جاء القرار الكاشف الذي اتخذته الجمعية العمومية لمستشاري مجلس الدولة برفض تعيين القاضيات بالمجلس متأخرا جدا ليكشف لنا جميعا الحقيقة المؤلمة حول الوهم الذي عشناه طويلا متصورين أننا نحرز تقدما في درجة ايمان المجتمع المصري بأهمية دور المرأة واحترام إسهاماتها الموضوعية التي ما انفكت تقدمها لصالح وطنها في كل مناحي الحياة. وبفرض أننا قد جانبنا الصواب في تقديرنا المتفائل لمدي ما تحقق من تقدم علي مستوي رجل الشارع من حيث ايمانه بهذا الدور وقيمته فاننا دون شك قد اعتقدنا أن بعض النجاح, ولو كان نسبيا, قد تحقق في دوائرالطبقات المثقفة والنخب القائدة لمسيرة النهضة والتقدم والتنوير في مجتمعنا العزيز, ويأتي بطبيعة الحال علي رأس تلك النخب سدنة العدالة وحراس القانون, مستشارونا المبجلون ذوو المنزلة الرفيعة في كل مؤسساتنا القضائية التي نفخر بأنها تضم بين جنباتها رمزا متميزا مثل المستشارة تهاني الجبالي, نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا اضافة الي أكثر من ثلاثين قاضية تقمن بأداء مسئولياتهن المقدسة تجاه تحقيق العدالة بكل كفاءة وموضوعية واضعات نصب أعينهن الالتزام الصارم بتقاليد مؤسسة القضاء العريقة ومن نافلة القول التأكيد مرة أخري علي ما سالت بشأنه أنهار المداد حول الحقوق الراسخة للمرأة وما تتمتع به من مكانة رفيعة داخل وخارج منزلها علي حد سواء وذلك في ضوء ما نصت عليه الشرائع السماوية خاصة الدين الاسلامي الحنيف, فمثل هذه القضايا قد قتلت بحثا واستقر حولها جمهور العلماء وشيوخ القضاء ليس في مصر فحسب بل وفي مختلف الدول العربية والاسلامية التي قدمت نماذج مضيئة لنساء شغلن مختلف المناصب العامة ابتداء بمنصب نائب رئيس الجمهورية ورئاسة مجالس الوزراء مرورا بالحقائب الوزارية المتنوعة في كبير الدول وصغيرها علي حد سواء ناهيك عن الوجود الفاعل في مختلف الهيئات التشريعية والقضائية. وبالنظر الي ما سبق يبدو قرار الجمعية العمومية لمجلس الدولة عصيا علي الفهم الا اذا كان للمجلس الموقر وضع خاص مستقل عن السياسة العامة للدولة بشأن تطبيق نصوص الدستور فيما يتصل بحقوق المرأة أو كان متمتعا بوضع دستوري متفرد يعطيه الحق في أن يكون كيانا مغلقا علي أعضاء بعينهم يتم اختيارهم وفقا لقواعد لا تأبه بمعايير المؤهلات والكفاءة وحقوق المواطنة التي من المفترض أن يلجأ المظلومون اليهم لتطبيقها أو هذا علي الأقل ما ظنناه. أما بالنسبة الي الشكر الموصول اليهم لاصدارهذا القرار الكاشف, فهو بسبب أن هذه اللطمة غير المتوقعة قد نبهتنا بقسوة الي أنه بالرغم من اصدار العديد من التشريعات والقوانين الرامية الي تعزيز حقوق المرأة والحديث المتواصل حول دعم هذا الحقوق, فان ذلك لم يتحقق للأسف بالدرجة المأمولة علي أرض الواقع وبالتالي لم ينعكس علي الممارسات الحاكمة لهذه الحقوق مبرهنا علي تبني الرأي العام لموقف سلبي تجاه تلك الحقوق في الكثير من الفئات المجتمعية. ويجب أن نعترف بأن الموقف الصادم لمجلس الدولة, قد دل دون أدني شك, علي أن ما يبذل من جهود تجاه وضع ما تم اقرارة من تعديلات دستورية وتشريعات داعمة, موضع التنفيذ لن يجدي نفعا اذا لم ننجح في تغييرالوضعية الذهنية السائدة بين غالبية أفراد المجتمع, النساء منهن قبل الرجال, بحيث يصبح تنفيذ تلك الحقوق علي أرض الواقع انعكاسا طبيعيا لما يؤمن به الأفراد في قرارة نفوسهم من استحقاق المرأة لممارسة ما هي مؤهلة له من وظائف دون محاباة أو تمييز, فعلي من يجب أن ننحي باللائمة في ما وصلنا إليه؟ الحقيقة... علينا جميعا فقد ساهم كل منا بشكل أو بآخر في الوصول إلي هذا الوضع إما إيجابا كفاعلين أو سلبا بالصمت العاجز للمشاهدين, واننا إذا استطعنا فهم دور الفاعلين ممن يتبنون أجندة غير محبذة لدور فاعل ومستقل للمرأة, فاننا نعجز عن تفسيرموقف نسبة لا يستهان بها من المثقفين والمفكرين الذين اثروا السلامة ونكصوا عن اعلان موقف واضح تجاه القضايا المعروضة لأسباب مختلفة مساهمين بذلك في زيادة حيرة وبلبلة الأجيال الشابة, ومما يثير الأسي ملاحظة أن نسبة لا يستهان بها من القضايا التي تثير الخلاف علي الساحة الفكرية تتعلق بالمرأة التي يزخر كل من القرآن الكريم والسنة النبوية بما يدل علي أهمية دورها والمساواة بينها وبين الرجل في الحقوق والواجبات, وبرغم ذلك فإننا في كثير من الأحيان وفي ظل حرصنا علي إضفاء صبغة دينية علي ما ورثنا من عادات وتقاليد تحصينا لها من الانتقاد وإبعادا لها عن مجال المناقشة, قد جعلنا من المرأة هدفا سهلا في ساحة مفتوحة للتراشق الفكري تختطف فيه الأطراف المتصارعة قضية المرأة بغرض احرازالنقاط وتسجيل المواقف متجاهلين عن عمد قيمة المرأة واستقلاليتها وما أنجزته لأمتها عبر التاريخ في مختلف المجالات. وكما نوقن جميعا فان مصرنا العزيزة' المستنيرة' لم تصنع مكانتها الرائدة وتحافظ عليها عبر تاريخها الحديث استنادا الي مواردها المادية أو قوتها العسكرية, بل قادت عالمها العربي اعتمادا علي كونها مصدرا للاشعاع الحضاري في محيطها ومنبرا لاطلاق المبادرات الاصلاحية الرائدة الثقافية منها والاجتماعية معتمدة في ذلك علي نخبها الفكرية لدعم دورها التنويري القائد, ولا شك أنها ما زالت تتمتع بكل المقومات التي تؤهلها لاستعادة هذا الدورالتنويري من خلال دعم قيم المواطنة وتقبل الاختلاف في الرأي واحترام حقوق المرأة وحرياتها دون تحيزات مسبقة. ان ما يجب أن يأتي علي رأس قائمة اولوياتنا الآن هو دعم جهود التنوير في جميع المجالات وذلك بهدف خلق بيئة ثقافية تحترم حقوق الأفراد كافة, ويبرز هنا الدور الفاعل لنخب المثقفين والمفكرين الذين ينتظر منهم المساندة الواضحة لجهود اصلاح المناخ الثقافي ومنظومة القيم السائدة والتي تعكس في الأغلب الأعم نظرة غير منصفة لدور المرأة وقدرتها علي المساهمة في انتقال وطنها الي الصفوف الأولي لمسيرة التقدم الانساني وهو ما لن يتحقق إلا في ظل ايماننا الراسخ, نساء ورجالا بأننا مواطنون مصريون متساوون في الواجبات ومتمتعون بذات الحقوق في اختيار ما نسلكه من دروب في ظل سعينا الي مستقبل أفضل.