هاني عسل يروي لنا التاريخ كيف أن السياسي دائما يحترق بنيران الرياضة.. وأن الرياضي يحترق بنيران السياسة!!الفارق الوحيد أن السياسي الذي يتعلق ب'قشة' الرياضة عادة ما يبحث عن الشهرة والشعبية التي يعوض بها أفول نجمه أو نقص جماهيريته, بينما الرياضي يقتحم عالم السياسة عادة بعد أن يكون قد استنفد غرضه من نجومية عالم الرياضة والشهرة والأضواء, بل أحيانا يفعل ذلك وهو يعرف أنه سيحرق نفسه وسيخسر كل ما صنعه من شهرة وأضواء ونجومية.. ومال أيضا! وفي النهاية.. الاثنان يحترقان! ومؤخرا, أصبح النجم الإيفواري العملاق ديدييه دروجبا لاعب تشيلسي الإنجليزي أحدث نجوم الرياضة الذين قرروا خوض هذه التجربة, التي تكاد تكون بالنسبة له مغامرة' اضطرارية' قد يضحي خلالها بكل ما فات من حياته من أجل الوطن, خاصة أن توقيت دخول هذه المغامرة مناسب للغاية, له ولبلده الصغير الواقع في غرب القارة الإفريقية, فهو يحتاج إليها, وهي في أمس الحاجة إليه. فقد اختار دروجبا أن يلعب دور' صانع السلام' بين أطراف الصراع في كوت ديفوار التي شهدت حربا أهلية طوال الفترة الماضية, وتحديدا منذ الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل بين لوران جباجبو والحسن واتارا, عندما كان الأول رئيسا للبلاد والثاني زعيما للمعارضة. فقد تم اختيار' الفيل' الإيفواري دروجبا وهو أشهر بالتأكيد من جباجبو وواتارا معا ليكون عضوا فيما يسمي ب'لجنة الحقيقة والمصالحة' التي تضم أحد عشر عضوا, وستكون مهمتها الأساسية تضميد الجراح الاجتماعية والاقتصادية الغائرة الناجمة عن الحرب الأهلية التي اندلعت بعد الانتخابات الرئاسية, وانقسم فيها الإيفواريون إلي فصيلين متناحرين سياسيا وعسكريا. ولن يكون دروجبا هو الأول بين الرياضيين العالميين الذين يقتحمون مجال السياسة, فالأبرز في هذا المجال هو الجوهرة السمراء بيليه الذي بلغ منصب وزير الرياضة في البرازيل, وفي بريطانيا هناك العداء الأسطوري سيباستيان كو الذي أصبح عضوا في البرلمان البريطاني عن حزب المحافظين, ولكنه فضل الارتباط مجددا بالرياضة, وهو الآن رئيس اللجنة المنظمة لأوليمبياد لندن2012, ويعد عمران خان نجم الكريكيت الباكستاني من أبرز الرياضيين العالميين الذين تحولوا إلي السياسة, حيث يتزعم حزب العدالة' تحريك إنصاف' ويعد من كبار زعماء المعارضة في باكستان, رغم حقيقة أنه أحد رموز الرياضة في بلاده. وإفريقيا, هناك تجربة النجم الليبيري جورج ويا الذي كان داعما للسلام والمصالحة إبان فترة الحرب الأهلية في بلاده في التسعينيات من القرن الماضي, قبل أن يترشح للرئاسة ويخسر أمام المرأة الحديدية سيرليف جونسون! وعربيا, هناك نوال المتوكل العداءة المغربية الشهيرة صاحبة أول ذهبية لنساء العرب في تاريخ الأوليمبياد وتحديدا في سباق400 متر حواجز في لوس أنجلوس1984- التي أصبحت وزيرة للرياضة في بلادها منذ2007, وأصبحت أيضا عضوة في اللجنة الأوليمبية الدولية, ومن خلالها ترأست لجنة تقييم ملفات المدن المرشحة لاستضافة أوليمبياد2012 التي فازت بها لندن. وهناك الكثير من النجوم العرب الذين اختاروا طريق البرلمان, وهناك أحمد راضي نجم العراق الأسبق الذي فاز بمقعد في مجلس النواب في بلاده, بينما تولي الحارس الدولي العراقي الأسبق رعد حمودي منصب رئيس اللجنة الأوليمبية, وترأس النجم الأشهر حسين سعيد الاتحاد العراقي لكرة القدم.وكانت الأزمة الطاحنة في كوت ديفوار قد بدأت عندما رفض الرئيس السابق لوران جباجبو الاعتراف بهزيمته في الانتخابات الرئاسية التي جرت في شهر نوفمبر الماضي, واستخدم قوات جيشه وميليشياته لقمع أنصار واتارا الذي حصل علي اعتراف دولي بفوزه في تلك الانتخابات, وأدت الحرب الأهلية التي استمرت بين قوات الجانبين نحو أربعة أشهر إلي مقتل ثلاثة آلاف شخص علي الأقل من الجانبين, ولم ينته الأمر إلا بتفوق قوات واتارا واعتقال جباجبو في أبريل الماضي. والآن, قرر الرئيس الحالي واتارا تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة لتكون علي غرار اللجنة التي تشكلت في جنوب إفريقيا بعد التخلص من الحكم العنصري, وكان هدفها تضميد جراح البلاد وإعادة توحيد طوائف الشعب المتناحرة وتذكيرها بالمهمة الاقتصادية الصعبة التي تنتظرها بلادهم بعد نظام' الأبارتايد', وقرر واتارا السير علي خطي الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا في اختيار أعضاء هذه اللجنة من الشخصيات التي يجمع الإيفواريون بمختلف طوائفهم علي حبها والثقة في أقوالها وأفعالها. ويرأس هذه اللجنة رئيس الوزراء الأسبق تشارلز كونان باني, الذي وجه الدعوة بدوره إلي دروجبا للانضمام إلي عضويتها, فما كان منه إلا أن وافق علي الفور, خاصة أن دروجبا يمر الآن بمرحلة نهاية المنحني الكروي له بعد مشواره' الأسطوري' الطويل مع تشيلسي, الذي سبقه مشوار احترافي آخر في عدد من أندية أوروبا من بينها أوليمبيك مارسيليا الفرنسي, علما بأن دروجبا نجح بذكاء شديد في الاحتفاظ بموقف حيادي' شعبوي' تماما خلال فترة الأزمة السياسية والحرب الأهلية, فعندما كان يسأل من أحد الصحفيين البريطانيين عن رأيه فيما يجري من أحداث في كوت ديفوار, كان يتوخي الحذر في ردوده كي لا يحسب علي أنه مع هذا الطرف أو ذاك, وكان كل ما قاله هو توجيه الدعوة إلي كل الأطراف في بلاده إلي الهدوء من أجل مصلحة الشعب الإيفواري, ولم نسمع يوما عن دروجبا وهو يتاجر بشهرته في مسيرة أو مظاهرة لتأييد جباجبو أو واتارا, أو في وقفة احتجاجية لا قيمة لها, لأنه بالتأكيد شأنه شأن معظم لاعبي كرة القدم المحترفين في العالم يتمتع كما يتمتعون بكياسة ولباقة وخبرة ومسئولية تفرضها عليهم النجومية, بعكس لاعبين آخرين من نوعية نعرفها جيدا, بل لا نعرف غيرها- قد يكونون نجوما كبارا في بلادهم, ولكنهم لا يعرفون كيف يكونون قدوة في أفعالهم وتحركاتهم وقراراتهم, ولا كيف يتخذون المواقف السليمة في الأوقات المناسبة, بل تكون الكارثة الحقيقية عندما يظهرون في الفضائيات.. ويتكلمون.. ويصرحون.. ويقولون.. فيبدأ السحب من الرصيد تدريجيا إلي أن ينفد تماما!! وستكون مهمة هذه اللجنة الإيفوارية علي غرار اللجنة الجنوب إفريقية هي تقصي الحقائق في بعض الجرائم التي تم ارتكابها خلال الحرب الأهلية, وسيشمل ذلك الاستماع إلي روايات شهود العيان عن وقائع معينة والاطلاع علي تسجيلات صوتية ومرئية إذا لزم الأمر, وستكون لديها صلاحية إصدار العفو عن بعض مرتكبي هذه الجرائم في حالة اعترافهم بها. ومن المنتظر أن يستمر عمل هذه اللجنة نحو عامين كاملين حسبما ذكر رئيسها' باني', وذلك حتي تكون قادرة علي استخلاص نتائج نزيهة وعادلة وغير متعجلة ودون ضغوط من أحد, لأن قرارات اللجنة سيترتب عليها تقديم أشخاص إلي المحاكمة وتبرئة آخرين وتقديم توصيات سياسية, وغير ذلك, نظرا لأن هناك اتهامات عديدة من الأممالمتحدة لقوات الجانبين بارتكاب جرائم قتل جماعية واغتصاب, وهذا درس آخر! ويتردد أن دروجبا33 عاما- الذي أحرز49 هدفا لمنتخب كوت ديفوار طوال مشواره معه يفكر في انتهاز فرصة وجوده في هذه اللجنة لدخول معترك السياسة من أوسع أبوابه بعد اعتزال كرة القدم, وربما يكون هو المرشح الأفضل للرئاسة في الانتخابات المقبلة إذا أراد, أما إذا اختار الانتقال إلي التعليق الرياضي أو التدريب أو العمل كوكيل للاعبين, كما يفضل غالبية نجوم الرياضة في أوروبا, فهذا شيء آخر. لياقة دروجبا البدنية والجسمانية والمستوي الذي يظهر به في مباريات الدوري الإنجليزي تؤهله للاستمرار في الملاعب حتي سن الأربعين, ولكن إصاباته التي تعرض لها في العامين الأخيرين تحديدا أنهكا الفيل العجوز, وجعلته يفكر في الانزواء بعيدا.. في عالم السياسة! ولكن الخلاصة هي أن دروجبا يفعل ما يفعله من أجل دور تحتاج إليه بلاده في الوقت الذي يكتفي فيه لاعبون ونجوم آخرون في ملاعبنا, ومنهم من هم أكثر شعبية وموهبة من دروجبا, بأدوار شديدة التواضع, بل شبه منعدمة, بعد ثورة25 يناير, ولا يطالع المصريون أسماءهم أو صورهم إلا عندما يتحدثون عن تجديد العقود وينتقدون التحكيم ويتمردون علي أنديتهم وينتقدون الإعلام, ولم نشاهد منهم أحدا يوجه كلمة قوية أو يتخذ موقفا حياديا عاقلا في كل ما تعرضت له مصر طوال الأشهر الماضية من أزمات طائفية واجتماعية واقتصادية! نجوم مصر قهروا دروجبا علي البساط الأخضر في2006 و2008, ولكنهم للأسف فشلوا في أن يكون مثله خارج الملعب! [email protected]