كنا في منتصف الستينات أو قبيل ذلك بقليل، حين التقيت بأمل دنقل لأول مرة ذات أمسية عامرة من أمسيات الجمعية الأدبية المصرية التي كانت تقيمها في مقرها القديم بشارع قولة بعابدين، كان موضوع الندوة هو "قراءات شعرية"، وكان أمل دنقل واحدا من الشعراء المشاركين ، وكانت الندوة غاصة بالجمهور شأنها في ذلك شأن أغلب ندوات الجمعية الأدبية التي ظلت عامرة إلي مطلع السبعينات من القرن الماضي حين بدأ يدركها ما أدرك الوطن بأكمله من الذبول والانكسار،....ليلتها، وبعد أن فرغ الشعراء من قراءاتهم والنقاد من تحليلاتهم، فتح مقدم الندوة ( الدكتور عزالدين إسماعيل ) باب التعقيبات للجمهور فطلبت الكلمة، وحين أذن لي قمت بإبداء بعض الملاحظات علي القصائد وتوقفت عند أمل دنقل قائلا عنه إنه إن لم يخب ظني سوف يصبح بعد وقت غير طويل إن لم يكن قد أصبح فعلا واحدا من أهم شعراء العربية علي مدي تاريخها كله،... كنت إذ ذاك مازلت طالبا بالجامعة وكنت أشعر بالتهيب الشديد وأنا أواجه لأول مرة تقريبا . جمهورا يشتمل علي حشد كبير من الكتاب والنقاد اللامعين ، ويمكن القول بأنني كنت قد بدأت أرتجف بالفعل عندما وصفت أمل دنقل بالأوصاف التي وصفته بها، وعندئذ سمعت تصفيقا حادا من أحد الحاضرين تابعه الجمهور بالتصفيق بشكل تلقائي قبل أن يتبين لي أن المصفق هو أمل دنقل نفسه !! وبعد انتهاء الندوة صافحني »أمل« مصافحة حارة ودعاني إلي أن نتمشي معا قليلا، لكننا في الحقيقة تمشينا طويلا، وكم كانت دهشتي وذهولي عندما قال لي إنه يتابع ما تنشره لي مجلة الآداب البيروتية وإنه يحتفظ في ذاكرته بقصائد كاملة لي وأمن عليّ قوله بأن تلا علي بالفعل مقاطع من قصيدة ، وكان هذا آخر ما يمكن أن يخطر ببالي حتي في أكثر خيالاتي جموحا، فلم أكن لأتصور أنه يمكن أن يوجد قارئ يحفظ قصيدة لي بأكملها فضلا عن أن يكون هذا القارئ هو أمل دنقل الذي كانت تبهرني أشعاره إبهارا شديدا!!... بعد فترة من السير عرجنا علي أحد المقاهي وظللنا نتسامر إلي أن أغلق المقهي أبوابه، فاستأذنت منه وعدت إلي بيتي ،...بعدها توثقت روابط المودة بيني وبين أمل دنقل وأصبح من عادتنا كلما التقينا في ندوة ما أن نتمشي بعدها معا، وكثيرا ما كان ينضم إلينا أصدقاء آخرون لكي نعرج علي أحد المقاهي ونقيم فيه ما يشبه الندوة المفتوحة التي يتخللها قدر غير قليل من النميمة ، وقد ظللت علي تلك الحال إلي أن تخرجت من الجامعة عام 1966، وعملت محررا في مصلحة الاستعلامات ( التي أصبح اسمها فيما بعد الهيئة العامة للاستعلامات ) وبعدها انتقلت إلي العمل في البنك المركزي حيث أقمت في شقة في حي السيدة زينب القريب نسبيا من البنك. في ليلة ما زلت أذكرها من ليالي عام 1967 كنت قد أويت إلي فراشي عندما سمعت طرقا علي باب الشقة، ..كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة ليلا، ولم أكن متعودا علي أن يزورني زائر في مثل تلك الساعة المتأخرة ( نادرا ما يزورني أحد أصلا)،.. ولما كانت هناك أسباب شتي تدعوني إلي أن أتوجس خيفة من أي طارق ليل فقد توجست، واستقر عزمي علي ألا أرد، وألا أفتح الباب حتي يعلن الطارق عن هويته بأي شكل من الأشكال حتي لو كان هذا الشكل هو أن يشرع في كسرالباب، ..وهكذا أمعن الطارق في الطرق وأنا ممعن في الصمت!، ....هو مصمم فيما يبدو علي ألا يكف وأنا مستمسك بألا أرد!!..وفي النهاية سمعت صوتا حانقا يقول : "افتح يانصار ياعبدالله ياابن ال...أنا أمل دنقل ! "لوقلت هذا من البداية كنت فتحت لك" وقهقهنا معا وطلب كوبا من الشاي وسيجارة وظللنا نتسامر إلي ساعة متأخرة ، عندما سألني إن كان بوسعه أن يبيت هذه الليلة ولو في الصالة ، وكانت هناك لحسن الحظ غرفة إضافية للنوم مخصصة لوالدي (حين يجيء من الصعيد في زيارة إلي القاهرة) فقلت له إن بوسعه أن يبيت فيها، عندئذ طلب مني قبل أن يؤوي إليها أوراقا فارغة وقلما وتمني لي ليلة سعيدة... استيقظت في الصباح مبكرا وذهبت إلي عملي وحين عدت بعد الظهر كان أمل دنقل لايزال نائما ، ...إلي جواره علي السرير كانت هناك أوراق عليها مسودات قصائد.. توقفت عند واحدة منها مازلت أذكر سطورها إلي اليوم وكانت تقول أطرق باب صديقي في منتصف الليل كل الأبواب العلوية والسفلية تفتح إلا بابه تثب القطة من صندوق الفضلات ينفرج الباب فتبرز منه همهمة وعيون مرتابة وقد أصبحت تلك السطور فيما بعد مقطعا من مقاطع قصيدته: "يوميات كهل صغير السن "بعد أن قام بتعديله عدة مرات قبل أن يستقر علي الصياغة النهائية التي نشرت بها القصيدة والتي ورد فيها المقطع علي النحو الآتي: أطرق باب صديقي في منتصف الليل (تثب القطة من صندوق الفضلات) كل الأبواب العلوية والسفلية تفتح إلا بابه وأنا أطرق .. أطرق حتي تصبح قبضتي المحمومة خفاشا يتعلق في بندول ومن الجدير بالملاحظة هنا أن أمل قد ضحي ببعض العناصر الفنية التي اشتملت عليها الصياغة الأولي للمقطع وذلك لحساب عناصر أخري أكثر أهمية انطوت عليها الصياغة الأخيرة ، وعلي سبيل المثال فقد حذف السطر الذي كان يقول فيه:" ينفرج الباب فتبرز منه همهمة وعيون مرتابه" وهو بذلك يضحي بتلك القافية الفرعية القوية المحكمة ، فيما بين كلمتي: "بابه"، و"مرتابه"، ويضحي بالتالي بتلك الموسيقي الخاصة المميزة له ، لكنه في مقابل ذلك يقدم صياغة أكثر إحكاما واتساقا وإقناعا وإن تكن أوهن موسيقي. استمرت إقامة أمل عندي أسابيع عديدة عرفت فيها الكثير عن حياته وتكشف لي الكثير من جوانب شخصيته، ...كلمني كثيرا عن عدم استقراره في العمل منذ تجربته مع قلم كتاب محكمة قنا التي تركها سعيا إلي القاهرة لكي ينال مكانا في عالم الشعر والأدب ، ثم تجربته مع جمرك السويس والإسكندرية سعيا وراء لقمة العيش بعد أن لم يجد عملا في القاهرة،... ثم تركه للعمل في الجمرك وتشرده في القاهرة أسابيع طويلة قبل أن يعثر علي عمله الحالي محررا في مجلة الإذاعة والتليفزيون، وهو عمل أقرب ما يكون إلي الوظيفة الصورية لأنه لم يكن يقوم بأي عمل فيها علي الإطلاق ولم يكن يذهب إليها إلا كلما خطر له أن يزجي بعض الوقت في الدردشة مع زملاء ( العمل) ، ...ومع هذا، ورغم صورية العمل، ورغم ضآلة المرتب الذي يتقاضاه فإنه يعترف بأن تلك الوظيفة قد خففت عن عاتقه الكثير مما كان يعانيه أيام البطالة الخالصة، ...حدثني عن ليال بأكملها كان يقضيها هائما في الشوارع دون أن يجد مكانا يأوي إليه، ومن بين مارواه لي أنه في أعقاب ليلتين قضاهما هائما في الشوارع والطرقات قرر أن يزور بيت عمه أبوالوفا دنقل ( وقد كان واحدا من أثري أثرياء مصر)، وطبقا لما رواه فإن أبناء عمومته لم يستقبلوه بالحفاوة التي كان يتمناها، ولم يحاول أحد منهم أن يقدم المبادرة التي كان أمل يؤملها وهو أن يعرض عليه ضيافته ويلح عليه في ذلك إلحاحا طبقا لتقاليد القرابة الصعيدية! ، ومن ثم لم يكمل أمل احتساء كوب الشاي الذي قدموه له وانصرف مدعيا أنه مرتبط بموعد هام ، لكي يقضي ليلته الثالثة هائما في الطرقات التي استضافته قبل ذلك ليلتين !!، حدثني كذلك عن بعض الأماكن التي اهتدي إليها بعد طول التشرد والتي يمكن للمرء أن يقضي فيها ليلته بأقل التكاليف، ومن بينها مكانان تردد عليهما كثيرا، أولهما مكان يمكن للمرء أن يقضي فيه ليلته مجانا وإن كان ينطوي علي بعض العيوب، ذلك المكان هو محطة السكة الحديد (محطة مصر.. حيث اعتاد أمل أن يجلس علي أحد المقاعد في بوفيه الوجه البحري، وعندما يغلبه الإرهاق يسند رأسه إلي المنضدة ويغفو قليلا ، فإذا ما أيقظه النادل منبها إياه إلي أنه يتعين عليه أن يطلب مشروبا ، عندئذ يرفع رأسه سائلا إياه :كم الساعة؟ فإذا ما أجابه هرول مسرعا إلي الخارج أيا ما كانت الساعة وكأنه يخشي أن يفوته قطار!،... لكنه كان يهرول في الحقيقة متوجها إلي بوفيه الوجه القبلي ، لكي يكمل فيه جلسته أو نومه ،حتي إذا ما واجهه النادل عاد مرة أخري بنفس الطريقة إلي بوفيه الوجه البحري!! ... عيب ذلك المكان (محطة مصر)، وعيب تلك الطريقة أنها مرهقة دائما ، وفي الغالب محرجة أيضا، وفيما روي أمل فإن نادلا نذلا قد وضع أمامه ذات مرة دون أن يكون قد طلب كوبا من الشاي( ولم يكن في جيبه في ذلك اليوم مليم واحد) ، ويكمل أمل قائلا : بما أن ذلك النادل قد برهن بفعلته تلك علي أنه ندل ، فقد قررت أن أعامله معاملة الندل للندل، وهكذا شربت الشاي ثم غافلته في لحظة مناسبة وهربت مسرعا!!، أما المكان الثاني البديل لمحطة مصر فهو قهوة التوفيقية التي يمكن للمرء أن يبيت فيها ليلته في مقابل قرشين فقط ، وقد اصطحبني أمل ذات ليلة إلي تلك القهوة لكي أراها علي الطبيعة، وكانت تقع في أحد الشوارع المتفرعة من ميدان التوفيقية ( ميدان عرابي)، وجلسنا أنا وأمل علي كرسيين متجاورين ، وجاءنا النادل بكوبين من الشاي فأعطيناه خمسة قروش ثمن الكوبين وتركنا له الباقي ( وقدره قرش) علي سبيل البقشيش !!، وجلسنا نتبادل الحديث عندما تذكر أمل أنه يعتزم منذ أكثر من أسبوع أن يبعث بقصيدته الأخيرة " البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"،إلي مجلة "الآداب" البيروتية عن طريق البريد المسجل ، لكن المشكلة تكمن في أنه ينام بعد الفجر ثم يستيقظ متأخرا، وأنه يكتشف كلما توجه إلي مكتب البريد أن المكتب قد أقفل أبوابه، وسألني إن كان بوسعي أن أرسل القصيدة إلي الدكتور سهيل إدريس ، ولحسن الحظ فقد كان في حقيبتي أوراق فارغة ، أعطيته واحدة منها فراح يسطر عليها سطور قصيدته بخطه الجميل الذي لا يختلف عن خط المطبعة ( اثنان ممن عرفتهم من الأدباء يتفوقان في جمال خطهما علي أمهر خطاط ، أما الثاني فهو الكاتب الساخر محمد مستجاب الذي رحل عن عالمنا )، وعندما فرغ أمل من كتابة قصيدته، أعطانيها ، ثم عدنا إلي الحديث بينما كان أغلب رواد القهوة قد عقدوا أيديهم علي مناضدهم ووضعوا رءوسهم عليها وارتفعت أصوات الغطيط والشخير ونحن ممعنان في الحديث ، ومع تباشير الصباح راح النادل يوقظ النائمين إيذانا لهم بأن مفعول الطلب الذي طلبوه بالأمس قد انتهي ، وأنه يتعين علي كل منهم أن يطلب طلبا جديدا بقرشين إذا كان يرغب في مواصلة الجلوس في المقهي. كان أمل عاشقا حقيقيا للشعر: من أجله تشرد، ومن أجله عاش، بل ربما كان بسببه أيضا بشكل أو بآخر أنه أحب من أحب وخاصم من خاصم ،... كان يحفظ قدرا هائلا من الشعر القديم والجديد، ولم يكن يتحفظ في إبداء إعجابه بما يعجب به إلي حد أنه كان يترنم دائما بالمقاطع التي تعجبه لسبب أو لآخر من هذه القصيدة أو تلك مثلما يترنم الناس بالأغنيات التي يفضلونها حتي لولم يكن أمامهم أومن حولهم سامع ، والغريب أنني كثيرا ما سمعته وهو يعد الشاي في المطبخ،أو يثبت زرارا في قميص ، أويقوم بنشاط آخر غير القراءة، كثيرا ما سمعته يردد مقطعا من قصيدة لنزار قباني يتكلم فيه عن إرهابية يهودية من شرق أوروبا انضمت إلي إحدي التنظيمات العسكرية الصهيونية في فلسطين يقول فيه : كان أبوها قذرا من أقذر اليهود يزور النقود وهي تدير منزلا للفحش في براغ وحين سألته عن سرّ كل هذا الإعجاب الذي يكنه لهذا المقطع بالذات به قال لي إنه لايجد لذلك تعليلا ، سوي أن المقطع يفرض نفسه دائما علي ذاكرته ولسانه، ولم أجد بدوري لذلك تعليلا سوي أنه يمثل البنية الموسيقية الأساس التي طورها أمل فيما بعد وأصبحت من الخصائص الفنية لقصيدته،.... وكما كان أمل دائم الترنم بما يعجبه من الشعر فقد كان في الوقت ذاته لا يتحفظ إطلاقا في إظهار ضيقه بما يضيق به منه، وأذكر أنه عاد يوما من مقر عمله في مجلة الإذاعة والتليفزيون حاملا معه ديوانا من الشعر أهداه إياه أحد الشعراء من زملائه في العمل ، ..قال لي : لقد أهداني الأستاذ ( ...) نسخة من ديوانه ، وخجلت أن أقول له إنه بكل تأكيد لا يستحق القراءة ، خجلت أن أقول له هذا لأنه من الحساسية المفرطة والتهذب والأدب الجم إلي الحد الذي تضعف أمامه حتي شراستي ، هل تريد أن تتصفح الديوان؟، قلت له: كلا فقد قرأت ما ينشره صاحبه ، وهو في مجمله كلام فاتر هامد ممل، قال أمل : إذن لم يبق إلا .... وأمسك بالديوان مطوحا به من النافذة ملقيا به إلي الشارع!!!.