ترجمنا "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني، التي لاقت قبولا كبيرا، ليس لتناولها فكرة المثلية الجنسية، إنما لأنها قدمت أفكارا يعرفها الروس جيدا، مثل الفساد السياسي والرشوةهناك ندرة في المترجمين القادرين علي العمل مع النصوص الأدبية، يجب أن نجد حلا لهذه المشكلة. وأنا علي المستوي الشخصي، بذلت مجهودا كبيرا حتي عثرت علي مترجم واحد يستطيع مساعدتي في ترجمة الأعمال بالمركز ... إنه أمر شاق. فتاة روسية شابة حضرت إلي مصر للعمل مترجمة مع الخبراء السوفييت، مغامرة حقيقية ونادرة لامرأة مثقفة وناشطة، فالمعتاد أن يقوم الرجال بهذا العمل، تاتيانا بوجدانوفا. أحبت مصر التي أهدتها هدية حياتها، عبد الملك خليل، المناضل الثوري، ذا الثقافة المتفردة، أحبته، تزوجا. وبعد أن قرر محمد حسنين هيكل فتح مكتباً للأهرام في موسكو، يقوم بتغطية أخبار الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشيوعية (حلف وارسو) طلب من عبد الملك تولي رئاسة المكتب،سافر الزوجان إلي الاتحاد السوفيتي. حقق عبد الملك نجاحا مبهرا، حتي إن المكتب صار قبلة لكل مصري يذهب إلي موسكو، وأصبح مع تدهور العلاقات المصرية السوفيتية في عهد السادات بديلا حقيقيا للتمثيل الدبلوماسي المصري هناك. قصة الحب بين تاتيانا وخليل انجبت ابنتهما مني، الشابة المثقفة التي نالت تعليما راقيا، وتربية علي قيم نادرة نفتقدها اليوم. لذا ليس من الغريب أن تجد مني، التي تتحدث الروسية والعربية والانجليزية بطلاقة، غير مكترثة بتولي منصب، أو تحقيق مكاسب مادية، انها فقط تسعي أن تكون نفسها، أن تفعل ما تحب، وقد أحبت مني الثقافة ورسالتها التنويرية، قررت أن تحيا من أجلها وأسست داراً للنشر من بين أهدافها تعريف القارئ الروسي بالأدب العربي عامةً والمصري تحديداً. أعتبر هذا اللقاء فرصة لتقديم شخصية متميزة، تلعب دورا ثقافيا مهما. كيف تشكلت ثقافتك؟ وما دوافعك للتفكير في مد جسور التواصل بين الشعبين الروسي والمصري، رغم صعوبة المهمة، وغياب الدعم الرسمي؟ - الأمر عندي أبسط من ذلك، فأنا لم أفكر في هذا الكلام الكبير، مثل الرسالة والمهمة، أو أني أمد جسور التواصل، ولا أنظر كذلك إلي الأمر كعبء، مادي أو معنوي، أو أتحسر علي تقصير الجهات الرسمية، أنا فقط أعمل ما أحب، لا أفكر في التحدي أو غيره، أنت حينما تختار أن تعمل ما تحب، لا تنظر لنتيجة، ولا تكترث برأي الآخرين فيما تفعل، أو تنتظر مساعدة من أحد، أو تحزن لخسارة بعض الأموال، تريد أن تري عملك يكبر ويكبر، ويحقق فائدة ما لأحد. ولدت لأب مصري وأم روسية، أحاطاني بالدفء والحب، وفرا لي كافة الظروف التي تجعل مني انسانا حرا، يختار ما يراه صوابا، ولا ينتظر شيئا من أحد. كنت أسير واثقة منطلقة، ألجأ لهما طلبا للمشورة، التي لم يبخلا علي بها. أحب مصر وروسيا بنفس القدر، لي في كل منهما نصيب كبير، لا اشعر بغربة في أي منهما. حينما أسير في شوارع القاهرة، أنا مصرية تماما، وكذلك الأمر في موسكو. لم يكن لدي مشكلة هوية في أي وقت، سواء بمصر أو روسيا. تعلمت في مدرسة عربية "المدرسة العربية في موسكو"، تم تأسيسها لأبناء الدبلوماسيين العرب هناك، افتتحت في عهد عبد الناصر، المدرسون مصريون. تركتها ورحلت للدراسة بمصر، حتي أحافظ علي لهجتي المصرية. عدت بعدها للدراسة بمدرسة روسية بموسكو، عانيت بعض الشيء لاختلاف نظام الدراسة، لكني نجحت في تجاوز الأمر. حين أنهيت دراستي الثانوية، التحقت بجامعة موسكو (لومونوسوف)، أكبر جامعات روسيا، درست الأدب الانجليزي واللغة الانجليزية. وقد ساهم بالطبع الجو العام في بيتنا بشكل كبير في حبي للثقافة والعلوم الانسانية. من أين جاءت فكرة تأسيس مركز التعاون في المجالات الانسانية؟ كنت أجلس في البيت اتأمل مكتبتي التي تجاوز عدد كتبها خمسة آلاف كتاب، باللغة العربية والروسية والانجليزية، أنا احب القراءة جدا، وهي متعتي الأولي، حقيقة لدي شراهة في شراء الكتب وقراءتها، لقد كانت لحظة شعرت فيها برغبة في رؤية كتب شاركت في انتاجها، في صنع فعاليات تخلق وعيا مختلفا، وتقيم حوارا مفتوحا بين نصفي روحي وعقلي... مصر وروسيا. في هذه اللحظة، ولدت فكرة تأسيس مركز التعاون في المجالات الانسانية، ومن هذه الفكرة، انطلقت فكرة المبادرات الثقافية المصرية والروسية، التي تهدف إلي تعريف أكثر بالثقافتين علي نطاق أوسع. عرضت الفكرة علي العائلة والأصدقاء، فوجدت الكثير من الدعم والتأييد والاعجاب، ما انجازات المركز، والصعوبات التي واجهها، ومدي نجاحه في تحقيق أهدافه حتي الآن؟ - في الحقيقة، حقق المركز العديد من الانجازات منذ تأسيسه، وقد ركزنا علي إحياء حركة الترجمة من اللغة العربية إلي اللغة الروسية، تلك التي توقفت مع انهيار الاتحاد السوفيتي. وطبعا المشكلة الأولي التي واجهتني في هذا الصدد كانت كيفية اختيار الأعمال التي سنقوم بترجمتها، لأن علينا أن نضع في الاعتبار الحالة المزاجية للقارئ الروسي الآن، لن نترجم عملا نعرف مسبقا أن القارئ الروسي لن يفهمه. المشكلة الثانية كانت في العثور علي مترجم يمكنه التعامل مع النص بحرفية وإبداع، وهذا أمر صعب جدا. يمكنك أن تعثر علي مترجم قادر علي التعامل مع نص عادي، انما التعامل مع نص أدبي يتطلب مترجما من نوع خاص، علي علم واطلاع وقدرة لغوية خاصة. وجدنا الشخص المناسب بعد عناء، واخترنا كتاب "قبول الآخر" لميلاد حنا كأول كتاب يترجم للغة الروسية من خلال المركز، ولم يخرج الكتاب للنور إلا بعد عدة مراجعات دقيقة وصلت بالكتاب لمستوي رائع، حتي إنك تشعر وكأنه مؤلف باللغة الروسية، وهذا ما تمنيناه وسعينا لتحقيقة. توالت الأعمال المترجمة، وتوالت كذلك عبارات الإعجاب من القراء باختلاف مستوياتهم. ترجمنا "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني، التي لاقت قبولا كبيرا، ليس لتناولها فكرة المثلية الجنسية، إنما لأنها قدمت أفكارا يعرفها الروس جيدا، مثل الفساد السياسي والرشوة. قدمنا كذلك "أفراح القبة" و"رحلة ابن فطومة" و"أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، "شيكاجو" لعلاء الأسواني. ومن الجيل الجديد قدمنا أحمد العايدي وروايته "أن تكون عباس العبد" وغيرها، وقدمت أيضا كتابا عن مصر كتبه المدون الروسي ديميتري كارياجين "حياتي في مصر"، والبقية تأتي. شاركنا بهذه الإصدارات في العديد من المعارض المهمة في روسيا، مثل معرض الكتاب الدولي، وبوليفار القراء وغيرها. كنت أطير من السعادة حين أري إقبال القراء الروسي علي شراء اصدارات المركز. من خلال تجربتك الخاصة، ما الدور الذي يجب أن تقوم به الجهات الرسمية في مصر للترويج للثقافة والإبداع المصري؟ - بصراحة كبيرة هناك قدر كبير من التقصير من الجهات الرسمية في الترويج للثقافة والابداع. هناك صورة شديدة السلبية عن مصر في الخارج، يجب بذل المزيد من الجهد لتحسين هذه الصورة. نريد مؤسسات مثل معهد العالم العربي في باريس، هذا المكان الذي يهتم بكل صغيرة وكبيرة لها صلة بالعالم العربي. الأمر اذن لا يقتصر فقط علي الجهد الحكومي الرسمي، ولكن يجب مشاركة القطاع الخاص والمؤسسات غير الحكومية في هذا العمل المهم جدا. للثقافة كما تعلم دور كبير في السياسة والاقتصاد ايضا، فهي "القوة الناعمة" التي تفوق قوة السلاح، بها يمكن حل الكثير من المشكلات. وللإنصاف، هناك مؤسسات تفعل ما بوسعها، لكن في النهاية هم مقيدون بقواعد وحدود، ليس من سلطتهم تجاوزها. يجب أن يكون الأمر نابعا من سياسة عامة للدولة، دبي كمثال تستعين بخبراء للدعاية لها لصنع صورة ايجابية لها في العالم. يجب أن يكون الأمر هكذا. كيف ترين حركة الترجمة بين العربية والروسية الآن؟ - بطيئة جدا، ولا تحظي بالاهتمام الكافي. العديد والعديد من الأعمال الإبداعية تصدر هنا وهناك، ولا أحد يهتم. اتعجب كيف نريد أن يفهمنا العالم دون أن يقرأ ما ينتجه مبدعونا. وبالتالي كيف سنفهم العالم اذا لم نقرأه. لا يجب أن ننتظر حتي يتحرك الآخرون، إنما علينا أن نتحرك من أنفسنا، الأمر ليس ترفا لكنه ضرورة حياة. ومن ناحية أخري،هناك ندرة في المترجمين القادرين علي العمل مع النصوص الأدبية، يجب أن نجد حلا لهذه المشكلة. وأنا علي المستوي الشخصي، بذلت مجهودا كبيرا حتي عثرت علي مترجم واحد يستطيع مساعدتي في ترجمة الأعمال بالمركز ... إنه أمر شاق. قبل أن ننهي الحوار، حدثينا عن وظيفتك الجديدة كمدير تنفيذي لمجلس الأعمال المصري الروسي، وهل لذلك علاقة بالثقافة؟ - كما قلت لك من قبل، للثقافة علاقة وطيدة بكل شيء. ورغم أن مجلس الأعمال المصري الروسي مهتم باحياء وتطوير العلاقات التجارية والاقتصادية بين مصر وروسيا، إلا أن ذلك قد يفتح المجال أكثر لعلاقات ثقافية أفضل، وقد يكون لرجال الأعمال دور كبير في هذا، وهذا ما أطمح إليه.