في البداية أتمني ألا يكون هذا المقال بمثابة كرسي في الكلوب لكل من هلل أو شارك أو تحمس أو هتف لرئيس الوزراء التركي رجب أردوغان أثناء زيارته لمصر. فزيارة أي رئيس أو زعيم أو مسئول لبلادنا محمودة طالما هدفها صالح بلدينا, وتركيا بلد أقليمي كبير وعظيم, ومازالت تربطنا بشعبها صلات نسب ومصاهرة وروابط دم ويجمعنا الدين الإسلامي. كما أن هذه هي الزيارة الرسمية الأولي من نوعها لرئيس وزراء تركي منذ15 عاما, وكان من الطبيعي أن يرحب بها بشدة علي المستويين الرسمي والشعبي, لكن ترحيب القوي السياسية بالزيارة- خاصة تيار الإسلام السياسي- بالغ كثيرا سواء في الترحيب بها أو في استشراف تأثيرها, ومن ثم حشد لها أنصاره الذين رددوا الهتافات الداعية إلي إحياء الخلافة الإسلامية, وتوحيد المسلمين وإذلال إسرائيل تحت زعامته, وبلغ ببعضهم الشطط إلي حد تشبيهه بصلاح الدين الأيوبي,ومن نماذج هتافاتهم عند قدومه أفرحي يا فلسطين.. أردوغان صلاح الدين او مصر وتركيا خلافة إسلامية ولكن بعد تصريحاته الإيجابية عن علمانية الدولة, انقلبوا عليه تماما وقال بعض منظريهم إن التجربة التركية لا تصلح لمصر.. وفي الحقيقة ضايقني هذا الموقف من قادة فصائل الإسلام السياسي في بلدنا.. فمن الواضح أن بعضهم لا يعلم شيئا عن تركيا الحديثة أو يتجاهل عن عمد مجريات الأمور السياسية هناك.. فزيارة أردوغان إلي مصر والشرق الأوسط غرضها الأساسي أن تصبح تركيا هي القوة الأقليمية الأولي في الشرق الأوسط, وعند زيارته هذه فوجئ بفصائل من الناس تدعوه لخلافة المسلمين, ولأنه شخص عاقل سارع بالرد بأن تركية دولة علمانية, وأن هناك فرقا بين علمانية الدولة وعلمانية الأفراد, لأنه حسب الدستور التركي لو خالف هذا الرأي سوف يقال فورا من منصبه كرئيس وزراء ويحل حزبه العدالة والتنمية, وهنا ثارت عليه ثورة عارمة تلك القوي التي تدعوا نفسها بالإسلامية, واعتبروه شيطانا حتي أن د. عصام العريان كتب عن تجربه أردوغان بأنها خير دليل علي اخفاق العلمانية, أما المتحدث الرسمي للأخوان دعاة الخلافة الإسلامية العثمانية فقد صرح بأن تجارب الدول لا تستنسخ وقد أدهشتني كثيرا فكرة استنساخ الخلافة العثمانية التي يحلمون بها ليلا ونهارا, فهل لم يقرأ أحد هؤلاء المفكرين كتابا واحدا في التاريخ ليدرك التدهور الذي أصاب أمتنا العربية كلها من جراء هذه الخلافة, فهذه الخلافة التي طوتنا تحت أقدامها طيلة أربعة قرون كانت السبب المباشر في تدهور أدبنا ولغتنا واجتهادنا الفقهي والفلسفي لقرون طويلة, كما أنها سرقت أموالنا ومقدراتنا وكنوزنا بضرائبها ومكوسها وظلمها, وياليتها اكتفت بذلك لأنها خطفت عمالنا المهرة في كل الصناعات والحقتهم بالإستانة عاصة الخلافة آنذاك, وورطتنا في حروب وصراعات, وتركتنا نهبا لسوء التغذية والأمراض لدرجة أن عدد سكان مصر في بداية الخلافة الإسلامية العثمانية كان يتراوح بين14 و20 مليونا وبلغ قبيل محمد علي مليونا وربع مليون كتاب المدينة العربية- جمال حمدان فعن أي خلافة يتكلمون ويحلمون! أما الذي يحيون أردوغان علي موقفه من استشهاد تسعة مواطنين أتراك أثناء اجتياح السفينة ما في مرمرة التركية وهي في طريقها إلي غزة قبيل أكثر من عام, أقول إن موقف اردوغان يمكن اعتباره موقفا خطابيا بلاغيا أكثر من اعتباره موقفا متشددا, لأنه بعد طرد السفير الإسرائيلي من تركيا وطلب منها الأعتذار ودفع التعويضات المناسبة وأوقف التعامل العسكري بين تركيا وأسرائيل, بينما موقفنا الرسمي والشعبي عند استشهاد خمسة من الجنود المصريين بنيران إسرائيلية كان أقوي وأشد, فقد طالبنا رسميا بتفسير وتحقيق واعتذار والموقف الشعبي تسبب في أبعاد السفير الإسرائيلي عن القاهرة, بينما لم تعتذر إسرائيل لتركيا عن حادث السفينة مرمرة وقال نتنياهو لن نعتذر عن شئ فعلناه صوابا والأمم المتحدة تقر ما فعلناه.. وبأي منطق ننتظر من تركيا أن تتبني مواقفنا الوطنية ضد الإحتلال الإسرائيلي, وتركيا تتعاون مع اسرائيل عسكريا, وشاركت بفاعلية شديدة في بناء حائط الصواريخ درع الناتو الصاروخي الذي هو موجه في الأساس ضد إيران وروسيا وضد أعداء تركيا( سوريا والعراق) وقد يوجه إلي مصر إذا دعت الحاجة! ومن المعلوم أنه لا يمكن لتركيا الإستعانة به في مواجهة مع إسرائيل. رجب طيب أردوغان رجل طيب فعلا, فقد قال في حوار مع الكاتب الكبير فهمي هويدي إن بلاده اشترت من إسرائيل طائرات جديدة بدون طيار ودفعت ثمنها كاملا وبعد فترة احتاجت هذه الطائرات إلي صيانة فتم إرسالها إلي اسرائيل لإجرائها, وبعدما تمت الصيانة المطلوبة رفضت إسرائيل إعادتها واحتجزتها عندها حتي الآن, والله لو احتجز أحد التوكيلات سيارة مواطن منا بعد أن دفع المطلوب منه, لأحال حياة صاحب التوكيل جحيما حتي يتسلم سيارته. في الحقيقة أن أردوغان حضر إلينا ليبيع لنا مواقفه السياسية مقابل منح المنتجات التجارية للشركات التركية فرصة أكبر في السوق المصري, بدليل أنه جاء ومعه حوالي200 رجل أعمال تركيا علي نفس طائرته يمثل غالبيتهم شركات تنتج الأجهزة الكهربائية والسيارات والأثاث, ومعه أيضا12 إتفاقية تجارية لتوقيعها من السيد عصام شرف. وهذا لا غبار عليه بشرط أن يكون التبادل التجاري في اتجاهين, وأن يعطي منتجاتنا الفرصة في الوجود بالأسواق التركية, وإن يكون هناك اتفاق علي الغاء الفيزا بين البلدين ويفعل في الاتجاهين, واتمني أن نقتدي نحن بانجازات أردوغان التي أدت إلي رفع الدخل القومي لبلاده,وبالتالي دخل الأفراد ثلاثة أضعاف في مدي أقل من10 سنوات, وأن ننتهج مثله الحياة الديمقراطية, ونحافظ علي الحرية الشخصية للمواطن, وأن نرفع مستوي منتجاتنا حتي تصل إلي مستوي القياسات العالمية, وأن ننتهج سياسات خارجية ناجحة كما انتهجها مع دول كثيرة علي رأسها دول وسط آسيا وأدت إلي تدفق سياحي كبير نحو تركيا.. هذا ما نريده من اردوغان..لا نريد سلطنة ولا سلطانية,ولا أن يقتحم وزاراتنا ومؤسساتنا بحراسه المدججين بالسلاح كانه اوباما ولا نريد منه بلاغة وأدبا.. نريد معاملة الند للند. المزيد من مقالات مكاوى سعيد