عبد الغفار رمضان .. تاريخ يمشى على الأرض هكذا يمكن أن تمن الأيام عليك بمقابلة كنز بشري، كنت أبحث عن هذا الرجل كمن تاه منه صوت عميق يسكنه، وددت لو تعرفت عليه بعد أن استمعت إليه في حفلة في أواخر الثمانينيات، وبعد أن مرت السنوات ظننت أنه رحل عن عالمنا، إلي أن نفي لي الفنان الشعبي محمد الشحات ذلك وقال لي سوف نعد موعدا لتقابله، فرحت كطفل، وأعددت نفسي للتعرف علي فنان شعبي كبير، لا يعرفه إلا من أدرك قيمته، وكانت الرحلة، واستظلت الروح بحكاياه وغنائه، فكان مواله الخماسي الأعرج الذي يلخص رحلته: البين عملني جمل واندَّار عمل جمَّال لوي خزامي علي إيده وشيلني تقيل لاحمال أنا قلت يا بين هوَّ الحِمل دا ينشال قال يا جمل شيل حملك ونقل به دا كل عقده لها عند الكريم حلال
لعبة البرجاس في مولد النبي في كفر شبرا زنجي، مركز الباجور كان ميلاده عام 1930، كأنه ولد لينذر للفن، نكشته وتركته ينتشي بأولي رحلاته وارتحالاته للبلدان " كنت زمان باسمع الاسطونات، و أحفظ شكلها الموسيقي، وتشاء الصدف إن الناس سمعوني وأنا أقرأ القرآن الكريم فاشتهرت في البلد إني صوتي حلو، فجم ناس من بلدنا بيشتغلوا في وابور الحليج في منوف وبينا وبين منوف سرس الليان قالوا لي تعالي معانا اتفرج ع البُرجاس في منوف، فانا رحت معاهم. مش عارف رايح فين، أنا في الحالة دي كان عندي حداشر سنه، فخدوني ورحت لعمي كان هو المهندس بتاع وابور الحليج، فاداني قرش صاغ كده .. وقال لي خد هات لك بيه حلاوه، القرش كان يجيب حلاوه، القرش صاغ بتاع حسين كامل كان يجيب حلاوه برضه"، سألته عن البرجاس فصمت قليلا كأنما يتذكر الطقس بما فيه ومن فيه "البرجاس كان عبارة عن أحصنة تتسابق مع بعض، سبق خيل يعني يتسابقوا بها في مولد النبي، ورحت معاهم، بس ما خدونيش ع البرجاس خدوني علي قهوه، أنا رحت القهوة، لقيت القهوه ما فيهاش حاجه من اللي قالوا لي هانشوفها ". الأرغول الذي سحره فذاب لو سمعته وهو يتحدث عن صوت الأرغول، ولو رأيته وهو يصف ذلك العازف لغمرك صوته بالسحر، إنه عبد العزيز العادلي العازف العبقري الذي عاد إلي بلده بعد أن مات الفنان محمد العربي الكبير، عاد بعد أن عاشر أرغوله ذلك الصوت المصري الآتي من أزمنة الترانيم البعيدة، اسمه وعزفه حبيب " لقيت واحد بيزمر علي الأرغول أنا مش قادر أوصف إيه الراجل دا، جذبني ليه، وكان من بلد جنب منوف، فانا إيه اتسحرت ، أتاريهم واخديني بقي إيه عشان أغلب الراجل دا اللي اسمه عمي حبيب في المواويل وأنا حداشر سنة، أنا نظري اتحول للراجل اللي بيزمر ماليش دعوة بالمواويل وبالبتاع، رحت مديله القرش صاغ، وقلت له أنا عايز أغني علي الأرغول دا، قال ما تغني فيه حد يحوشك ما تغنيش، اتفضل، فرحت، راح جايب كرسي وراح موقفني عليه وبتاع المزمار قسم كده تقسيمه رحت أنا لاقطها، ما أنا كان عندي حسن استقبال في الوقت دا ، لقط التقسيمة زي ما قالها ورحت أنا قايل الليلة زي ما هو عاملها، زي ما قالها بالأرغول أنا قلتها، العالم اللي جايبني هيصوا، القهوة اتملت، وقلت الليالي تاني ". تذكر فريد بك الشقنقيري وبكي في زمن كانت الأصوات وحدها تمنح جواز المرور، وبشهادة السميعة وحدهم ، في أي مكان، في مولد، في مقهي كما حدث لعمنا عبد الغفار رمضان بمقهي سعيد ريحان،الذي عشق الفن واستقبله من خلال صوت أخيه محمد ريحان المنوفي أحد الفنانين الشعبيين المشهورين الذي ستلقي صاحبنا عنه أول دروس الاحتراف، هكذا يحكي الريس عبد الغفار رمضان " أنا قلت الليلة تاني راحت القهوة مليانة، بصيت لقيت يوميها واحد لابس طربوش، طبيعي كان ساعتها بيلبسوا طرابيش، فارق شعره وماسك منشة ووراه الغفر، راحت القهوة كلها واقفة، قال لهم اقعدوا، ونادي وقال يا سعيد، قال له نعم يا بيه، أتاري دا الأستاذ: فريد الشقنقيري، وحين تذكره بكي بمحبة وقال دا كان راجل عظيم من العظماء، قال لي غني، قمت أنا قلت: يا ليل، قال بس كفاية، راح منزلني من علي الكرسي ومطلع جنيه، والجنيه وقتها كان إيه، وإدَّي جنيه لعم حبيب وجنيه للي بيزمر، وراح واخدني في إيده، أنا قلت الليل من نغمة حجاز كار، زنجران يعني، وبعدين راح واخدني ورحنا رايحين علي القعده اللي بيقعدها وراح منادي للخواجه وكان الخواجه عامل بار وقهوه ومخبز ومحل، كان يوناني، ولما قعد وجاب له الكاس ما قربعش، الله يرحمه، الكاس قدامه وقال هات حمام وجاب لي الأكل وانا كنت متغدي "مِشْ" مع العمال ماهم بياكلوا مش ما هم غلابه بياكلوا مش وبصيت لقيت واحد جاي وقال له يا ريحان، الولد دا يروح معاك بكره "ميت شهالة"، بلد الشيخ عبد المجيد سليم، قال له إن شاء الله يا بيه، مشي محمد ريحان من هنا، وبصيت لقيت اللي جاي بياخد مقاس دماغي وهدومي، راحوا واخدين المقاسات وخدوا مقاس الجزمه، وقال لي انت بقي ها تبات فين ؟ قلت له ها ابات مع عمي، قال لي آه دا عندنا دا في البابور بتاعنا وراح واخدني في العربية ووصلني عند عمي، وبصيت لقيت الساعة حداشر، الصناعية جايين بالشنط اللي فيها الجزمه وفيها الهدوم (القفطان واللبدة) لبس كامل بقي وروحنا علي ميت شهالة، الراجل دا عمل حاجات كتير، بس أنا باختصر، ودخلت ولبست الطقم وبعدين قمنا للغناء بقي". ع الوعد صابر وغير ستر الإله مطلوب اصطحبه محمد ريحان ليبدأ معه أولي عتبات الفن ومواجهة الناس، افتتح ريحان الليلة بما له من شهرة طاغية، وذاكرة موالية عفية، وأخذ يشبك الموال في الموال ليطرب الناس و يتقلبون بين النماذج الإنسانية ليختم بموال آسيان ، لكنه يعكس حالة المصري حين يرضي بقليله : زمني علي جار من يم الديار مطلوب والبخت لساه وليالي العذاب مطلوب ع الوعد صابر وغير ستر الإله مطلوب راضي بقليلي راضي بقليلي ولو غيري يكون بيه راح مالي وماله ما دام الزهر مديله الصحه حلوه وأحسن للبدن بيه راح أحسن من اللي صاحب نيشانات مديله يا ناس قولولي علي اسم الأصيل بيه راح كان وعد مكتوب حا اشق التوب مديله راضي بقليلي آسف وندمان من جور الزمان وجبه لما الهفيه لبس كاس الحرير وجبه أنا المؤلف وباقول المثل وجبه عِفِّية النفس واجبه والأدب مطلوب راضي بقليلي هذا موال لا يمسكه إلا قادر، موال من (13) غصنا، فالجزء الأول وهو "عتبة الموال" الذي ينهيه ب "راضي بقليلي"، ويصل بها "بدن الموال"، ويظل يسحرنا بتقفياته وصوته حتي يصل إلي "رباط الموال"، كان عبد الغفار يستمع بنشوة ويعد روحه للقول وهو الذي لم يكن يملك إلا عددا محدودا من المواويل وهو الصبي الذي يجرب صوته بين جموع الفلاحين، ولأنه يملك من الذكاء ما يجعله يلقي محبة الناس فقد غني من مخزونه من المواويل التي سمعها من الفلاحين، حينها وقف ليحبك الموال الخماسي الأعرج مجلجلا بصوته : البين عملني جمل واندَّار عمل جمال لوي خزامي علي إيده وشيلني تقيل لاحمال أنا قلت يا بين هوَّ الحِمل دا ينشال قال يا جمل شيل حملك ونقل به دا كل عقده لها عند الكريم حلال لم أكن أصدق وهو يعفق الموال أن هذا الرجل يملك من العمر (85) عاما ، وبعد أن سحرني قال: "أهو دا أول موال قلته، أنا قلته مرتين تلاته، يقوم واحد يقول لي استني ما تغنيش ولم لي نقطه عبارة عن ريالات وأنا أودي لمحمد ريحان المنديل، فمحمد ريحان إداني أربعة ريال، والبيه إداني اتنين جنيه، غير الطقمين اللي جابهوم لي ، والبيه قال لمحمد ريحان خللي أبوه يجيبه وأنا هاوديه مدرسة المساعي المشكورة داخلي وأربيه فيها، قال له أبوه ما يستغناش عنه، قال له : هاتوا لي، المهم ما حصلش نصيب، مين بقي اللي لقطني، محمد ريحان، صبح كلمني في التليفون، كان فيه تليفون عند خالتي سنة 32 ذ وصحح لأ سنة 42، واشتغلت بقي مع محمد ريحان ومعاه لفيت البلاد كلها، واتعرفت علي الحاج يوسف يقصد يوسف شتا القليوبي خلي بالك أنا بغني قبله، ما انا كنت احترفت المهنة دي علي وسع، مع محمد ريحان وكان ريحان مشهور في جميع البلاد. غني الكروان ألحان النغم شبابيك أبحر معه في حكاياته عن تاريخ همشه سدنة التأليف ، هو من رأي وسمع ، والآن يفتح بابه ليدخلنا تاريخا لن نجده في الكتب وربما راح بعد رحيل من يحملونه في صدورهم "أيوه شوفت الحاج مصطفي مرسي بتاع المرج ، واشتغلت معاه ليله واحدة، كان فيه واحد اسمه كمال جعفر، جت له ليلة وقال لي روح مع الحاج مصطفي وكانت في الشوبك الشرقي، ورحت وكرمني أخر كرم، وقبل كدا وأنا بشتغل مع الحاج محمد ريحان جيت مع واحد اسمه محمود عبد العظيم، كان بيغني كدا علي قده فقال لي تعالي أما أسمعك الحاج مصطفي مرسي في البساتين بيقول "موال حسن النمس ونعيمه" ، فأنا رحت، وكان حس الحاج مصطفي بالصلا ع النبي ، اللهم صل علي سيدنا محمد، راجل بقي رحمه الله أخذ في البكاء ما يتعوضش، أتاريه باديء في القصة من أول رمضان لقيناه واقف عند إيه :غني الكروان ألحان النغم شبابيك، قلت له هذا موال حسن ونعيمه الذي يغنيه محمد طه، نظر كأنه يستدعيه أمامه "أيوه دي اللي بيقولها طه بس فرق السما من الأرض، نفس النص، وأنا عاملها برضه، الحاج مصطفي كان حاجه تانيه، أقولك كان بيقول إزاي، مش ها اقدر قوي يعني، بس ممكن أتخيل يعني، بس أنا عيشت مع فنان : غني الكروان ألخان النغم شبابيك طلعوا البنات في العلالي فتحوا الشبابيك قالت نعيمه غرامي يا حسن شبابيك بعتت له منديل وأسباب الهوي منديل غني المغني وجاب في المنديل ومن عاير أهل الغرام حتما يتوه منديل وقالت له بالليل سنار الغرام شبابيك نصوصه يتداولها المغنون الشعبيون ومحبوه، لم يحفظها في شريط ، لأنه هكذا يظن أنها محفوظة في أرواح وقلوب الناس لأنها منهم "أنا عمري ما سجلت في شركات أنا ليَّ في الإذاعة والتلفزيون حاجات كتير ، وليَّ في إذاعة القرآن الكريم باع كبير ، يعني حجاج الهندوي أنا اللي معلمه، وجمال الدين حسين ومعوض الفشني ، وكلهم ، أنا كاتب ومغني وفي الغناء أحسن بس أنا خدت الحاجات دي وثقفت نفسي، ودا فتح من الله وما فيش فتح إلا من الله، أنت بتعرف أحبابنا، وسيد حواس دا بقي أنا أنقذته في تسجيل واحنا جايين، صلي ع النبي ها احكي لك الحكاية واحنا بنتكلم علي الوقوف خلف جيش مصر وهو ماكانش معاه غير "عزيزه ويونس" فقلت له : استغفر الله العظيم من الخطأ هو بحال عبده الفقير علام وقلت له ها تقدر تحفظها كلها قال لي: وريني، وكان ذكي قوي الله يرحمه، قال لي: لحنها لي، قلت له لأ ، قال لي لحنها لي وإلا مش قايلها بس شيلي كلمة "استغفر" دي عشان لو جات لام هاتبقي استغفل، رحت شايلها ورحت ملحنها له وبسم الله الرحمن الرحيم بقي، أصل جدي أنا كان شاعر، كان شاعر حديث مش الرباب بس، كان اسمه علي سعيد وهو جدي أبو والدتي وكان بيشتغل علي الكمنجات وكان الإيقاع بتاعه الرباب، الرباب هي الإيقاع مفيش إيقاع وكمنجتين وكلهم واخدين منه وتذكر كيف قالها حواس تجلي ربي جلاله من الخطا هو بحال عبده الكريم علام واصلي ع الهادي حبيبي محمد طه الذي له في المدينه مقام من بعد حمد الله وصلاة نبينا علي الربابه اسمع الأنغام يا ابن البلد بلدك بحاجه لهمتك والوقت دا ما عادش وقت كلام مصطفي مرسي وطه والششتاوي بعد أن رحل محمد ريحان كره الغناء، وأحس أن الطريق الذي اختاره لم يقدره، وقدر زملائه ومهنهم حيث توزعوا بين الطبيب والمحامي والمهندس، بينما اعتبره البعض مجرد مغني شعبي، لذا فقد قرر تغيير مسار حياته" اتطوعت في الجيش ودخلت مجند وبعدين جددت ورحت المخابرات الحربية 32 سنة ورغم كدا كنت منتشر والكل بيغني حاجاتي ما عدا محمد طه ما كانش بيغني لحد وسرق حسن ونعيمه من مصطفي مرسي يعني كان ادهاله، اسمعها مني وانا مختصرها برضه: من الصعيد للبحيره ألفوا موال علشان جدع مات في الغربه مالوش موال وعلي الآواخر راجل أخر عمل موال عسي يكون عال والموال يعجبكم هكذا يعترف بفضل سابقيه، فيقول "راجل أخر" ويعترض علي الصيغة التي غني بها طه موال حسن ونعيمه، لكنه ينصفه ويؤكد أنه صوته سر من الأسرار "خلي بالك من الأمانة، الأمانة يا أستاذ، طه بيقول وع الأواخر أنا راخر بقول موال، أنا راخر إيه ما هوم ما عندهومش ضمير والحاج مصطفي قال بزازها باللبن حنت هو البز دا عيب، مفيش واحد في علم الفن زي الحاج مصطفي مرسي، فيه بس واحد اسمه الششتاوي خاطر بتاع المحلة الكبيرة دا كان مؤلف أمي لكن كان عبقري من العباقرة العظام وكلنا غنينا له الكل غني له، محمد ريحان غني له و محمود الخواجة غني له، أما محمد العربي فكان حكاية وكانت الأميرات بتعشقه، محمد طه صوته سر من الأسرار ربنا اداله الصوت دا عشان ياكل عيش يعني ابو دراع كان صوته تعبير كان يوقف في مجاله سفراء عظماء، فنانين، جميع الفنانين يروحوا عند ابو دراع في رمضان كان أشهر حاجه كان متعدد تسمع منه اللحن وأنا عملت له ألحان وكلام كتير " هاهو يعترف أنه لا يستطيع استدعاء صوت "أبو دراع" ولا الإمساك بطريقة أدائه فقد كان عفيا يجمع بين راقات الخشونة في صوته رقة وعمقا لا يقدر عليه رغم أن هذا الموال من تلحينه : لو رحت بيت الأصيل الزاد كله كله .. ولو قابلت الأصيل قوله الصواب كله كان أبو دراع فنانا عظيما ومشهورا، وفي مرة في فرح من أفراح أولا الرئيس السادات جابوه : السادات قال فين ابو دراع هو اللي ها يبسط النسوان وراحوا جابوه وكان مميز وماكانش فيه واحد ياخد مكانه، أما محمد طه فكان بيقول يوي يوي يوي يا عيني ، أنا عملت له : آه ياعيني آه يا عيني ياللي سهرانه الليالي ذنبي ايه بتحيريني في الهوي وشغلتي بالي والعذول عمال يقول والحبيب ما رحمش حالي يوي يوي يوي يا عيني "ما عجبوش لأنه ما يقدرش يغنيه بصراحه، ما كانش مثقف رغم إنه صوته سر من الأسرار، حفني أحمد حسن كان صاحبي وعملت له حاجات كتير ولابنه، جميع الفنانين في مصر خدوا مني، يجوا ويقولوا لي اعمل لنا كذا، معظم حاجات الحاج يوسف شتا بتاعتي أنا". هذا تاريخ يمشي علي قدمين من موسيقي وخبرة بصناعة الكلام، الكلام حين يتعشق في موال أو أغنية، حكاء قادر علي ملأ شواغر التاريخ، صاحب قصص نغنيها وتنسب لغيره ولا يحزن لأنه يدرك أن ما تنتخبه الجماعة الشعبية سيعيش أكثر وأنها حين تبنته كانت تعي أن هذا النص سيخلد حاملا روح واحد من أبنائها الأصلاء، إنه الكنز البشري العظيم ريس الفن عبد الغفار رمضان.