كان بروكروست حدادا وقاطع طريق ورد ذكره في الأساطير اليونانية, وقد كان يدعو المسافرين الذين يمرون علي موضع إقامته إلي قضاء ليلتهم في بيته, ومن كان يرفض ذلك كان يخطفه ويجبره علي أن يمضي الليلة في ذلك البيت عنوة. وخلال الليل كان بروكروست ينظر إلي جسد ذلك النائم, فإذا وجد أن ساقيه أطول من حجم السرير كان يبترهما, أما إذا وجد جسد النائم أقصر من حجم السرير فإنه كان يقوم بمط ذلك الجسد ومده وشده بعنف حتي تتفكك أوصاله, وتتمزق أعضاؤه, وهكذا يصبح بعد أن يموت صاحبه ألما وعذابا متوائما مع حجم السرير. وتقول تلك الحكاية كذلك إن أحدا من ضيوف ذلك اللص لم ينج من أفعاله الشنيعة, تلك, وإن جسدا من تلك الأجساد التي نامت علي سريره لم يتناسب قط معه, بل ويقال كذلك- في صورة أخري من تلك الحكاية- إنه كان يملك سريرين: أحدهما صغير, وقد كان يدعو إليه ذوي الأجساد الطويلة, ثم يبتر ذلك الطول الزائد من أجسادهم, أما الآخر فكان طويلا, وكان يدعو إليه ذوي الأجساد القصيرة, ويدفعهم دفعا إلي النوم فوقه, ثم يقوم بعملية شد أجسادهم ومطها وتطويلها حتي تناسب- بعد أن تتفكك وتتمزق مزقا وأشلاء حجم ذلك السرير. هكذا كان لا بد في الحالتين من تطويع أجساد الضحايا لسرير بروكروست, وبالأحري لتلك الفكرة التي في عقله عما ينبغي أن يكون عليه جسد الإنسان وطوله, وبصرف النظر عما يلحق بتلك الأجساد وأصحابها من تمزق ودمار وموت. هكذا استمر بروكروست في غيه وتسلطه, مواصلا سيرته المخيفة, وسلوكه المرعب, حتي ظهر تيسيوس الملك المؤسس لمدينة أثينا, فأسره ثم نقله إلي تلك المدينة العظيمة التي أسسها, وهناك وضعه فوق سرير آخر, وأمره أن يتواءم جسده معه, وأن يكون جزاؤه من جنس عمله, وهكذا استمر يعذب فيه ويذكره حتي انتهت تلك العملية بقتل بروكروست نفسه, والتخلص منه. ومرت آلاف السنين علي تلك الأسطورة والحكاية, لكن مغزاها ظل يتردد بين جنبات الفكر الإنساني علامة دالة علي ذلك المكر السيئ الذي يحيق بأهله, وكذلك علي ضيق الأفق والتعسف, ومحاولة البعض منا إجبار الآخرين قسرا علي الانصياع لأفكارهم وتصوراتهم الضيقة; وذلك حين يكون الأمر المهم لديهم هو ترتيب الأوراق أو تستيفها لصالحهم حول الواقع والوجود والحياة. فمثلا, استخدم كاتب القصة الأمريكي إدجار آلان بو (1809 1849) مغزي هذه القصة للإشارة إلي فصيل من المحققين أو التحريين السريين يلجأ أصحابه إلي أساليب جامدة متصلبة واضحة الفشل, تعتمد علي التلفيق والتوفيق, واعتساف الحقائق خلال محاولاتهم كشف ألغاز بعض الجرائم, في حين يكون الحل الصحيح واضحا ماثلا أمامهم, لكنهم لا يرونه. وكذلك استخدم الفيلسوف الفرنسي المعاصر جاك دريدا (1930 2004) هذه الاستعارة الخاصة ب سرير بروكروست- أيضا- للإشارة إلي ذلك الجفاف الخاص بالمنهج البنيوي الشكلي, ومحدوديته في الكشف عن أعماق بعض الأعمال الأدبية العظيمة, وبيان ثراء عوالمها وخصوبتها. أما في العلوم الاجتماعية فقد نستخدم هذه الاستعارة للإشارة إلي ذلك النوع من التفكير الضيق, الاعتسافي, الاستئصالي الذي يحذف بعض جوانب الحقيقة, أو يضيف إليها ما ليس منها كي تتفق مع قالب معين جاهز معد سلفا, يراه أصحابه وحده الصحيح, ويهملون هكذا أشكالا شتي من التنوع والتباين والاختلاف, تتبدي بالضرورة, في أفكار الناس ومعتقداتهم, وانفعالاتهم, وشخصياتهم, وطرائق سلوكهم, وأحلامهم, ومخاوفهم, وخلفياتهم الثقافية والدينية والإنسانية عامة. هكذا يمارس بعضنا عنفا رمزيا أو بدنيا, واستبعادا وبترا لبعضنا الآخر; وذلك كي يصبح الواقع مهما تكن جسامة الخسائر متفقا مع سرير بروكروست الذي في أذهانهم, ورؤاهم كصورة نمطية جامدة واحدة حول ما هو كائن, وحول ما ينبغي أن يكون. هكذا يمارس بعضنا عنفا رمزيا وبدنيا نحو الآخرين المختلفين عنهم في الدين, والانتماء الفكري والسياسي, والجنس (ذكورا إناثا). وإنه مثلما كان النظام السابق يمارس عنفا رمزيا وبدنيا واضحا من أجل جعل الواقع متفقا مظهرا وجوهرا مع سرير بروكروست الخاص بالفساد والتوريث, فكذلك نري اليوم قوي وألوان طيف السياسة المصرية كافة وهي تمارس أشكالا مختلفة من العنف الرمزي, وكذلك البدني أيضا الذي كان يمارس عليها في الماضي نحو من لا يتفقون معها في توجهاتها وتصوراتها, أو مع سرير بروكروست الضيق, الخاص بكل منهم. هكذا يعاد إنتاج ذلك السرير المخيف مرة بعد أخري هكذا يعوق ذلك السرير الوطن في طريقه نحو التقدم, هكذا يقوم كل فصيل بمحاولة إعادة تشكيل مصر أو ثورتها الأخيرة في ضوء تصوراته المحدودة فيجعها علي مقاس ماض لا يمكن أن يعود كما كان, أو تصورات إيديولوجيه لا يمكن أن ينطبق تصورها أو مفهومها أبدا مع معطيات الواقع المصري الحديث المتجدد المتدفق الطامح نحو مستقبل واعد وجديد ومأمول ومغاير. إن السرير- عامة- قد يكون مكانا للهدأة والاسترخاء والراحة, وموئلا للأحلام, قد يكون موضعا للقلق والأرق والتقلب, أو ساحة للهلاوس والهواجس والكوابيس والأحزان. لا تفرضوا سريركم علي مصر, لا تجعلوها تنام علي أسرتكم, سواء تلك التي تضيق بها, أو تلك التي تتسع عنها, لا تمزقوا جسدها أو تبتروا أوصالها, فمصر أكبر من أي سرير, وأعظم من كل فصيل. مصر ليست سريرا يا سادة, مصر حديقة ينبغي أن تتسع للجميع, والكل مدعو إلي الإسهام في جعل أشجارها تنمو, وزهورها تتفتح, وطيورها تغرد. اجعلوا مصر حديقة جميلة مبدعة مشرقة متفائلة عفية وبهية, اجعلوها حديقة زاهرة مزدانة بالورود والرياحين, اجعلوا أنهار الخير الجارية منها تتدفق وتتدفق, وأشجار النخيل والأعناب والفاكهة من كل نوع تزهر وتثمر وتتألق. لا تجعلوا أشواكها تنمو وتتمدد, وقنافذها تصحو وتتوحش, لا تدفعوها يمينا أو يسارا, لا تجعلوها دينية فقط, أو علمانية فقط, اجعلوها مدنية عصرية, والدين مكون جوهري دافع لها نحو الأمام, لا نحو الخلف. دعوا خيالها يتألق, وإبداعها يتوهج, وإحساسها بالخير والعدل والجمال يسود, دعوا أبناءها يسعدوا, واجعلوا مستقبلها يولد الآن. المزيد من مقالات شاكر عبدالحميد