من المعروف أن تطوير التعليم في أي دولة هو العلامة الفارقة التي تشير إلي رغبة مواطنيها الملحة في التقدم, ورغم أن كل أفراد مجتمعنا متفقون علي هذه القضية الخطيرة. خاصة بعد ثورة25 يناير التي ولدت لدي شعبنا رغبة عارمة في التغيير والتقدم فإن أحوالنا تشير إلي عكس ذلك; فقد توقفت عجلة تطوير التعليم الثانوي بعدما بذل فيها جهد كبير خلال الأعوام السابقة وصل حد أن تم وضع خطة قومية للتنفيذ والتدريب, فضلا عن الانتهاء من وضع الخطة الدراسية والمحتوي العلمي للمقررات!! أما التعليم العالي فحدث ولاحرج, فبعد أن قطعت بعض الجامعات والكليات شوطا كبيرا في تأسيس نظم الجودة والاعتماد ووضع الخطط للتقدم الفعلي للاعتماد توقف كل ذلك تقريبا نتيجة عدم وجود اعتمادات وعدم الإعلان عن أي خطوة جديدة للتقدم في هذا الاتجاه. وهانحن نبدأ عاما دراسيا جديدا في ظل عدم استقرار واضح وتحت شعار انتخاب القيادات الجامعية تم تأجيل الدراسة مما ينبئ بخطر جسيم علي مستقبل هذا العام الجامعي الذي كنا نتمني أن يكون بداية الانطلاق نحو مرحلة جديدة واعدة لإصلاح التعليم الجامعي فإذا به يبدأ بتأجيل الدراسة وتوقف الحال داخل الكليات والجامعات انتظارا لانتخاب القيادات الجديدة وبدا الأمر وكأننا اختزلنا تطوير التعليم العالي في قضية واحدة هي قضية هل نبقي علي القيادات الجامعية حتي انتهاء مدتها أم نعزلهم جميعا ونختار غيرهم عن طريق الانتخاب؟, وهل الأصلح أن ننتخبهم انتخابا مباشرا أم عن طريق مجمع انتخابي منتخب ليختار هو عمداء الكليات وكذلك رؤساء الجامعات؟. إن هذه القضية أيها السادة التي طفت علي السطح وانشغل المجتمع الجامعي بها أدت إلي وقف الحال الذي نحن عليه الآن, حيث سيبدأ العام الدراسي الجديد دون أي استعدادات حقيقية انتظارا للقيادات المنتخبة وكأنها ستأتي بما لم يأت به الأوائل!! لقد قادنا البعض إلي التمحور حول هذه القضية, لدرجة أنني قد بدأت أشعر بأنها مسألة مقصودة لضرب استقرار الجامعات والكليات في مقتل, ولوقف عجلة التقدم العلمي الذي كانت تشهده بعض كلياتنا وجامعاتنا للدرجة التي ارتقت معها جامعة القاهرة إلي مصاف الجامعات العالمية ودخلت التصنيف العالمي محققة ترتيبا متقدما نوعا ما, حيث وصلت إلي المرتبة403 علي مستوي جامعات العالم. وهذا الترتيب قد حققته الجامعة بإدارتها الواعية وباحثيها الواعدين وبالنشر العلمي العالمي الذي ازدهر فيها نتيجة الميزانيات الضخمة التي رصدتها الجامعة لتطوير البحث العلمي ودعم الباحثين سواء كانوا من الأساتذة أو من الهيئة المعاونة. لقد توقف كل ذلك في انتظار جودو, وجودو هذا هو القيادات المنتخبة فور انتهاء الجدل حول طريقة انتخابها!! أيها السادة المجادلون والمترقبون والمشتاقون إنه لا أحد يختلف الآن حول ضرورة الانتخاب الديمقراطي الحر كأسلوب حياة للمجتمع كله وكان يمكن أن تحل قضية انتخاب عمداء الكليات بسطر واحد يصدر عن وزارة التعليم العالي دون أن ندخل في كل هذه الدوامة المفزعة التي أخرت بداية العام الدراسي, لقد كان ممكنا أن يتم انتخاب عمداء الكليات وفقا للطريقة التي كان يتم بها ذلك من قبل من خلال مجالس الكليات وأساتذتها. وكان يمكن ببساطة أن يختار هؤلاء العمداء المنتخبون من بينهم رئيس مجلس الجامعة إلي أن يتم إصدار قانون جديد لتنظيم الجامعات ولتطوير التعليم العالي. إن المرحلة الانتقالية التي يمر بها مجتمعنا عموما ومجتمعنا الجامعي علي وجه الخصوص مرحلة ينبغي أن نسعي فيها إلي الاستقرار بأقل الخسائر حتي يمكن للجميع أن يندفعوا ويتوحدوا لإقامة نهضة حقيقية علي أرض الوطن. والنهضة الحقيقية تقودها الجامعات بأساتذتها وباحثيها وهؤلاء لن يستقر بهم الحال ويتفرغوا لإحداث النهضة العلمية المنشودة إلا عبر التركيز علي البحث العلمي, والبحث العلمي يحتاج إلي ميزانيات ضخمة وإدارة واعية بأهميته في الجامعات ومراكز البحوث. وهذا وذاك لن يتأتي إلا في ظل قانون جديد تماما ينظم العمل داخل الجامعات ومراكز البحوث. وقد كان الأجدر بنا بدلا من هذا الجدل حول قضية جزئية هي قضية القيادات الجامعية وطريقة اختيارها أو تعيينها أقول كان الأجدر بنا أن نركز علي وضع قانون جديد تماما يحل المعضلات الملحة والخطيرة التي تعوق تطوير التعليم العالي والتي منها مثلا قضية القبول بالجامعات وكيف يمكن التوصل إلي حل لمعضلة إتاحة التعليم العالي لكل من يرغب فيه مع ضرورة الحفاظ علي جودة هذا التعليم وتحسين بيئة العمل الجامعي, ومنها أيضا قضية الدخول المتدنية التي أصبحت عائقا حقيقيا يعوق استقرار الأستاذ الجامعي ويشغله عن مواصلة البحث العلمي مع ما يتطلبه ذلك من الإنفاق الضخم الذي لم يعد بمقدور أي عضو من أعضاء هيئة التدريس تحمله. ومنها كذلك قضية الزملاء من الهيئة المعاونة أولئك الذين لايزال ينظر إليهم في ظل القانون الحالي علي أنهم موظفون يعاملون معاملة الموظف في الجامعة ويهدد مستقبلهم دائما عوامل شتي في حين أنهم يمثلون مستقبل الجامعات ومستقبل البحث العلمي ومن ثم ينبغي أن ينظر إليهم علي أنهم- حسب الاصطلاح الأرسطي الشهير أساتذة بالقوة ويتحولون إلي أساتذة بالفعل بمجرد حصولهم علي الدكتوراه والترقي في سلم البحث العلمي داخل الجامعة. ومنها كذلك قضية بيروقراطية الإدارة الجامعية وعدم استقلالها عما يسمي بالمجلس الأعلي للجامعات, ذلك المجلس الذي ينبغي أن تتقلص سلطاته, تلك السلطات التي أصبحت في اعتقادي ذات تأثير سلبي خطير علي تطوير التعليم الجامعي, حيث يتحكم في عجلة هذا التطور بإدارته الملزمة لكل الجامعات للدرجة التي لا تستطيع أي كلية ولا أي جامعة أن تطور أي شيء بداخلها خاصة في مجال اللوائح الدراسية وبرامجها إلا بعد أخذ موافقات قد لا تأتي إلا بعد أن تتجاوز التطورات العلمية المتلاحقة هذه اللوائح وتلك البرامج!! إن سلطات هذا المجلس جعلته مسئولا عن جمود التعليم الجامعي وتنميطه داخل كل الجامعات, بينما الاستقلال الحقيقي للجامعات ينبع من مسئوليتها عن تطوير برامجها وتحديثها كلما لزم الأمر وتحديد طرق اختيار قياداتها وطرق تمويل برامجها الجديدة وهكذا... إن الإنطلاقة الحقيقية للتعليم الجامعي في مصر تبدأ من وضع قانون جديد يزيل هذه العوائق أمام تطويره ويؤكد من جديد علي مكانة الأستاذ الجامعي ماديا ومعنويا ويؤكد من جديد استقلالا حقيقيا للجامعات, فلا توجد سلطة أعلي من مجلسها الذي يصبح هو المسئول عن كل شئونها طالما لا تخالف أي بند من بنود الدستور الدائم للبلاد. نحن بحاجة لقانون جديد يزيل هذه الحواجز المصطنعة بين الجامعات الحكومية والجامعات الأهلية والخاصة بحيث يتيح لها جميعا أن تطور من ذاتها ومن برامجها بدون أي قيود خارجية,. ولتتم محاسبة مجالسها ورؤسائها من خلال مجلس أمناء كل جامعة ومن خلال المجتمع الذي تخدمه, ووفق قانون جديد يعبر عن أمل شعب بأكمله في أن يري جامعاته في أحسن حال, ويري أن أبناءه يتعلمون وفق أحدث النظم العالمية وقادرون علي المنافسة والإبداع. فهل يمكن أن يتحول النقاش الدائر الآن في المجتمع الجامعي إلي قضية القضايا في تطوير التعليم العالي وهي صياغة هذا القانون الجديد الذي يمكننا أن ننتقل من خلاله إلي جامعات مستقرة وقادرة علي المنافسة العالمية وإحداث النهضة المنشودة في وطننا الغالي؟. أتمني ذلك قبل أن يجرفنا تيار المصالح والأهواء والجدل الفارغ ويضيع عامنا الدراسي الجديد في خلافات ومجادلات ومظاهرات دون أن نحقق شيئا لوطننا ولجامعاتنا. المزيد من مقالات د. مصطفي النشار