرة. من المستبعد أن تكون الانتخابات نزيهة تماما حتي لو تم الاتفاق علي ضمانات لنزاهتها, لأن نزاهة الانتخابات قد تم العصف بها في قانون الانتخابات نفسه والذي تم تفصيله ليحابي الحزب الأقوي ويعطيه من الأصوات ما هو أكثر من مستوي تأييده الحقيقي في الشارع, واضح ذلك في نسبة الثلث والثلثين( للفردي والقائمة) وفي كيفية تحديد الفائز, وفي نسبة العمال والفلاحين, وفي تقسيم الدوائر... لقد أطاح القانون بمبدأ تكافؤ الفرص, وهناك من الحيل والأساليب التي يمكن بها تزوير إرادة الناخبين ما لايحصي ولا يعد. المقاطعة هنا قد تكون أكثر جدوي, صحيح أن التيار الإسلامي قد يستقطب بعض أحزاب المعارضة ليسبغ الشرعية علي الانتخابات ويفك جبهة المعارضة, وقد تنافس فصائل هذا التيار بعضها كما كان يفعل الحزب الوطني, وربما يتعاونون مع الفلول. رغم ذلك تظل المقاطعة هي الخيار الأفضل... علي الأقل للحق والتاريخ, لكنها تكون أكثر جدوي عندما تشمل الجميع وعندما يتم تأطيرها ضمن مشروع أكبر للنضال السياسي.