في واقعة لا يمكن تصور حدوثها خاصة إذا ما كان طرفاها من دارسي العلوم الدينية الإسلامية, ومع ذلك حدثت لتضيف مأساة جديدة في سجل مآسي السلوك السلبي للمتشددين والمتطرفين وأهل التزمت والجمود. وتتلخص الواقعة في اجتراء عدد من طلاب الأزهر علي الأستاذ الدكتور محمود حمدي زقزوق واتهامه بهدم الإسلام هكذا مرة واحدة لمجرد أنه قال إن الإسلام يبيح المصافحة بين الجنسين. رجل دين, قضي حياته في البحث والدراسة في مصر والخارج, وكتب عشرات المؤلفات والبحوث وأشرف علي مئات الرسائل العلمية, ومازال حتي الآن يحمل الرسالة كمسئول عن وزارة الأوقاف, وفي كل ما يكتب ويقول يعلم أن الله رقيب حسيب, وأن الكلمة أمانة ومسئولية سيحاسب عليها, كما يدرك أن دوره الرئيسي التعريف بالحقائق ومحاربة التطرف في ظل هذه الموجات المتتالية من الارهاب التي طالت أركان المعمورة. هذا الرجل يتهم بهدم الدين وكأن الدين هش ويمكن لاختلاط أو مصافحة أن تهدمه ومن الذي يوجه له الاتهام؟ مجموعة من الطلبة صغار السن الذين لم يتخرجوا بعد, والذين مازالوا عند بداية الطريق, هؤلاء الصغار يتطاولون علي أحد أساتذتهم, ويثورون في وجهه ويحتدون في مناقشته, ويقومون من أماكنهم بقاعة المحاضرات استعدادا لمغادرتها احتجاجا علي آراء الأستاذ. وبصورة أخري فإن هؤلاء الصغار لا يريدون علما أو نقاشا, يريدون فرض رؤيتهم وتصورهم لموقف الإسلام من الحجاب والنقاب والاختلاط والمصافحة وغيرها من القضايا علي الجميع وإلا فالاتهامات بهدم الإسلام جاهزة والرفض لكل ما يقال هو بضاعتهم. من كان يتصور أن يأتي يوم يظن الطالب فيه أنه أكثر علما من أستاذه؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا, تواصل الجامعات دورها؟ ولماذا يكون هناك علم ومعلم؟ لقد أخذ هؤلاء الناس علمهم أو رؤيتهم من قادة تيار التخلف والتشدد والتزمت والجمود, واقتنعوا أن ما أخذوه هو العلم وهو صحيح الدين وغيره باطل. ومن بين صفوف هؤلاء الذين تعرضوا لغسيل مخ كامل يخرج الإرهابيون ومن ينفذون العمليات الانتحارية. والمفارقة أنهم لا يدركون أن الأساتذة من أمثال زقزوق هم الأكثر علما والأكثر دراية بصحيح الدين, وأنهم عندما يقولون أو يكتبون لا يريدون إلا نشر الاعتدال وزيادة مساحة الضوء. والمفارقة الثانية, أن المملكة العربية السعودية, قد أنشأت أكاديمية عصرية تجمع بين الجنسين, وعندما اعترض شيخ من كبار علماء الدين الإسلامي علي هذا الاختلاط بين الجنسين, تقرر فصله من عمله وانتهي الأمر. أما أهل مصر, أهل الاعتدال والوسطية والعلم والاستنارة, فإنهم يهجرون نهجهم وسماحتهم ويأخذون منهج التشدد والتخلف والتزمت والجمود تحت ضغوط قوي لا علاقة لها لا بالدين ولا بالعلم ولا بالاستنارة ولا بالواقع ومثل هذه الواقعة التي لايمكن قبولها تكشف من جديد أن القضايا الرئيسية لهذا التيار تدور كلها حول الأنثي, النقاب والحجاب والاختلاط والمصافحة. وإذا كان المجتمع المصري قد تجاوز هذه القضايا منذ اكثر من مائة عام استنادا إلي ماانتجه تيار الاستنارة وعلي رأسه الشيخ الإمام محمد عبده الذي أوضح في اعماله أن النقاب والحجاب ليس من الإسلام وأن الاختلاط والمصافحة لايرفضهما الإسلام, وأن المجتمع الاسلامي الأول عرف الاختلاط والمصافحة. ولن نستشهد بقاسم أمين, ولكننا سنقول إن حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان المسلمين لم يفرض الحجاب علي أهل بيته. وطوال هذا القرن الذي ساد فيه الاعتدال لم نسمع أن شيخا للأزهر قد اعترض علي شيء مما كان سائدا في المجتمع المصري. فهل كان هؤلاء الشيوخ العظام ممن يهدمون الدين الاسلامي؟ أم أنهم سكتوا علي منكر ولم يعلنوا رأيهم؟. الحقيقة هي سيادة تيار الاعتدال والاستنارة الذي شمل الجميع أهل العلوم الدينية الإسلامية وأهل العلوم المدنية. وقد أتاح هذا المناخ للمجتمع المصري ان يواصل بناء نهضته التي بدأت في بداية القرن التاسع عشر, وأن يحقق نجاحات في مختلف الميادين وعلي كل الأصعدة. وكان من الممكن أن تواصل مصر مسيرتها النهضوية الناجحة, إلا أنها شهدت متغيرات جذرية أسهمت في انكسار هذه المسيرة وفي انتشار الشروخ في الجسد المصري. ومن هذه المتغيرات: * ظهور جماعة الاخوان المسلمين كقوة إسلامية سلفية لها تطلعات سياسية تتضمن رفض الدولة المدنية والعمل من أجل دولة دينية, ورفض مبدأ الوطنية سعيا وراء دولة خلافة تضم كل العالم الاسلامي. اي انها بدأت وعملت من أجل تقويض الدولة الوطنية, كما أنها سعت بكل قوة لإزاحة نهج الاعتدال الاسلامي لصالح فكر متشدد وجامد ومتزمت. * انتشار الفكر السلفي علي أيدي مجموعة سلفية أسستها جماعة حملت اسم جماعة انصار السنة المحمدية عام1925 أي أن الجماعتين المتشددتين ظهرتا الي الوجود في وقت متقارب السلفية عام1925 والاخوان عام1928. وبالرغم من التباعد بينهما فإنهما يقفان في نفس المربع الداعي للنقاب والحجاب ورفض الاختلاط بين الجنسين والمصافحة وقد ميزهما الالتزام بالشكل دون المضمون. * بدء التأثر بفقه البداوة الذي أنتجته الصحراء العربية في شبه الجزيرة. وأسهم بشكل رئيسي في هذا التأثير انكسار مسيرة النهضة المصرية وزيادة عائدات البترول بشكل يسمح بتمويل الجماعات التي تتبني هذا الفقه وخروج المصريين للعمل في دول شبه الجزيرة وتأثرهم بعادات وتقاليد أهلها. * الهزائم العسكرية المتتالية, وانكسار النظام الناصري وبما أدي إلي بعث الحياة في صفوف هذه القوي, ولجوء السادات الي هذه القوي للحد من نفوذ القوي اليسارية خاصة بين طلبة الجامعات. وفي النهاية دفع ثمن هذه الخطوة.. المزيد من مقالات عبده مباشر