من يهدر الأرض الزراعية في مصر بالبناء عليها خارج القانون, يرتكب جريمة مروعة بحق الأمة يمتد أثرها ليغطي مستقبل مصر كله, فالتربة الزراعية في وادي النيل ودلتاه من أخصب الأراضي في العالم, إن لم تكن أخصبها علي الإطلاق, فهي مكونة من طبقة هائلة عمقها يتراوح بين17 و20 مترا من الطمي أو الغرين الغني الذي حمله النيل عبر آلاف السنين من منابعه الإفريقية, وتحديدا من الهضبة الإثيوبية ليبسطه علي أرض مصر عاما بعد عام في ذروة فيضانه. وهناك بلدان يقل فيها سمك طبقة الطمي عن متر واحد لدرجة أنها لا تحتمل زراعة بعض المحاصيل أو الأشجار الوتدية الجذور, أما في مصر, فإن غني التربة وعمقها المذهل يسمحان بزراعة كل المحاصيل الموسمية أو الدائمة التي تجود في مناخ مصر. وكان طبيعيا والحال هكذا أن تكون إنتاجية الأرض في مصر من المحاصيل بين أعلي مستويات الإنتاجية في العالم بأسره, وبالذات من محاصيل الأرز والقمح والذرة وغالبية الخضر. ولأن الدولة أدركت من منطلق مسئوليتها الاجتماعية الراهنة, ومسئوليتها عن تسليم الموارد البيئية, وعلي رأسها الأراضي الزراعية قوية ومنتجة للأجيال المقبلة, أنه لا بد من الحفاظ علي هذه الأراضي الزراعية الشديدة الخصوبة, ومنع البناء عليها أو تدمير قدرتها علي الإنتاج فإنها وضعت العديد من القوانين التي تحقق هذه الأهداف. وبرغم ذلك فإن البناء علي الأراضي الزراعية التهم قرابة1.5 مليون فدان من أخصب أراضي مصر والعالم في وادي النيل ودلتاه منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي حتي الآن, كما تعرضت مساحات كبيرة للتجريف لصناعة الطوب بالذات منذ النصف الثاني من السبعينيات حتي نهاية ثمانينيات القرن العشرين, واكتفت حكومات الديكتاتور المخلوع مبارك بإحالة المخالفين للقضاء وفقا للقانون الذي يحمي الأراضي الزراعية, ويمنع تجريفها أو البناء عليها, ثم سحب القضايا أثناء الانتخابات البرلمانية أو الاستفتاءات الرئاسية كرشوة للناخبين الفلاحين, مما عودهم علي أن البناء علي تلك الأراضي الزراعية سوف يمر دون عقاب حقيقي. ولم تكترث حكومات مبارك أصلا لوجود قضية تتعلق بتوفير المساكن للأجيال الجديدة من أبناء الريف دون الاعتداء علي الأراضي الزراعية. وعقب انفجار الثورة المصرية الكبري في25 يناير2011, وفي ظل حالة فراغ السلطة بعد الفعلة السوداء لجهاز الشرطة بالانسحاب من تأمين المدن والقري بما فيها تلك التي لم يتعرض فيها لأي تحد, قام عدد كبير من ملاك الأراضي بتبويرها والبناء عليها ليس للاحتياج للمساكن, لكن بغرض الاتجار فيها كأراضي بناء, وفي نفس الوقت فإن أعدادا كبيرة من الفلاحين الذين يحتاجون لمساكن لأنفسهم أو لأولادهم التزموا بالقانون, ولم يشاركوا في البناء علي الأراضي الزراعية. وهذا الاستغلال لحالة فراغ السلطة هو سلوك انتهازي يستحق الردع بإزالة كل ما تم من اعتداءات علي الأراضي الزراعية خارج القانون, لكن حجم التجاوزات الهائل والذي لا يوجد حصر دقيق له, بل تقديرات تشير إلي انه تم البناء علي ما لا يقل عن100 ألف فدان بصورة غير قانونية.. هذا الحجم الهائل للتجاوزات والذي تم بتواطؤ كامل مع الإدارات المحلية, سيجعل من قيام الدولة بعملية الهدم أمرا معقدا ومكلفا ومهدرا لكم ضخم من الموارد, وبالتالي فإن العقاب المالي لمن قاموا بالبناء علي الأراضي الزراعية بفرض غرامة علي كل متر تم بناؤه تساوي الفارق بين سعره كأرض زراعية, وسعره كأرض مبان بحد أدني300 جنيه كغرامة علي كل متر تم بناؤه بالمخالفة للقانون, ربما يكون عقوبة مناسبة, مع إلزام هؤلاء المخالفين ببناء خمسة أدوار أو أعلي مستوي مسموح به للبناء, قبل أي تصالح معهم, حتي يتحول هذا التوسع العمراني غير القانوني إلي توسع رأسي يكفي لاستيعاب أعداد كبيرة ويقلل أو حتي ينهي الحاجة لأي مبان سكنية جديدة في الريف لفترة طويلة. وإذا قام ملاك الأراضي المخالفون بإزالة ما بنوه بأنفسهم حتي لا يتعرضوا لهذه العقوبات الثقيلة كان ذلك خيرا, وإذا دفعوا الغرامة كشرط للسماح لهم بإدخال المرافق إلي مبانيهم المخالفة وتوفيق أوضاعها, فإن ذلك يمكن أن يوفر للدولة ما لا يقل عن126 مليار جنيه قيمة الغرامة المستحقة علي المساحة التي تم بناؤها يمكن استخدامها في تمويل استصلاح مساحات جديدة وتطوير أساليب الري لتوفير المياه الضرورية لزراعة المساحات المستصلحة الجديدة, مع تشديد العقوبة بالغرامة المضاعفة والسجن لمدة طويلة علي من قاموا بالبناء إذا قاموا بأي مخالفة جديدة في هذا الشأن مهما صغر حجمها. إن الحفاظ علي الأراضي الزراعية كمورد بيئي يعتبر أحد الأسس القوية لأي تنمية زراعية مستدامة, وبالتالي فإن الدولة والمجتمع يجب أن يتعاملا مع هذه القضية بصورة صارمة وأخلاقية, لأن هذه الأراضي التي ورثناها عن أجدادنا جيلا بعد جيل هي حق للأجيال المقبلة لا ينبغي الاعتداء عليه بأي صورة. وبرغم أهمية هذا الردع لمن يخالفون القانون ويقومون بالبناء علي الأراضي الزراعية إلا أن هناك قضية اقتصادية اجتماعية بيئية تتعلق بحاجة الريف المصري للمزيد من المساكن لاستيعاب الزيادة السكانية, وهو ما يجعل الأراضي الزراعية كمورد اقتصادي وبيئي عرضة للاعتداء عليها بصورة دائمة. وصحيح أن التجاوزات التي تمت أخيرا قد وضعت أساسا لمبان يمكن أن تستوعب الطلب علي المساكن في الريف لسنوات طويلة إذا تم إجبار ملاكها علي بناء خمسة أدوار, إلا أنه ينبغي العمل علي حل هذه القضية بصورة حاسمة من خلال قيام الدولة بنفسها بإنشاء مساكن شعبية ومتوسطة المستوي بارتفاعات عالية نسبيا وعدد أدوار أكبر من المعتاد في الوادي والدلتا لتقليل التوسع الأفقي, وتحجيم الاعتداء علي الأرض الزراعية, والاعتماد علي التوسع الرأسي في توفير المساكن للأجيال الجديدة من أبناء الريف. كما أن الدولة يمكنها أن تقوم بعمل امتدادات تنموية وعمرانية في المحافظات المتاخمة للمناطق الصحراوية, لجذب الكتل السكانية من الأجيال الجديدة في تلك المحافظات إلي تلك المناطق الصحراوية الجديدة. كما أن جذب أبناء المحافظات الريفية غير المتاخمة للصحراء للعمل في مناطق التنمية الزراعية والعمرانية الجديدة والمشروعات الصناعية والخدمية التي يمكن إنشاؤها في تلك المناطق وعلي رأسها سيناء والصحراء الغربية والساحل الشمالي وساحل البحر الأحمر, من خلال تمليكهم أراضي مستصلحة فيها, وتمويل مشروعات صغيرة وتعاونية لهم في تلك المناطق.. هذا الجذب سوف يوجد آلية جديدة وقابلة للاستمرار والتطور لإعادة توزيع السكان علي خريطة مصر بصورة تقلل مخاطر الاعتداء علي الأرض الزراعية في الوادي والدلتا التي هي أهم مورد بيئي لمصر ينبغي أن تورثه سليما لأبنائها جيلا بعد جيل. المزيد من مقالات أحمد السيد النجار