ابتليت منطقتنا العربية وشعوبها منذ أزمنة عديدة بصنوف شتى من الصراعات والحروب والهجمات الاستعمارية التي أدخلتها في حالة شبه دائمة من عدم الاستقرار وفقدان التوازن، واستنزفت الكثير والكثير من مواردها البشرية والطبيعية، مما كان له عظيم الأثر في تخلف دولها عن الركب الحضاري المتقدم، وعيشها المتواصل في موجات متتابعة من الجهل والتخلف عن غيرها من الدول، إلا أن كل ما سبق يمكن تبريره بأنه جاء من أقوام يخالفوننا في الجنس والعقيدة والوطن، لذا فهم مدفوعون لفعل هذا بحكم طبيعتهم المتناقضة والمختلفة معنا كليا. لكن الذي ابتلينا به في عصرنا الحديث فاق ما تقدم، ولا يمكن تبريره بالمنطق نفسه لأن من فعل ذلك بدولنا العربية وشعوبها هم من أبناء جلدتنا ، نشأوا وتربوا بيننا وعلى الأرض نفسها ، يتوحدون معنا في الجنس والعقيدة والوطن ، لكنهم سوّموا شعوبهم أشد أنواع العذاب والقهر ، ونقصد بهم حكامنا العرب في تاريخنا الحديث والمعاصر . هؤلاء الحكام تعاملوا مع شعوبهم بمنطق الاستعلاء والتكبر والغطرسة ، استخفوا بعقول أبناء أوطانهم ، وهو ما فعله فرعون من قبلهم بقرون طويلة كما جاء في قوله تعالى : " فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين " – ( الزخرف : الآية 54 ) ، لكنهم لم يتعلموا من دروس التاريخ فكانت تصرفاتهم وأفعالهم وقراراتهم تصدر عن آلهة – وليس عن بشر يخطئون - لا تقبل النقاش ، لأنهم يمسكون الحكمة بأيديهم ، وهم الأدرى والأعرف بمصالح شعوبهم ، والأدهى من ذلك أنهم وجدوا في عرّابي أنظمتهم من البطانة الفاسدة من يروج لهم مثل هذه الضلالات والترهات ، حتى أفاقوا من سباتهم العميق على وقع أصوات الشعوب الثائرة تزلزل عروشهم وممالكهم من تحت أقدامهم . وما زاد الطين بلة تلك الآفة التي انتشرت سريعا بين هؤلاء الحكام ، وهي توريث أبنائهم من بعدهم السلطة والنفوذ والغطرسة والاستخفاف بالشعوب حتى تستمر دولهم التي أقاموها على أشلاء شعوبهم ، وحولوها إلى ممالك وإن كان ظاهر نظام الحكم فيها جمهوريا ، لكن الرياح أتت بما لم تشتهيه سفنهم فعصفت بهم رياح الربيع العربي التي هبت نسائمها من تونس إلى مصر ومنها إلى اليمن وليبيا وسوريا والبحرين وغيرها . ومن عظيم الأسف أنك لا تجد واحدا منهم قد تعلم شيئا مما حدث لأقرانه ، أو حاول أن ينزل لشعبه ليتعرف على أوجاعه ومعاناته ويعمل بجد على حلها ، ويعرف لماذا ثار عليه شعبه ، فنجدهم قابلوا ذلك بأقوال بلهاء من مثل لم أكن أعرفكم ، أو من أنتم ، ومنهم من قابل تلك الثورة بالتجاهل كما في حالتنا المصرية ، ومنهم من قابلها بالمذابح الدموية كما في سوريا . فالدول التي ثارت شعوبها عانت تحت وطأة حكامها من بني جلدتها الذين لم يكونوا يرون إلا أنفسهم ومصالحهم وأطماعهم الشخصية ، فتفشى فيها الفقر والجهل والمرض ، وعاشت تحت نير أنظمة بوليسية حكمتها بالحديد والنار سلبت الحريات وناصبت معارضيها العداء ورمتهم في سجونها ، وفتحت الباب على مصرعيه أمام الفساد والفاسدين المفسدين لينهلوا من ثروات الشعوب دون وازع من ضمير أو أخلاق ، وحرمت مواطنيها حق الحياة الكريمة واللائقة ، فما كان منهم إلا أن انتفضوا على تلك الأوضاع الجائرة وصنعوا ثوراتهم بأيديهم . ونأمل في المرحلة المقبلة أن تتحقق جميع الأحلام والآمال العريضة التي ننشدها لأوطاننا وشعوبنا العربية ، وأن يعي من يتولون المسئولية دروس الماضي حتى لا نستمر في تلك الدائرة المفرغة من الانكسارات . [email protected]