اشعر بالقلق كلما صادفت هجوما حادا غير موضوعي وبلا مبرر علي المجلس العسكري, ولكن اشعر بقلق اكبر عندما يداهمني نفاق رخيص مستهلك للمجلس يستجدي به صاحبه رضا قد يسفر عن منصب أو مكسب من أي نوع. . غير أن قلقي يتحول إلي خوف حقيقي عندما يصدمني احد أعضاء المجلس برد غاضب أو هجوم مضاد علي المنتقدين بينما يتجاهل محاولات التملق التي تسيء في الواقع إلي المجلس أكثر مما تفيده حتي لو لم يكن مسئولا عنها. المجلس العسكري, باعتباره القائم بعمل رئيس الدولة, لا يستحق الهجوم الجارح الذي يتعرض له أحيانا ولكنه في الوقت نفسه لا يحتاج إلي التملق البغيض الذي يعيد إلي الأذهان الصورة الكريهة للحاكم الإله. ما ينفع المجلس بالفعل ويجب أن يرحب به, لا أن يغضب منه, هو النقد الموضوعي الرصين الذي يبني ولا يهدم ويصوب مسيرته ويقوم أداءه ويبصره بأخطائه. الحكماء والكبار والأقوياء فقط هم من يمتنون لمن يهدي إليهم عيوبهم. قرارات المجلس التي تمس مصالح المواطنين ومستقبل الوطن يجب أن تكون موضعا للنقاش العام. وبالتالي فان نقد المجلس لا يصبح حقا فقط بل واجب علي وسائل الإعلام والمثقفين والقوي السياسية لمصلحة الجميع بما فيه المجلس نفسه. غير أن هذا لا يعفي القوي والنخب السياسية من تحمل جانب من المسئولية عن الكثير من الأخطاء التي يرتكبها الشباب أحيانا بدافع حماسهم أو لقلة خبرتهم أو غضبهم المشروع. للأسف الكثير من هذه النخب لم تطرح أي مبادرات ولم تقدم حلولا بل لم تتخل عن انتهازيتها حتي في أحرج اللحظات ظنا منها أن تملق الجماهير والمتاجرة بمعاناتها يمكن أن يكبسها رصيدا في الشارع. ومع ذلك فان الصمت في مواجهة قرارات المجلس وسياساته هو الخطيئة الكبري التي لا ينبغي أن يقترفها المخلصون لهذا الوطن. وغني عن القول التأكيد علي أهمية أن يتم ذلك في إطار الاحترام الواجب للمجلس والتقدير لجسامة المسئولية التي يتحملها وثقل العبء الملقي علي عاتقه وصعوبة الأوضاع التي تمر بها مصر. ومع ذلك فان الساكت عن الحق في هذا التوقيت ليس شيطانا اخرس فحسب ولكنه يساهم في إعادة إنتاج الديكتاتورية وتكبيل الحريات العامة بخطوط حمراء وهمية بينما الشعب اسقط إلي غير رجعة كل التابوهات أو المحرمات السياسية ولن يسمح بإعادة استنساخ مبارك. أعضاء المجلس العسكري هم أبناء هذا الشعب وجزء من نسيجه وبالتالي فلابد أنهم يفهمون ويتفهمون الظروف النفسية الفريدة التي يمر بها المصريون بعد30 عاما من تغول السلطة ووحشيتها وفسادها. ومن الطبيعي أن يكون لدي المواطنين خاصة الشباب حساسية مفرطة لأي بادرة يستشعرون منها تهديدا للديمقراطية الوليدة أو عودة لممارسات الماضي الكئيب. مساءلة الحاكم وانتقاده, وهو هنا المجلس العسكري, سلوك طبيعي من شأنه تبديد تلك المخاوف المشروعة. وقبول المجلس لهذا النهج الديمقراطي يبعث برسالة تطمين مفادها أنه لن يصبح فرعونا جديدا. للكاتب الروسي تشيكوف قصة بعنوان المغفلة تحفل بدلالات رمزية توضح أن ضعف الشعب وليس قوة الحاكم هو ما يخلق الديكتاتور, ويفجر منابع الشر في نفسه( أليس هذا قريبا جدا من تجربتنا مع مبارك). المغفلة كانت فتاة جميلة رقيقة تعمل مدرسة ومربية لطفلين. يستدعيها ذات يوم الأب أو سيد البيت ليدفع لها أجرها الذي منعه عنها أكثر من شهرين. يبلغها في البداية أن الاتفاق كان علي30 روبل فترد متلعثمة بأنه كان أربعين غير أنه يصر فتصمت يوليا وهذا اسمها. ترضخ أيضا عندما يتمسك بأنها عملت شهرين فقط بينما ذكرته بان المدة تزيد عما قال بخمسة أيام. بعد ذلك يتلو عليها سلسلة من الخصومات مرة مقابل أيام الآحاد حيث كانت تصطحب فيها الطفلين للتنزه ولم تعلمهما شيئا. وأخري مرضت فيها الابنة الصغيرة, واجر ثلاثة أيام شعرت فيها المربية بألم في الأسنان اثر علي أدائها. لم ينس السيد أن يحسب قيمة سترة الطفل التي تمزقت في الحديقة فلولا إهمالها ما حدث هذا. ثم ثمن كوب كسرته ومبلغ اقترضته رغم نفيها حدوث ذلك وأخيرا لايتبقي لها سوي13 روبلا من80 كانت لها. طوال هذا النهب المنظم لحقوقها ظلت يوليا المسكينة تذرف الدموع وتتألم بصمت ويتصبب العرق علي جبينها. وعندما تهم بالاعتراض يقمعها السيد بنظرة نارية أو صرخة مدوية فتغرق في داخلها مبتلعة رعبها المهول. وتقبل في النهاية بنفس محطمة ما قسمه لها السيد دون رغبتها. عبقرية تشيكوف انه لم ينه القصة عند هذا الحد فقد انتفض السيد الجبار الذي نكتشف انه كان يمارس لعبة مؤلمة مع الفتاة. ويصرخ في وجهها متسائلا: بحق الشيطان لماذا لم تتكلمي لقد نهبتك سلبتك سرقت حقك. لماذا لم تحتجي؟ هذه نقودك كاملة أعددتها منذ البداية ولكنني أردت أن ألقنك درسا قاسيا. في النهاية يختم تشيكوف قصته بعبارة بليغة موحية: ما أسهل أن تكون قويا في هذه الدنيا. ليست يوليا المسكينة هي وحدها من كان ينبغي له أن يستوعب مبكرا درس تشيكوف الحكيم. نحن أيضا كان علينا أن نتعلمه ونتذكره جيدا منذ وقت طويل لنوفر علي أنفسنا ويلات عانينا منها ودفعنا ودفع الوطن معنا ثمنا غاليا بسببها. المحزن والمفرح في آن واحد أن شباب مصر كانوا أسرع من شيوخها استيعابا للدرس, فهم من انتفضوا علي الظلم وفجروا الثورة. وليس من العدل ولا المنطق أن نلومهم عندما يخافون من سرقة الثورة أو يحتجون علي بطء للتغيير. هؤلاء الشباب أعادوا إلي مصر روحها وكرامتها واخرجوا أفضل وأنبل ما لدي شعبها من قيم وأخلاق ظننا أنها اندثرت. إنهم ببساطة يصرون علي أن يروا الدنيا بعيونهم هم ولا احد غيرهم. ولديهم الحق في أن يحلموا وان يحددوا صورة العالم الذي سيعيشون فيه. وهم لذلك ينتقدون المجلس العسكري وقد يبالغون في النقد والاحتجاج ولابد أن ذلك يغضب المجلس. بل اعرف جيدا أن هذا ما يحدث أحيانا ولكن تلك ضريبة الحكم. لا مفر من تحمل كل الآراء حتي ولو كانت قاسية فلا يمكن العودة لتجاهل صوت الشعب. ومهما تكن أخطاء الشباب ومهما اشتد جموحهم وتعالي صخبهم فنحن مدينون لهم. أليسوا هم من أخرجونا, بفضل من الله, من الظلمات إلي النور؟ المزيد من مقالات عاصم عبد الخالق