في الحادي والعشرين من أكتوبر الحالي رحل عن عالمنا الفاني واحد من أهم أعلام الفكر والأدب والفلسفة المصرية المعاصرة. إنه أنيس منصور الذي أشيع عنه خطأ أنه فضل الصحافة والأدب علي الفلسفة, فبدلا من أن يوصل طريقه الأكاديمي الذي كان ممهدا بحصوله علي ليسانس الفلسفة من آداب القاهرة بتقدير عام ممتاز, ذلك التقدير الذي لم يحصل عليه في تاريخ هذا القسم العريق سوي ثلاثة كان هو أولهم عام 1947م والدكتورة أميرة مطر ثانيهم عام 1952م وكان كاتب هذه السطور ثالثهم عام 1975م, أقول كان طريقه الأكاديمي ممهدا عبر تفوقه غير المسبوق في دراسة الفلسفة, ثم تعيينه معيدا في القسم نفسه لأن يكون أستاذا أكاديميا مرموقا وفيلسوفا يشار اليه بالبنان, حيث كان رحمه الله يمتلك عقلية فلسفية فذة وقدرات لغوية لم يتفوق عليه فيها ربما غير أستاذه د. عبدالرحمن بدوي. لقد تشكل فكر أنيس منصور الثري من مصادر شتي كان أولها وأهمها شغفه الشديد بالمعرفة والإحاطة بكل ما يمكن الإحاطة به من معارف ومعلومات مهما كان مصدرها, بدءا من القرآن الكريم الذي حفظه صغيرا فأكسبه المهارات اللغوية المتعددة لفظا ومعني وكلاما منطوقا كان يخرج من فمه دافئا شديد التأثير في مستمعيه, وثانيها حرصه علي التفوق الدراسي في كل المراحل التعليمية, حيث اتخذ من هذا التفوق سلاحا ضد الجهل وزيادة في الشغف للوصول الي أعلي درجات الإتقان في التحصيل العلمي, وثالثها حرصه الشديد علي إتقان اللغات الأجنبية والقراءة بأكثر من لغة فلم يكتف باتقان اللغة الفرنسية واللغة الانجليزية بل أتقن كذلك اللغة الألمانية والإيطالية, أما رابعها فقد كان شغفه الشديد بالسفر والرحلات إذ لم يكن يتوقف أبدا عن السفر والترحال بين بلاد الدنيا جميعا دون كلل أوملل, وكان نتيجة ذلك أن عرف في فترة من حياته بأنه كاتب الرحلات الأول في مصر والعالم العربي حيث كتب مؤلفات عديدة في هذا المجال كان أبرزها حول العالم في 200 يوم وبلاد الله خلق الله, وغريب في بلاد غريبة واليمن ذلك المجهول, وأنت في اليابان وبلاد أخري وأطيب تحياتي من موسكو وأعجب الرحلات في التاريخ. أما خامس هذه المصادر المكونة لفكره والتي أثرت وصقلت خبراته فقد كانت المناصب العديدة التي تولاها حيث رأس تحرير أكثر من مجلة وجريدة مثل الجيل وأخر ساعة ومايو والعروة الوثقي والكاتب وكاريكاتير وأكتوبر فضلا عن الصحف التي تنقل بينها كاتبا وصحفيا مثل الأخبار والأهرام والشرق الأوسط. أما سادس هذه المصادر فقد كان قربه الشديد من صناع القرار وزعماء مصر من عبدالناصر الي حسني مبارك, وقد عوض علاقته المتوترة بعبد الناصر بعلاقة الصداقة القوية التي ربطته بالرئيس أنور السادات, فضلا عن صداقته القوية بكل أعلام عصره من عمالقة الأدب والفكر والفن. أما المصدر السابع والأهم من وجهة نظري الخاصة فقد تمثل في تخصصه في الفلسفة ودراسته لها علي يد العديد من أعلام الفلاسفة والأساتذة المصريين والأجانب فضلا عن صداقته لكثيرين منهم وترجمته لبعض مؤلفاتهم, وكذلك لاطلاعه الواسع علي تاريخ الفلسفة والفلاسفة بشكل جعله أشبه بموسوعة فلسفية متحركة كما كان هذا شأنه كذلك في مجال الفن والأدب. إن دراسة أنيس منصور للفلسفة هي التي أكسبته ذلك التميز الواضح في العمل الصحفي وجعلته كاتبا من طراز فريد. إن دراسة الفلسفة والعمل بها لم ينقطع عند أنيس منصور حتي بعد أن قرر ترك العمل بالجامعة كمعيد بقسم الفلسفة وانتقل إلي العمل الصحفي بدار أخبار اليوم بل علي العكس فقد انتقل في اعتقادي من دراسة وتدريس الفلسفة بطابعها النظري المجرد الي نشر الفلسفة بين القطاع الأكبر من الناس عبر مقالاته الصحفية, لقد خرج بالفلسفة التي تعلمها وعلمها الي الناس فاكتسب له وللفلسفة أنصارا كثيرين وقراء يفوقهم الحصر. لقد كان أنيس منصور في نظري أحد رواد الفلسفة التطبيقية في القرن العشرين لأنه لم يكتف بدراسة مباديء وتاريخ الفلسفة وتدريسها بل جعلها تسوس حياة الناس وتؤثر فيهم وتقودهم إلي التأمل والتجديد في حياتهم من خلال إثارة عقولهم ومشاعرهم وخلخلة الجمود العقلي الذي درجوا علي التحلي به وركنوا إليه! لقد شغل أنيس منصور الناس بأفكاره ومواقفه طوال حياته وسيشغلهم بها بعد وفاته, لأنها كانت أفكارا فلسفية عميقة تتجاوز الزمان والمكان الذي كتبت فيه والناس الذين عاصرهم وعاصروه, وهذه هي أخص خصائص الفلسفة, وهذا هو طابع الكتابة الفلسفية التي تميز بها أنيس منصور فعاش فيلسوفا متخفيا في زي الكاتب الصحفي, وحان أوان إعادة قراءة أعماله كلها من منظور فلسفي يتجاوز الزمان والمكان ويكسب صاحبها الخلود والأبدية. رحم الله أنيس منصور كاتبا فذا وفيلسوفا أخلص للفلسفة وان نقلها من النظر المجرد إلي العمل علي تنوير الناس وقيادتهم نحو حياة أفضل. المزيد من مقالات د. مصطفي النشار