كان السندباد البحري- في قصة من قصص ألف ليلة وليلة- موجودا في جزيرة ما, بعد أن غرقت سفينته, وقد كان متعبا خائفا, وحيدا, وفي خوفه وتعبه نام, ثم في الصباح مشي بين الأشجار, وعند ساقية وماء عين جارية رأي شيخا مليحا جالسا, رأي إنسانا مألوفا, رآه وسلم عليه فرد عليه ذلك الشيخ السلام بالإشارة ولم يتكلم, فسأله السندباد عن سبب جلوسه في هذا المكان, فلم يرد عليه, بل حرك رأسه وأشار إليه بيده طالبا منه أن يحمله من مكانه هذا إلي مكان آخر بجوار ساقية أخري, فحمله السندباد وقال لنفسه: أعمل معروفا مع هذا الشيخ لعل صوابا يحصل لي. ثم عندما وصل إلي الساقية الثانية طلب منه النزول فلم ينزل عن كتفي السندباد; بل لف رجليه علي رقبته. وتستمر الحكاية التي نسردها ان بتصرف ما حيث يقول السندباد فنظرت إلي رجليه فرأيتهما مثل جلد الجاموس في السواد والخشونة, ففزعت منه وأردت أن أرميه من فوق كتفي, فقرط علي رقبتي برجليه وخنقني بهما حتي اسودت الدنيا في وجهي, وغبت عن وجودي, ولم أزل معه علي هذه الحالة وأنا في أشد ما يكون من التعب,, وقد صرت أتمني الموت من الله تعالي في كل وقت وكل ساعة من كثرة ما أنا فيه من التعب والمشقة, ولم أزل علي هذه الحالة مدة من الزمان إلي أن جئت به يوما من الأيام إلي مكان في الجزيرة فوجدت فيه يقطينا كثيرا, فأخذت منه واحدة كبيرة يابسة وفتحت رأسها وصفيتها مما بها, وحملتها إلي شجرة العنب فملأتها وسددت رأسها ووضعتها في الشمس وتركتها مدة أيام حتي صارت خمرا صافيا, وصرت كل يوم أشرب منه لأستعين به علي تعبي مع ذلك الشيطان المريد, وكلما سكرت منها تقوم همتي, فنظر في يوم من الأيام وأنا أشرب فأشار لي بيده ما هذا؟ فقلت له هذا شيء مليح يقوي القلب, ويشرح الخاطر, ثم إني جريت به ورقصت بين الأشجار, وغنيت وانشرحت, فلما رآني علي هذه الحالة أشار لي أن أناوله اليقطينة ليشرب منها, فخفت منه وأعطيتها له, فشرب ما كان باقيا فيها, وقد حصل له طرب فصار يهتز علي كتفي, فلما علمت سكره, وأنه غاب عن الوجود مددت يدي إلي رجليه وفككتها عن رقبتي, ثم ملت به إلي الأرض وألقيته عليها,, ثم إني خفت منه أن يقوم من سكره ويؤذيني, فأخذت صخرة عظيمة من بين الأشجار وجئت إليه فضربته علي رأسه وهو نائم, فاختلط لحمه بدمه, وقد قتل, فلا رحمة الله عليه. تذكرني هذه الحكاية بالقول السائر الذي أحيانا يطلقه العامة في مصر علي الشخص الذي لا يكف عن الحركة والتململ والانتقال من هنا إلي هناك, مع كثرة الكلام الذي يتناثر منه, بعيدا وقريبا, دون وعي أو تدبر أو تأمل, فيقولون عنه كأنه راكبه عفريت, مما قد يدل علي هذه الغرابة التي تبدو الآن وتتجلي في سلوكيات بعض الناس وبما يتجاوز المألوف إلي حد بعيد, ومما قد نجده الآن ونشاهده, سواء في الشوارع, أو وسائل المواصلات, أو برامج الفضائيات, أو قاعات الندوات, أو غيرها من مواقف الحوار, والتي كان ينبغي أن تكرس للتفاعل الإيجابي وللوصول إلي حلول جديدة ومفيدة لمجتمعنا الآن, فإذا بها تصبح فاتحة للشقاق, وساحة للعراك, وموضعا للفرقة, وصراع الديكة, وغلبة الديماجوجية والتسلط الصوتي والعنف الرمزي, وربما البدني, أيضا. أحزاب وجماعات وائتلافات ومرشحون وإعلاميون قفزوا أو يريدون القفز فوق أكتاف مصر عنوة, كشياطين ولا يريدون أن يتركوها أبدا تلتقط أنفاسها. لقد طلب ذلك الشيخ الذي بدا, أولا, في صورة مألوفة, من السندباد أن يحمله علي رقبته وينقله إلي جانب تلك الساقية ثانية, وأراد السندباد أن يساعده, فحمله, فإذا بذلك الإنسان المألوف الضعيف الواهن المليح يتحول إلي شيطان غير مألوف, قوي عنيف قبيح, له رجلان تشبهان أرجل الجاموس, ثم إنه أرهق السندباد بمطالبه, بل إنه بدأ يضربه برجليه ضربا أشد من ضرب السياط, وصار يبول عليه ويمنعه من النوم ليلا, وإلي غير ذلك من الأمور القاسية. لقد أراد السندباد أن يفعل خيرا فانقلب عليه شرا, ولم يكن أمامه من وسيلة سوي أن يحتال علي ذلك الشيطان المريد وأن يسكره, ثم أن يتخلص منه ويقتله كما ورد في القصة فمن هذا الشيطان؟ أولا: قد يقول أحد هذه التفسيرات إن الشيطان هنا دلالة ورمز لكل شيء, أو إنسان, كان مألوفا بالنسبة إلينا, لكنه يصبح بعد ذلك غير مألوف, عندما نقترب منه أكثر فأكثر, عندما نطيعه, ونستجيب لرغباته, عندما نعتقد أننا نساعده, فإذا بنا نصبح نحن المحتاجين إلي المساعدة, عندما يتحول ما نقوم به من أجل صالحنا أو صالح الآخرين ضدنا, عندما يصبح الخير شرا, والمساعدة استعانة, والقوي ضعيفا والضعيف قويا, وكذلك عندما يتجاوز الابتزاز حدوده ليصبح قانونا وقاعدة. ثانيا: و قد يقول تفسير آخر: ليس فقط أن المألوف قد أصبح غير مألوف, بل إن المألوف قد عاد من غيابه, قد عاد من كبته, إنه مألوف بالنسبة إلينا, موجود في لا شعورنا, في مخاوفنا ومتابعنا وهواجسنا, وإنه في عزلتنا ووحشتنا وتعبنا ووحدتنا قد تخرج هذه المحتويات اللاشعورية وتهيمن علينا, نجسدها في شكل أشباح وشياطين, وقد نبالغ في تجسيدنا لآخرين نكرههم ونعاني منهم في شكل أشباح وشياطين, نخلع عليهم مخاوفنا وعزلتنا وهشاشة ذواتنا, نري أننا قد نستطيع مساعدتهم, في حين أننا نريد أن نساعد أنفسنا, نجسدهم في أشكال مخيفة, أو في كائنات تبدو كأنها تحتاج إلي مساعدتنا, أو ربما نجسدها في حكايات كما فعل السندباد, وكما يفعل الأدباء والفنانون, وإنه من خلال هذه الحكاية ومن خلال الخيال واجه السندباد شيطان عزلته, حاول أن يتجاوز شعوره بالغربة والغرابة في ذلك العالم الغريب, وقد تكون الخمر التي شربها السندباد هنا, خمرا حقيقية, وقد تكون هي خمر الخيال, خمر الحكي, خمر الإبداع, أو خمر الحيلة والاحتيال علي الحياة وعلي مواقفها القاسية, إنها الخمر الفعلية أو الرمزية التي تخلص السندباد من خلالها وتحرر من ذلك الشيطان المريد وقتله, فمن خلال الخيال والإبداع والوعي نواجه الخوف, من خلالهما قد نتخلص من شعورنا الحالي بالغرابة أو الغربة. وثالثا: قد يقول تفسير آخر, طرحه من قبلنا بعض النقاد ومنهم الناقد المغربي عبد الفتاح كليطو, والناقد المصري الدكتور جابر عصفور, ويقول هذا التفسير إن ذلك الشيطان هنا هو سلطة التراث, أو سلطة ما هو قديم, والتي يسيطر من خلالها علي الحاضر, علي كل ما هو جديد, وإنه ليس هناك من خلاص من تلك الهيمنة العنيفة لذلك الجانب المخيف المعتم القاتم من التراث إلا بالوعي النقدي والمزيد من الإلقاء للضوء علي جوانب التراث المضيئة المشرقة. هكذا تكون المعرفة هي ذلك الضوء, ضوء الوعي والاستنارة والتنقية والمواجهة لكل ما هو غامض أو مخيف او شيطاني أو غريب في حياتنا. المزيد من مقالات د.شاكر عبد الحميد