من المفارقات الكبري أن تلعب الإنترنت دورا هائلا مميزا في تفجير وإدارة ونجاح ثورة25 يناير ثم تمر تسعة أشهر دون أن يعلن حزب واحد من الأحزاب قديمها وحديثها. أو مرشح واحد ممن أعلنوا ترشيح أنفسهم للرئاسة كبيرهم وصغيرهم, مخضر ميهم ومحدثيهم عن تصور واضح لأوضاع مصر المستقبلية في ظل هذه الثورة, وكيف ستتعامل معها وتستعين بها في إعادة بناء الدولة وإدارتها, وهل ستستمر تلهث وراءها بانبهار أم ستتوقف عندها بروية وتفكير يستهدف المشاركة والترويض والإفادة, وتقديري أن هذه المسألة تبدو الآن أقرب إلي الفريضة الغائبة لدي هؤلاء جميعا, وما دامت فريضة فيتعين عليهم إحضارها, وإلا سيكونون غير قادرين ولا جديرين بالانتقال بمصر إلي دولة ذات حكم رشيد, وأي حديث لأي منهم عن التحديث سيكون مجرد هراء وفقاعات في الهواء, لأنهم بافتقارهم أو تجاهلهم لرؤية محددة للتعامل مع التكنولوجيا ودورها في مستقبل البلاد, سيقودوننا حتما إلي دولة مختلة الأداء, قديمة الأدوات, خارج الزمن, تترنح تحت سنابك جواد التكنولوجيا الجامح. ليس هذا تقليلا من شأن أحد بالأحزاب أو من أعلنوا ترشيح أنفسهم, ولكنه القلق من الخلل الحاصل بين التأثير الكاسح من ناحية التكنولوجيا والغياب الفاضح في الإحساس بهذا التأثير من ناحية الأحزاب المرشحين. فمن حيث التأثير الكاسح لثورة تكنولوجيا المعلومات, نحن عمليا أمام ثلاث ثورات تشكل ما يشبه المثلث الذي تقود كل زاوية فيه إلي الأخري في دورة متصلة, وهذه الثورات هي: ثورة المعلومات بما فيها من منجزات علمية وتكنولوجية في مجالات البرمجيات والإلكترونيات وشبكات الاتصالات والمحتوي ونظم المعلومات والأجهزة والمعدات وغيرها من العناصر التي تحولت من منجزات علمية وإبداعات تقنية إلي مزيج من الأدوات تدير تفاصيل الحياة اليومية, ومن المستحيل عمليا تفادي التعامل معها فتحولت إلي أداة تغيير هائلة. وهذه الثورة قادت إلي الثورة الثانية التي يمكن أن نطلق عليها ثورة التغيير ومن أهم ملامحها الانتقال إلي القيم العالمية بدلا من المحلية, وبروز الثروة الفكرية مقابل الثروة المادية والابتكار والاختلاف مقابل التكرار والنمطية, وإنتاج السرعة مقابل إنتاج الوفرة والإنتاج كثيف المعلومات مقابل الإنتاج كثيف العمالة.. وغيرها. وبدورها قادت ثورة التغيير إلي الثورة الثالثة وهي ثورة العقل المجتمعي ونعني به هنا حزمة الأفكار والقناعات والسلوكيات, التي تسود مجتمع ما وتحكم توجهاته وتعاملاته مع قضاياه المختلفة, وهذه الثورة جعلت المجتمع مضطرا للتحلي بمجموعة من السمات الجديدة, منها أن يكون له عقلا متجددا لديه ما يستحثه علي البحث والمبادرة والإبداع, ومستقلا ذو حصانته ضد التبعية بجميع صنوفها, وجريئا يحترم ما لديه من تراث لكنه ينتفض عليه إذا ما دعت الحاجة دون أن يخسر ثوابته, ويعتمد ويقبل ويعي أهمية الاختلاف والتنوع, ويعتمد النظرة الكلية والمداخل متعددة الرؤي. تفتح هذه الثورات الثلاث بتفاعلاتها الكثيرة التي تلعب فيها تكنولوجيا المعلومات دورا محوريا الباب نحو بناء دولة حديثة بمواصفات مختلفة عن ما كان سائدا من قبل, وهنا نكون أمام الطرف الثاني من المعادلة, وهي أن أي من الأحزاب ممن أعلنوا ترشحهم للرئاسة لم يتحدث أو يبذل جهدا في معالجة القضية علي مستوي تغيير عقل الدولة الجديدة; لتصبح كل أعمالها مستندة للمعلومات والمعرفة بالمفهوم الذي تفرضه ثورة المعلومات. وأستطيع القول هنا إن غالبيتهم الساحقة لا تدري ولا تعلم شيئا عن الأمر أصلا, وقلة نادرة هي التي سمعت أو اهتمت به اهتماما ضئيلا لا يرقي إلي ما يتطلبه الأمر من أهمية, فقد تحدثت هذه القلة النادرة عرضا أو بخفة عن ضرورة بناء شركات القطاع وتخفيف مصاعبها المالية, أو استكشاف فرص جديدة للعمل والاستثمار في هذا المجال; ليكون قطاعا تصديريا, أو النظر إليه كقطاع لبعض النوابغ ممن يملكون أو يتحملون عبء الأفكار الجديدة علي مستوي الشركات الصغيرة والمتوسطة, أو يمكنه تحسين بعض الخدمات والمنتجات التي تقدمها بعض الأجهزة والمؤسسات بالدولة, أو به بعض السياسات التي تحتاج إعادة نظر كقانون الاتصالات مثلا. هنا بالضبط مبعث القلق الذي يقود إلي عدم الثقة فيما يصدر عن هؤلاء جميعا, مادام أفق تفكيرهم في ثورة الاتصالات والمعرفة منعدم أو يتوقف عند هذا الأفق الضيق المحدود الذي لا يتجاوز بأية حال ما كان النظام البائد يفعله عمليا ويتاجر به سياسا علي الشعب, أي أنه فكر فلول محض, لا يحمل أي من سمات الثورة ولا همة تغيير منهج التفكير والعمل ليسير في مسار آخر. إنني أطالب كل مسئولي الأحزاب السياسية ومن أعلنوا أو سيعلنون ترشيح أنفسهم للرئاسة أن يقدموا للشعب أفكارا وخططا محددة حول توظيف تكنولوجيا المعلومات في تخليص الدول المصرية من عيوبها التقليدية وأهمها أنها دولة: سلطوية هرمية البناء تتبع أسلوب إصدار التعليمات وتقديم الإرشادات الواجبة التنفيذ, ويخضع فيها المستوي الأدني للمستوي الأعلي والتلقي منه بلا مناقشة. تجعل من نفسها القلب أو المركز الذي يدور حوله ويستجيب له ويخضع له كل ما سواه, وتركز علي تحقيق ما تراه أو تضعه هي وإداراتها وهيئاتها من أهداف, بينما الشعب والمواطنين وأصحاب المصلحة والجمعيات والمؤسسات علي الهامش ويسودهم شعور بأن آرائهم لا يتم تقديرها والاعتداد بها. تركز علي الخطط والاستراتيجيات التي توضع لتخفيف الأعباء عن نفسها. تتغلب لديها ثقافة اعتقال المعلومات وحجبها علي ثقافة حرية المعلومات والإفصاح عنها. مستوي تفاعلها مع المواطنين وأصحاب المصلحة الآخرين منخفض ويركز علي التعامل مع الحدث بعد وقوعه كرد فعل, وتعاملاتها المباشرة مع المتعاملين معقدة بشدة وتفتقد التنسيق. تري مصدر القوة هو اللجوء إلي فرض الاستقرار من خلال جعل الهياكل والطرق التقليدية هي الأساس لمختلف العمليات والثقافات السائدة في العمل, ولذلك فإنه عند حدوث تغيير علي نطاق واسع أو المطالبة به يبدو ذلك في نظرها وكأنه انقلاب شامل. تبدو كالقلعة المغلقة علي أصحابها ونظمها, حيث يتم بداخلها فقط التعرف علي ما يجب أن تقوم به وكيفية القيام بذلك ومن ثم تقديمه بشكل مستقل. تسودها علاقات غير متكاملة وتتم علي أساس بيروقراطي بين الإدارات والمستويات المختلفة بداخلها. تميل إلي رفض التحديث والتعديل وتتهرب من المسئولية ويكون لمبدأ كبش الفداء تأثير قوي وفعال في بيئة العمل, كما تتسمك بأساليب العمل القديمة. وفي المقابل عليهم أن يقدموا للشعب أفكارا وخططا تشرح كيف يمكن توظيف تكنولوجيا المعلومات في بناء الدولة المصرية الجديدة بحيث تصبح دولة: تعاونية شبكية البناء وتعتبر أن مهمتها الأولي تقديم الخدمات ويقوم عملها علي التعاون في العمل بين جميع النظم القائمة ومشاركة الخبراء من الخارج. تركز علي تحقيق الأهداف المتعلقة بأصحاب المصلحة من الجمهور, بالإضافة لتحسين عملية تقديم الخدمات. ذات تفاعل عال مع مواطنيها, وتهتم برصد ردود أفعالهم وتركز علي أهدافهم ومتطلباتهم وتتعامل مع الأحداث قبل وقوعها بشكل يشجع علي المشاركة النشطة والتواصل الفعال. منصتة تجيد الاستماع لمواطنيها وتعتبرهم الأساس وتركز علي إرضائهم, وتسمح لهم بإدارة علاقتهم مع الحكومة بندية وعدل. توازن بين الحق في حرية المعلومات وتداولها ومقتضيات أمن وحماية البيانات والمعلومات وصيانتها. يقوم التواصل بين وحداتها علي نموذج اتصالات متكامل يستند إلي قيم وأخلاقيات المشاركة والتعاون في العمل والمبادرة. تتعامل مع الحدث قبل وقوعه وتبحث عن ابتكار طرق جديدة لأداء الأعمال وتقديم الخدمات بشكل أفضل وتبادر بإحداث التغيير واستيعابه بدلا من انتظار حدوثه ثم الاستجابة له. تري أن مصدر القوة هو امتلاك طرق وأساليب عمل وبنية تنظيمية تتسم بالمرونة وسرعة الاستجابة, وشكل مؤسسي يسمح بالتكيف مع التغييرات الشاملة والرئيسية واستيعابها بسهولة وبأقل قدر من تعطيل سير العمل. مفتوحة وقائمة علي التعددية والتنوع وتعتمد علي الآخرين كي يقدموا العون في عملية تقديم الخدمات. تعتمد علي رأس المال الفكري وعلي خبرة الموظفين وعلي أساليب عمل مرنة كنظام العمل عن بعد. تقبل بفكرة المخاطرة, وتدعم تحمل المسئولية والعمل وفقا لأساليب بتقديم المكافآت والحوافز للموظفين وتطبق أساليب عمل جديدة ومبتكرة تتيح التعامل مع المخاطر بشكل فعال إنني أضع هذه النقاط أمام كل حزب سياسي يقدم نفسه للجماهير, أو شخص أعلن أو سيعلن ترشحه للرئاسة ليجيب عنها, وإن كان لا يستطيع, فعليه أن يبحث ويدرس ويتعلم ويستعين بمن يعلم حتي يقدم إجابة واضحة, وأمامه خبراء بالعشرات في قطاع تكنولوجيا المعلومات بشرائحة المختلفة بالجامعات والوزارة والقطاع الخاص والمجتمع المدني ليساعدوه, أما من لا يقتنع أو لا يكترث بهذه القضية أو لا يستطيع أن يقدم فيها شيئا محترم, فهو بلا لف ولا دوران وبال علي الوطن والمستقبل, لأنه في هذه الحالة مجرد بوق يطلق فقاعات في الهواء لا قيمة ولا معني لها ولا علاقة لها بالمستقبل والبناء الجاد للدولة, بل تدفع الناس للتطاحن والتشاحن والشقاق, والنظر للخلف أو أقصي اليمين أو أقصي اليسار بخفة وسطحية, دون النظر للأمام بعمق وروية وجدية, فهل يا تري سنجد من بين الأحزاب أو المرشحين من يقدم شيئا ذا قيمة في هذه القضية أم سنفاجأ بأن الجميع فقاقيع هواء ضارة لا فائدة منها؟.. لننتظر ونر.