ابتليت مصر بنخبتها, بل بنخبها في كل المجالات. رغم أن المفترض في النخبة بتعريفها أنها صفوة المتميزين والأكثر علما ومهارة وتمكنا نظريا وعمليا, إلا أن الأمر الواقع والتجارب الطويلة التي عاشها المصريون مع نخبهم تكشف أن معظم إن لم يكن كل- النخب المصرية في كل المجالات, تعاني قصورا ذاتيا ومكامن ضعف جوهرية تراكمت بمرور الوقت وأبعدتها عن التكوين الصحيح والتطور السليم, فتقلصت نخبويتها حتي اقتصرت علي الاسم والمظهر. هذا لا يعني أن مصر عقمت عن إنجاب كفاءات بل وعبقريات في مجالات كثيرة. فلدي مصر خبرات وكفاءات علمية وعملية لكنها غير معروفة ولم تحصل علي ما تستحق من مكانة وإمكانات مؤسسية ومهنية كما تفتقد الاهتمام الإعلامي الذي يليق بها. لذا لا تجد تلك الكفاءات موقعا لها بين النخب التي يفترض أنها تقود المجتمع وتوجهه كل في مجالها. لكن الواقع في مصر أن من يستحقون مراكز القيادة يقادون ولا يقودون, وكثيرا ما يتعرضون لقتل بطئ بأدوات بيروقراطية وضغوط نفسية ومادية. في المقابل فإن كثيرا جدا ممن يتصدرون الساحة المصرية( بمختلف جوانبها) لا يستحقون ما حققوه من مكان ومكانة. بل إن بعضهم يجري التعامل معه إعلاميا وإظهاره كرمز أو علم في مجاله, دون إنجاز حقيقي أو حتي مأمول. وإذا كانت تلك الظاهرة تضرب بجذورها في الواقع المصري منذ عقود طويلة, فهي تتجسد بصفة خاصة في النخبة السياسية. إذ تبلورت وتفاقمت مظاهرها في السنوات القليلة التي سبقت ثورة25 يناير ثم تضخمت بعدها. فقبل الثورة كانت في مصر نخب عتيقة معروفة ومحددة المعالم والأشخاص وتتسم بثبات وانغلاق حتي صارت رمزا للجمود والتقليدية. ومع تفاقم الأوضاع بدأت تلك النخب تنكشف ويتضح زيفها أو علي الأقل محدودية قدراتها في معالجة أزمات ومشكلات قديمة قدم تلك النخب ذاتها. وكانت قنوات التصعيد والفرز ضيقة وخانقة بما يحول فعليا دون بروز أي شخص ذي كفاءة أو موهبة أو بغيرهما لكن أكثر شبابا, لما كان سيمثله من تهديد مباشر ليس فقط للموجودين في دوائر السلطة والمقربين منها, لكن أيضا للآخرين من المحسوبين علي النخبة ولو كانوا بعيدا عن السلطة, فقد نهلوا جميعا من معين واحد وتطبعوا بخصائص متشابهة, وإن اختلفت المواقع والانتماءات. بعد الثورة انعكس الوضع تماما, انكسرت القيود ورفعت السدود وتدفقت في شرايين المجتمع دماء مختلطة لا رابط لها ولا ضابط. وظهرت وجوه جديدة كثيرة تنسب نفسها إلي الثورة وتتموضع ضمن نخبتها. وبعد أن كان الإعلام الرسمي ومؤسسات الدولة قبل الثورة هي المسيطرة والمتحكمة في تحديد وتجديد صفوف النخبة, أدي الانفجار الإعلامي بعد الثورة وهيمنة الإعلام الخاص إلي سيولة بل وفوضي في تعريف وتشكيل النخبة وتحديد رموزها. وبعد أن كانت النخب قبل الثورة محكومة الحركة محدودة القدرات وبالتالي التطلعات, انفتحت النخبة بعد الثورة بلا معيار ولا ضوابط, فصارت مشوشة التفكير منفلتة التحركات. ربما نتيجة غياب القدوة وافتقاد قيادات تتولي تصعيد الشباب والارتقاء بقدراتهم عبر صقل الكفاءة وترشيد الطموح والحماس بالممارسة الواقعية تدريجيا. والنتيجة أن مصر أصبحت مبتلاة بنخبة مزدوجة غير متجانسة, شقها الأول شباب بعضه متسلق ومدعي, وأكثره مخلص لكن مندفع يتحرك دون رؤية عميقة في تقييم الأمور وحساب التكلفة والعائد بمعيار مصلحة واستقرار شعب ودولة. وشقها الآخر عواجيز وعجزة باقون كما بقي الكثير من عهد مبارك. مصر بحاجة إلي نخبة جديدة تقودها بحكمة وحيوية, فتحميها من هوس الشباب وتنقذها من هرم الشيوخ.