بالفرشاة: قوس مرن من أعلي, تلاقي مع الخط المندفع من أسفل حتي كادا يصنعان مقدمة سمكة, لكنه تفادي أن يرسم لها زعانف, نظر مليا إلي الخطوط وحاذر أن يقع من فوق السلم, ونظر إلي العالم الأسفل سريعا ومسح أنفه في كم القميص, ثم عاد ونظر إلي اعلي فوجد النخيل والشجر يتمايل, فأمسك بالسلم, تشبث به, وكادت السمكة تغيب في الحائط, قال لنفسه: ولكني لا أرسم سمكة, إنما أنا أرسم طائرة, وابتسم, ولكي يجسم الأمر صنع للرسم جناحين طويلين, ثم نوافذ ظهر في إحداها رأس سائق الطيارة محشورا في قلنسوة هي أقرب لعمامة حراس مخازن القطارات, ولكي يطمئن علي اتساق الرسم نزل من فوق السلم ثم حركه بما عليه من جرادل الألوان والأصباغ, والفرشاة منكفئة في جردل منها, وعندما ارتاح لمشهد الطائرة أعاد السلم إلي موقعه قريبا من الرسم, وتسلقه حتي وصل إلي المطار, قالت بنت وقد استندت بظهرها إلي الحائط المواجه: الله ينور عليك يا عم يوسف, نظر إليها بنصف التواء رقبة, ولم يرد, وبدأ يكمل ذيل الطائرة, اللون الأزرق هو الأنسب, هل رأيت طائرة مقدمتها حمراء ونهايتها زرقاء, فأعاد الفرشاة إلي الجردل الآخر, وعندما ارتاح لتكوين الذيل وسلامة اتزانه مع جناحين صغيرين مناسبين بدأ يرسم بدون الطائرة بحروف لاتينية لإثبات هويتها العربية, هلال ونجوم, ثم كتب رقمين واحدا بالعربي والثاني بالإفرنجي, إشارة لتأكيد عالميتها, انتبه إلي أن كوب الشاي هناك علي الأرض لايزال فارغا, أشار للبنت نحو الكوب, رفعت يدها عن عيونها ونظرت إلي الكوب دون أن تتحرك, قالت البنت: ارسم سبع يا عم يوسف. سبع؟ كتم غيظه وبدأ يحدد موقع الباخرة, يجب أن تكون بعيدة عن المطار حتي لا تتأثر الطائرة, ورأي أن يصعد درجة كي يكتب في الأعلي النص الأثير, مر رجلان ونظرا إلي الرسومات, وأسبغا علي عم يوسف التحية المشجعة: فتح الله عليك يا أستاذ, وقبل أن يغادرا المكان تلقيا منه أمنيته أن يزخرف أبواب بيوتهم, وقال في صوت خفيض: وهل يمكن زخرفة واجهات بيوت اللصوص برسومات الحج؟, وعبرت الشارع امرأة تقود قطيعا من الماعز الذي كاد يزلزل السلم احتكاكا, صرخت المرأة في حيواناتها دون أن تنتبه إلي ما فيه عن يوسف, خرج أناس من البيت ودخلوا وأبدوا إعجابهم فشكرهم, حج بيت الله الحرام وزار قبر النبي عليه الصلاة والسلام الحاج مسعود شحاتة وزوجته الحاجة... وتوقف هنيهة ونظر إلي البنت سائلا: ما اسم الحاجة يا بنت؟ كانت البنت قد عادت إلي الإمعان فيه متقية بكف يدها النور المنسكب في عيونها, قالت البنت في هدوء جاد, ارسم لنا السبع يا عم يوسف. سبع؟ بعد الطائرة والمربع الحاوي إعلان حج صاحب الدار, لابد أن يرسم علي الحائط بواخر وسيارات وجمالا, كل وسائل المواصلات التاريخية التي استعملها الأهل منذ عرفت فرشاته واجهات بيوتهم في الوصول إلي المكان المقدس.سبع ؟ قرر ألا يهتم بها ولا يرد عليها, وحينما هم بتحريك الفرشاة كي تحدد أبعاد الباخرة الأثيرة ذات المدخنة التي تزفر دخانها الأسود المتعالي حتي مشارف مربع الكتابة, قالت البنت: شاي تقيل؟ وتحركت نحو الكوب لتلتقطه من الأرض, وتلقي ببقاياه علي التراب. ورفعت الكوب إليه بطول ذراعها ليدلي لها بمواصفات الشاي المطلوب: ثقيل, وغابت البنت تاركة عم يوسف مشغولا بصناعة مقدمة الباخرة الذي يجب أن يكون سميكا تعلوه إشارة الهلب وعلي السطح سارية بها علم رفراف, وفي أحيان كثيرة حينما تكون مساحة الواجهة تسمح يضيف للباخرة قاربا, وللطائرة سلما للنزول, وللجمل رجلا يسعي أمامه, وللسماء طيورا ميمونة, وكانت يد البنت قد ارتفعت بكوب الشاي الثقيل, فنزل عم يوسف درجتين وتناولها باليد المدربة الفارغة المضمخة بلزوجة الألوان, وما كاد يعود أدراجه, ويستقر في مرفأ السفينة حتي جاء صوت البنت متوسلا: ارسم لنا السبع يا عم يوسف. سبع؟ كانت عيونها تتابعه وقد عادت محتمية تحت كفها ومستندة إلي الحائط المواجه, وحينئذ اضطربت يده بكوب الشاي, فأحس بأصوات صفيحية تخبط في دماغه, سند كوب الشاي في زواية التقاء درجة السلم الملامسة للحائط, فاتضح له أن يده لاتزال مضطربة, ظهر ذلك جليا في إمساكه المهتز بالفرشاة, حتي أن صدر الباخرة الضخم أصبح هزيلا يقارب صدر بطة, غمغم عم يوسف دون أن ينظر إلي البنت, مطت البنت صوتها معترضة علي تجاهل طلبها, نادتها أمها من الداخل, فلم تهتم, ألقي التحية واحد أو اثنان عابران, فلم يهتم, صمم أن يحذر البنت, أن يمنعها من تعطيله عن أداء مهام رسومه, لكن البنت رفعت كفها عن عيونها وظلت ممعنة فيه, قالت في وضوح غارق في الخيبة: أنت لا تعرف ترسم السبع يا عم يوسف, وكررت في صوت أكثر انخفاضا: لا تعرف يا عم يوسف. كاد السلم المهتز يسقط, ومارت غمغمته الغاضبة في الجو, اسكتي يا بنت, نظر إليها فترة محذرا, كانت نقاط لونية غليظة قد تناثرت علي الحائط مهددة المساحة كلها بالفوضي, عاد فقال: يا بنت اسكتي, ثم أصدر أمره إليها أن تبتعد عن هذا المكان ثم قال معاتبا: إيه عم يوسف إيه عم يوسف, اذهبي والعبي وسيبي عمك يوسف, روحي يا عروسة, كان بتخفيض صوته يتذلل إليها, يا عم يوسف يا عم زفت, هو أنا اكبر منك يا بنت مسعود, وضحك لكي يخفف من وقع كلامه عليها, وضحكت البنت فور انقشاع الزعل, غطت عيونها من جديد بكفها وقالت في هدوء حاسم: طيب ارسم لنا السبع يا يوسف. السبع يا يوسف, كان وجهها قد تورد انفعالا, ثم عاد إلي استوائه, وكانت ملامح الباخرة لاتزال تصارع هزال البطة, لماذا يقولون يا عم يوسف, بسيطة يا عم يوسف, أحيانا يبدأ بعض الناس حياتهم أعماما كبار السن, وأخذت الفرشاة تسبح في الهواء يمينا ويسارا دون استقرار, تحاول أن تتلمس الموقع المناسب لتحط, وضع يوسف الفرشاة في الجردل, وظل صامتا, انشغل قليلا في ارتشاف كوب الشاي, ثم مسح يده في أطراف قميصه, وأخرج منديلا فاقد اللون ومسح عرقا في رقبته, وفي وجهه لكن العرق ظل يعود, فيتبلر علي جبهته, لم يرسم يوسف في حياته سبعا, لم يجرب ذلك أبدا, سيوف ومدافع وزهور ونخيل وأبو زيد الهلالي وصواريخ والناعسة, ودياب بن غانم وأسماك وبواخر ودبابات ورايات وبنادق وتواريخ, والحجاج فقط هم الذين يطلبون نقش واجهات بيوتهم, أما باقي المناسبات من زواج ورجوع غائبين وختان وشفاء وخروج من السجن, فلا نقوش, لكن البنت خلال صمته الذي طال ضحكت, ضحكت في صوت صبياني مشوب باستهانة أنثي, وعادت تركز عيونه عليها دون أن تطرف, ودون أن تحمي عيونها بكفها كأنها مهيأة لإعادة التصميم علي الطلب, لكنها عادت تضحك مع أنه توقع أن تقول له ارسم لنا السبع يا يوسف, فاخترقت الضحكة ظهره ليظل فترة متشبثا بالسلم, ومال برأسه في بطء ونظر إليها, نظر بالتحديد في عيونها, واستمرت البنت, صامتة وممعنة, وبدأت الفرشاة تخترق جدران الباخرة وتصهر هيكلها السميك وتذيبه لينساب شعرا ملبدا, يتحاور هذا الشعر المبلد ليصنع دائرة ذات استطالة لتكون رأس أسد, ثم أنف برز في الجزء المستطيل له شوارب كالشوك فوق شفتين بينهما نابان واضحان, وعادت الفرشاة فشقت الشفة العليا دون اهتمام بالمشاكلة مع الشوارب الحادة, وظهرت عيون الاسد متربصة فوقها حواجب كالحراب, وظلت هذه العيون بالرغم من اتساعها تحتاج إلي ظل غامض, واحتاج الرسم إلي جزء من المطار بعد أن أذاب كل المرفأ بما فيه من بواخر, واهتز رأس السبع فقامت الفرشاة بترسيخه علي راحة بدن الطائرة, بدن حرك بسببه يوسف السلم لكي يحتويه بكل حركة فرشاته, وتمدد جسد السبع في الميناءين البحري والجوي, وظل خانعا أسفل مربع الكتابة, ثم ارتفع الذيل بخصلة شرسة جميلة من الشعر في نهايته ليلطم كل جسد الطائرة, حتي أن جزءا من الطائرة قد انشق بعيدا عن مؤخرتها, وظلت الفرشاة تنهش في مسطح الحائط لتظهر قوائم السبع الظافرة, ثم عادت لتخلع النابين الواضحين ليصبحا أنيابا عديدة لسبع يزمجر في عمق الجير والمصيص, ويهيمن علي الحائط والأجناب وفتحة الباب, كانت البنت ممعنة في السبع حينما مال رأس يوسف ليتجه إليها, فتلاقت عيونهما, وبعد صمت طال أو قصر همست البنت: كفاية يا يوسف. وجلس يوسف علي قمة السلم مرهقا. ------------------------------------------سيرة ذاتية للأديب الحصول علي جائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام.1984 الحصول علي وسام الفنون والآداب من الطبقة الأولي عام.1986 الحصول علي جائزة معرض الكتاب عن أفضل مجموعة قصص1997 الحصول علي جائزة التفوق لدورة في إثراء الحركة الأدبية في مصر مؤتمر أدباء إقليمالقاهرة الكبري وشمال الصعيد بني سويف مايو.2003 الانتاج الادبي: رواية من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ وترجمت إلي الهولندية واليابانية والفرنسية, وصدرت منها11 طبعة عربية أخرها عام1997م. مجموعة القصص: ديروط الشريف صدرت عام1984 علي نفقته, ثم صدرت منها عشر طبعات وترجمت أقاصيصها إلي الفرنسية والانجليزية. مجموعة قصص( القصص الأخري)1968 كتاب مقالات ساخرة حرق الدم1990( مجموعة أولي) كتاب بوابة جبر الخاطر1997, الكتابات النقدية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة. كتاب مقالات حرق الدم1997 كتاب أخبار اليوم مجموعة ثانية مجموعة قصص( قيام وانهيار آل مستجاب). زهر الفول: مسائل ومشاغبات الحزن يميل للمازحة1998 رواية انه الرابع من آل مستجاب رواية مستجاب الفاضل رواية هذا ليس كتاب البأف رواية كلب آل مستجاب رواية اللهو الخفي يناير2005