جلست أنا وصديقي محمد الحكيم في زاوية مقهى 'سولافة'، ذلك المكان الذي يشبه نفسه، حيث تتعانق رائحة القهوة السودانية مع همسات الزبائن، وحفيف أوراق الصحف القديمة، وضحكات الأطفال الذين يركضون بين الطاولات الخشبية المتهالكة. المقهى تديره سيدة سودانية طيبة، ابتسامتها دافئة وصوتها الحنون ينفث على المكان دفئًا، تصنع القهوة بعناية، وكأن كل فنجان يحمل قطعة من روحها، وقطعة من تاريخنا، وقطعة من الوطن. الفنجان صغير الحجم، لكنه ثقيل بالطعم والعمق، كأن كل رشفة منه تفتح أبواب الذكريات وتُعيدك إلى زمن لم تتركه القاهرة أبدًا. بدأ صديقي محمد الحكيم حديثه، كما يفعل دومًا، بنبرة تشاؤمية، كأن العالم كله خطأ بالنسبة له: «مصر تحتاج مليون سنة ضوئية لتستحق الديمقراطية». قالها بعينين متقدتين، يلمح في حديثه الانكسار الذي يراه في الانتخابات الأخيرة، حيث تُباع الأصوات بمئات الجنيهات، ويُعامل المواطن كرقم لا أكثر. ابتسمت له، وأخذت أرتشف فنجان القهوة البخاري الساخن، وقلت بهدوء: ( لا، يا صديقي، مصر ليست بحاجة لمليون سنة ضوئية. هي بحاجة فقط أن تعود قرنًا واحدًا إلى الوراء، لتتذكر من كانت، وما يمكن أن تكون. الماضي يحمل معها دروسًا كافية، لو أراد الناس أن يسمعوا) . حكيم انحنى قليلاً، وعيناه تراقبانني باهتمام، كما لو كان ينتظر أن أفتح له نافذة على التاريخ. ابتسمت وبدأت : تذكر الوثيقة الدستورية التي صدرت في عهد خليفة الخديوي توفيق بعد نجاح الحركة الوطنية عام 1882؟ أول دستور لمصر باسم 'اللائحة الأساسية'. لم يكن مجرد ورقة، بل محاولة جريئة لوضع قواعد للحكم ومنح الشعب صوتًا ولو محدودًا، لحظة أدرك فيها الناس أن لهم كيانًا، وأن بإمكانهم مساءلة السلطة. صورة افتراضية لمقهى سولافة حكيم أومأ برأسه، لكن صمته بدا مثقلًا بالتساؤلات. قلت له: (م جاء العهد الليبرالي، وبدأت برلمانات دستور 1924 وحتى دستور 1930 مرحلة جديدة في الحياة السياسية المصرية، مرحلة امتزج فيها الحلم بالواقع، والحرية بالمساءلة، والجرأة بالمسؤولية. لم تكن جلسات البرلمان مجرد حركات شكلية أو طقوس سياسية فارغة، بل كانت مضرب الأمثال في حرية التعبير والحياة البرلمانية. في تلك القاعات، كان النواب يطرحون الأسئلة بحرية تامة، يناقشون القوانين بلا خوف من العقاب، ويواجهون الملك نفسه عندما تتعارض رغبات البلاط مع مصلحة الشعب. لم يكن البرلمان مجرد واجهة، بل كان ساحة حقيقية للحوار والصراع السياسي، حيث تُقاس قوة الدولة بقدرة مواطنيها على مساءلة السلطة والمطالبة بحقوقهم. النواب لم يترددوا في رفض الطلبات غير المعقولة، سواء كانت تخص ميزانية البلاط أو صيانة اليخت الملكي، مؤكدين أن السلطة الحقيقية لا تكمن في القصور أو الرموز الملكية، بل في البرلمان نفسه، في القوانين، وفي التوازن بين الحكومة والمجتمع. كانت هذه الفترة تعكس قدرة مصر على الجمع بين الحداثة والسيادة، بين حرية الفكر ومسؤولية القيادة، وكانت درسًا للأجيال القادمة في معنى المشاركة الحقيقية والحياة الديمقراطية. ) . ابتسم الحكيم قليلًا، وقال: (ربما كان ذلك الماضي... أما اليوم، فالوضع مختلف ) . قلت له: (انظر حولك... في هذا المكان، كل شيء له طعمه الخاص: الأصوات، الحوارات، ضحكات الزبائن، حتى حركة الأطفال... كل تفصيل يحمل صدى الماضي. هذا المقهى نموذج مصغر لمصر الحقيقية. هنا يمكن للناس مناقشة السياسة والفن بحرية، كما كان يحدث منذ عشرات السنين) . ارتشفت بعض القهوة وقلت لصديقي محمد الحكيم : هل تعرف حكاية تحية كاريوكا، التي لم يعرف الخوف طريقه إلى قلبها. في ليلة كانت تحية كاريوكا ترقص في ملهي ليلي كبير هو ملهي بديعة مصابني الذي تحول لاحقا لفندق شهير على النيل في نفس المكان، ورقصت كاريوكا كما اعتادت كل ليلة لكنها رأت في صدارة الصالة الملك فاروق بشحمه ولحمه يجلس على طاولة وبجواره حاشيته في كل الصف الأول من طاولات الملهي، مثل هذا الموقف كان يمكن أن يدخل السعادة والفخر على قلب راقصة، ولكن تحية كاريوكا لم تكن مجرد راقصة، أنهت رقصتها وعادت لغرفتها، استبدلت ملابسها وخرجت للصالة وأدت للملك تحية مواطنة تحترم ملك البلاد ، ثم قال قالت تحية كاريوكا للملك ، بعينيها المتقدتين وبصوت صريح لا يعرف الخوف: مكانك مش هنا يا جلالة الملك... مكانك في القصر! توقف الزمن للحظة داخل الملهى، والصمت خيم على الطاولات. الملك فاروق، الذي لم يعتد على مثل هذه الجرأة من فنانة شابة، تجمد على مقعده للحظة، وعيناه تعكسان مزيجًا من الدهشة وربما بعض الغضب الخفي. لم يكن يعرف كيف يتصرف أمام هذا التحدي الصريح، فظل مترددًا قبل أن يأمر حاشيته بالانسحاب، وغادر المكان على الفور، تاركًا أثرًا من الصمت والخجل بين الحاضرين. لكن ما يدهش أكثر، هو أن تحية كاريوكا لم تُسجن في عهد الملك، رغم جرأتها الواضحة، بل جاء الوقت لاحقًا، في عصر الرئيس جمال عبد الناصر، حين دخلت السجن بتهم سياسية. وكأن التاريخ يعيد نفسه بوجوه مختلفة، وكأن روح الجرأة والحرية كانت تُختبر دائمًا تحت ضغط السلطة، لكنها تظل حاضرة، لا تنطفئ، تنتظر اللحظة التي يظهر فيها الصوت الصادق. حكيم ابتسم، وقال: (حقًا... كان هناك نوع من الجرأة في تلك الأيام... شيء نفتقده اليوم) . ثم سردت له تفاصيل البرلمان والمواجهة السياسية: ( تذكر مصطفى النحاس؟ الرجل الذي تحدى الملك فاروق في أكثر من مناسبة، ورفض طلبات الميزانية الملكية. قال للملك بكل هدوء وثقة: 'إذا كان اليخت من ممتلكات الملك فلينفق الملك، وإذا كان من ممتلكات الحكومة، فأنا أقول إن الحكومة لا تريد صيانته الآن'. النواب كانوا أحرارًا في انتقاد الحكومة، والصحف كانت تصدر بحرية. وكان المواطنون الأجانب، الفارون من ديكتاتوريات أوروبا، يجدون في مصر ملاذهم، يشكلون أحزابهم ويصدرون صحفهم بحرية) . حكيم أومأ برأسه، وقال: (التاريخ يصعب تصديقه... كل شيء أصبح اليوم مختلفًا ) . ابتسمت وقلت له: (لكن روح الحرية لا تموت. البرلمان لم يكن فقط نقاشًا عن القوانين، بل كان معقل الجرأة، معقل مساءلة السلطة، مكانًا يحوي شخصيات لا تخاف، تعبر عن رأيها، وتواجه الملك والوزراء والسياسة نفسها ). ثم دخلنا في حكايات عن الحياة اليومية السياسية: كيف كان الفنانون مثل تحية كاريوكا يعيشون في أجواء مزدوجة بين الفن والجرأة، المسرح والسياسة، المسرح والجمهور. حكاياتهم كانت تظهر لنا أن الحرية ليست مجرد فكرة، بل ممارسة يومية، وأن الجرأة على مواجهة الظلم لا تحتاج إلى قوة، بل إلى شجاعة وإيمان بالقيمة الإنسانية. في زاوية المقهى، الأطفال يلعبون، وضحكاتهم تتداخل مع همسات الزبائن، مع صوت فرن القهوة، مع حفيف أوراق الصحف. كان كل صوت يذكّرنا بالشارع المصري القديم، بالحوارات السياسية، بالضحكات التي تخرج وسط الجدل، وبنسيم المساء الذي يحمل أخبار البرلمان والمسرح والفن والفنانون. حكيم، وهو ينظر حوله، قال أخيرًا: (ربما كل ما نحتاجه هو أن نستعيد التاريخ، الماضي لا يزال حاضرًا إذا أردنا أن نتعلم منه) . مع غروب الشمس، والمقهى يمتلئ بضوء خافت، والهواء البارد يدخل من الباب المفتوح، شعرت أن كل شيء هنا، ، كل فنجان، كل ضحكة، يحمل روح مصر، روح الحرية، الجرأة، والمواجهة. وعرفت أن هذه الروح موجودة دائمًا، حتى إذا خمدت أصواتها، فهي تنتظر من يذكرها، ومن يعيدها للحياة.