في الحياة هناك بشر تبعث بهم الأقدار مبشرين بقيم جديدة, جاءوا إلي الحياة ليزيدوا الحياة حياة! الصمت عندهم لحظة من لحظات الكلام! صمتهم له صوت آخر! واذا تكلموا فبصوت مشرب بالعزم, وبملامح فيها شيئا بهيا, متألقا كالمجد! أتحدث عن أحد أعظم أساتذة الصحافة علي مدي تاريخها الذي نضئ اليوم في عمره المديد شمعة لا تنطفئ! في مثل هذا اليوم كانت الصحافة المصرية علي موعد مع لحظة خلاقة لها ضوء مشع, طالما طال انتظارها, لم يفطن الكثير من الذين شاهدوها أن القدر ظل يحتفظ بها في أكفأ خزائنه حتي استطاعت أن تنقر قشرة الوعي مطالبة بحقها في الميلاد!أتحدث عن الأستاذ محمد حسنين هيكل, أحد القلائل الذين اصطفتهم اللغة, وأفضت له بأسرارها, ليعلن رأيه في الحياة, ويسهم في عودة الوعي, وايقاظه, وخلقه في نزاهة العقل وأناقته, وأمانة الحس ورهافته, وسلامة القصد واستقامته, وشموخ الروح وشجاعتها! الكلمة هي وطنه الحقيقي, وموطنه الأصلي, يقف من حرمتها, وشعائرها موقف الخاشع, فهي الوسيلة التي بعث بها الله الي رسله, وهي أقدم الكائنات الفنية الحية! وأما الكتابة عنده فهي وجود آخر داخل الوجود! الكتابة عقيدة, وعمل من أعمال العبادة له طقوس, وأعراف مراسيم! والفكرة عند الأستاذ لها شذي, وصدي, ومنطق, ينقلها بحروف مشغولة من الحلي بأسلوب لا يباري, قوي في غير عنف, هادر في غير صخب, خلاق في غير ادعاء! تهزنا عاطفة الاعجاب حين نقرأه, وحين نسمعه, فنحاول أن نتدبر طريقه لترجمة الصدي, قبل ترجمة الصوت! وعندما ترفع الأيام حصارها عن النبوغ, وحين يتيح التاريخ للأجيال قراءة تجربة حياة هذا المفكر, سوف يتبين لنا بوضوح, أنه استطاع أن يؤسس لعصر من الاستنارة, حين هيأ المناخ, وعمل علي ضبط درجة حرارة الابتكار حتي يتسني لهذا العنقود المضئ من الشوامخ, وأصحاب القامات, والمقامات الفكرية الرفيعة أن يرسلوا ضياءهم فوق رؤوس الأجيال! ورأي أن الصحافة في صميمها, تاريخ تحت الطبع, وأن الصحفي قلم يتسلح بالنور, وليس مقعدا! وفي عملية بناء المعني يأتي وضع النقط فوق الحروف في آخر مرحلة, لكي تضع اللمسات النهائية للبناء! وهو صاحب ابتكار لغة جديدة في الصحافة, ذلك حين استطاع أن يعقد قرانا لغويا بين المصطلح السياسي, والتعبير الأدبي, صيغة لم تشهدها الصحافة المصرية إلا مع مقاله الأشهر بصراحة الذي ينهض علي التحليل العنقودي للوقائع والأحداث! ويشهد التاريخ أن الأستاذ محمد حسنين هيكل كان تيارا بمفرده, حين تصدي لهذا الهجوم الضاري علي المعني, الرافض لنشر رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ, وأصر علي نشر الرواية كاملة علي صفحات الأهرام في سلسلة متتالية الحلقات, وكذلك بنك القلق لتوفيق الحكيم, انتصارا لحرية الفكر!. كما حرص الأستاذ علي أن يجعل من الأهرام المبني, صورة رائعة من صور الأبهة المعمارية, والمنطقية معا, وهكذا عرفت هذه الفترة بسنوات الوهج, التي يفقد فيها الإنسان إحساسه بالزمن, وهو يقرأ لهذه المجموعة الضوئية من الكتاب والمفكرين والشعراء, توفيق الحكيم وملكة الحوار, وسلاسة العبارة, زكي نجيب محمود ورؤية تؤمن بالعلم فلسفة وأسلوب تحليل للظاهرة, نجيب محفوظ وشخصياته الخالدة, ويوسف إدريس وقصصه القصيرة التي تنهض علي المونتاج الروائي, وكتابات لويس عوض النقدية التي لها ملمس الشوك, والايقاع السائل في لوحات صلاح طاهر, والعشق الأبدي عند صلاح جاهين بين الريشة والقلم, ومصاحبة حسين فوزي في رحلات السندباد القديم, والحروف الخاشعة والكلمات الضارعة عند بنت الشاطئ, والعبارة المقمحة, الملتحمة عند لطفي الخولي, عصر من البناء, بناء الأفكار, وصياغة الآراء! الكلام عن الأستاذ يمتد, وصفحات البحث, والوثائق, والأوراق لا تنتهي, ومعه سنظل نعيش أياما لا تمحوها أيام! تحية لأستاذ لم يختر عصره, ولكنه صاغ بقلمه إرادة عصره.