كتب صامويل كوليردج في مذكراته عام 1804، حين كان في سن الثانية والثلاثين: "لقد مر عام كامل دون أن أكتب، يا للأسف والعار، لقد صرت خاوي الوفاض". لقد كان هذا حقيقياَ، فقد كتب قصائده الشهيرة في عقده الثاني، وأهدر ما بقي له من العمر في تعاطي الأفيون. وحين سأله أحد الأصدقاء: "كيف حدث هذا؟ وكيف لم تتمكن من شحذ عزيمتك مرة أخري؟"، فكانت إجابته: "تطلب مني التضرع إلي الرب، وأزمتي الحقيقة تكمن في عجزي عن رفع يدي للتضرع". كان كوليردج هو أول حالة معروفة لتبلد الكاتب، التي يتوقف فيها الكاتب تماماً، أو يعجز عن كتابة ما يريد، أو يكتب ما يعتقد أنه لا يستحق النشر. ولقد ثار جدل في القرن التاسع عشر حول طبيعة الكتابة كنشاط ذهني يمكن السيطرة عليه، وبينما رأي رواد الحركة الرومانسية أن الشعر حالة خارجة عن إرادة الإنسان، ولقد عبر شيلي عن تلك الفكرة بقوله: "الشعر نتاج تأثير غير ملموس يشبه الرياح المتقلبة". وبهذا المفهوم، ليس علي الشاعر سوي أن ينتظر الوحي. وكان وليام وردزورث قد كتب أفضل قصائده في العقد الثاني من العمر هو الآخر، وكتب في تبرير هذا: "يبدأ الشاعر حياته سعيداً، ثم ينتابه القنوط والجنون". وإلي جانب مجموعة الرومانسيين الانجليز، ظهرت مجموعة الرمزيين الفرنسيين، الذين عرف عنهم التوقف عن الكتابة. فلقد هجر رامبو الشعر في التاسعة عشرة علي نحو غريب. ثم جاء من بعده بول فاليري الذي كتب الشعر والنثر في بدايات العقد الثاني، ثم توقف عن الكتابة قرابة العشرين عاماً، وعاد يكتب من جديد بإلحاح من أصدقائه. ولم يتمكن الفرنسيون من التعبير عن حالتهم كما فعل "كوليردج" أو وردزورث، ولم يتحدثوا عن مشاكل ميتافيزيقية، أو حتي نفسية. لقد كانت أزمتهم مع اللغة: كيف تتخلص من غموضها، وطبيعتها النمطية لتصل إلي التعبير عن تجربة طبيعية حقيقة. كانوا يريدون مشرط جراح، إلا أنهم حصلوا علي ساطور جزار. ومن المدهش رؤية حالات توقف عن الكتابة في القرن التاسع عشر، الذي اتسم بغزارة الإنتاج، خاصة من جانب الروائيين مثل بلزاك، وهوجو، وديكنز. كانوا يكتبون بلا توقف، ويفخرون بقدرتهم علي الكتابة، وكانوا يكتبون لمدة ساعات طويلة، وبعد الانتهاء من رواية، يشرعون في كتابة رواية جديدة. لقد نشرت جويس كارول أتوس ستاً وثلاثين رواية، وواحدة وعشرين مجموعة قصصية، وتسعة دواوين، واثني عشر كتاباً إلي جانب عملها بدوام كامل بجامعة بريستون. وسألها أحدهم في مقابلة: "هل تعرضت للإجبار من أجل إنجاز كل هذا الكم من الكتب؟". وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية، كانت الفترة الذهبية للتبلد في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ولقد شهدت تلك الفترة اهتماماً بالتحليل النفسي، وذهب الكثير من الكتاب الأمريكيين إلي الأطباء النفسيين، وكتبوا عن علاقة الأدب بمرض العُصاب، وتم ترديد عبارة الجنون الخلاق، وتبرير التوقف عن الكتابة لأسباب نفسية. ويري بعض علماء النفس أن الكتاب مرضي نفسيون، وكان من أبرزهم عالم النفس "إدموند بيرجلر" الذي وضع أكثر النظريات تماسكاً حول التبلد. لقد صك هو ذلك المصطلح ثم أوضح أسبابه: التلذذ الشفوي بتعذيب الذات، والوقوع في أسر مرحلة الفطام عن الرضاعة. إن الكاتب الذي تضور جوعاً في فترة الرضاعة، سيتضور جوعاً مرة أخري ويتوقف عن الكتابة. لقد زعم "بيلجر" أنه عالج أكثر من أربعين كاتباً بمعدل نجاح بلغ نسبة 100٪. وقال ذات مرة إنه لم ير من قبل كاتباً طبيعياً من الناحية النفسية؛ حتي وإن سار عمله علي ما يُرام، فإنه يعاني من اضطرابات عُصابية في حياته الشخصية. وما يُعوض الكاتب هو جنون العظمة لقدرته علي الإبداع؛ وهو ما ينتج نوعاً من البهجة لا يعرفها غيره من البشر. وينصب تركيز علم النفس اليوم علي كيمياء المخ أكثر من تركيزه علي اللاوعي، وهو ما ينطبق علي علم النفس حين يتناول توقف سكتة الكتابة. ويتم معالجة الكتاب الذين توقفوا عن الكتابة باستخدام العقارات المضادة للاكتئاب، رغم ما يُثار حول ما يسببه العقار من تقليص الرغبة في الكتابة، وإثارة الإحساس بالندم لعدم الكتابة. ويتناول كتاب آخرون عقاقير تحفز نشاط المخ اعتماداً علي نظرية أن مشكلة التوقف تنبع من حالة تشتت. كما وصل الأمر إلي حد ظهور نظريات بيولوجية لتفسير عملية الإبداع وحالات توقفها. وظهر كتاب عام 1993 بعنوان: "مسّتهم النار: مرض الاكتئاب الهوسي والمزاج الفني"؛ ويري مؤلفه "كاي ريدفيلد جامسون" أن مرض الاكتئاب هو السبب الرئيسي في كتابة أجمل القصائد منذ القرن الثامن عشر حتي القرن العشرين. وهناك كتاب آخر بعنوان "مرض منتصف الليل: الدافع للكتابة، التبلد، والعقل الخلاق"؛ وتعتقد مؤلفته أليس فالهرتي أستاذة الأعصاب في جامعة هارفرد، أن التشتت الذهني قد يؤدي إلي تعطيل الخيال الإبداعي. كما أسهبت في وصف المراكز العصبية المسؤولة عن الإبداع في المخ، وتري أن مشكلة التوقف عن الكتابة مرتبطة بالفص الأمامي في المخ، لأن أعراض التوقف تتشابه مع أعراض خلل ذلك الفص. وتري أن علاج حالة التوقف عن الكتابة قد يكون مُتاحاً في وقت قريب من خلال ما اسمته "عملية الحث المغناطيسي"؛ من خلال معالجة مناطق مُعينة من الجمجمة بالمجالات المغناطيسية. ويميل علاج هذه الحالة في الوقت الراهن إلي العلاج السلوكي الإدراكي، الذي يُدربك علي مراجعة أفكارك ومفاهيمك من أجل تغيير السلوك الذي يصيبها بالتشوش. وهناك عدد من الكتب ومقاطع الفيديو التي تتناول هذه الطريقة في العلاج، إلي جانب العلاج الفردي لدي طبيب مُتخصص. وتعد بعض تلك النصائح علي درجة من الأهمية، خاصة للكتاب الشباب. وتعتبر أغلب هذه النظريات حالة التبلد بمثابة حالة ذهنية يمكن أن تصيب أي شخص، مثلها مثل كل حالات التشوش النفسي. لكن، تظل الحقيقة، أن بعض الكتاب يتوقفون عن الكتابة نتيجة ظروف مُعينة. هناك قصة "جوزيف ميتشل" الكاتب بجريدة "نيويوركر". لقد كتب عدداً من المقالات العبقرية، وبعد نشر واحدة من أعظم مقالاته عام 1964، توقف تماماً عن الكتابة، وحكي أحد أصدقائه أن سر تبلده هو قول أحد النقاد له "أنت أعظم من يكتب الجملة المُباشرة باللغة الانجليزية"، ولم يكتب كلمة واحدة بعدها لمدة ثلاثين عاماً. ومن المصادفات الغريبة، أن آخر مقالات "ميتشل" وأعظمها كانت عن كاتب أصابه التبلد وتوقف عن الكتابة. وتعد قصة نجاح سكوت فيتزجيرالد المُبكر، وإخفاقه المبكر، نموذجاً واضحاً لا يرتبط بموهبته، ولكن بتقديره لما كُتب عنه وعن أعماله الأدبية. لقد قال في عام 1937 إن "النجاح المُبكر يخلق لدي الشخص مفهوماً قدرياً لا يجعله يعتمد علي قوة الإرادة. من ينجح سريعاً، لا يتسني له الاعتماد علي إرادته". وأعلن في ذلك العام أنه انتهي كروائي، وأنه سوف يتجه إلي هوليوود ويكتب سيناريوهات الأفلام من أجل جمع بعض المال. حاول بعد سنوات أن يكتب رواية جديدة عن الحياة في هوليوود، إلا أنه مات قبل أن يكملها. مات وهو يظن أن العالم نسيه وتجاهل إبداعه. قد يسبب نجاح الرواية الأولي أزمة "متلازمة الرواية الثانية"، التي قد تؤدي إلي انغلاق عقل الكاتب تماماً حين يجلس ليكتب روايته الثانية. لقد كتب "جيفري يوجينايدز" روايته الأولي عام 1993، وحققت نجاحاً باهراً، إلا أنه استغرق تسع سنوات حتي أصدر روايته الثانية. وحين سألته عن سبب تأخره قال إن السبب يكمن في أن الرواية الثانية كانت أكثر طموحاً من الرواية الأولي.. لا ينتظر أحد كتابك الأول، ولا يهتم أحد متي ستنتهي منه. وبعد أن يصدر، ينتظر الجميع منك المزيد وتصبح فجأة كاتباً مُحترفاً، وتصبح آلة تنتج الأدب. تعرف أنك ستستمر علي هذا المنوال حتي يتحول وضعك من "ليس لدي ما أخسره"، إلي وضع "قد أخسر كل شيء"، وهنا يبدأ الفزع. ينبغي أن يكون الإبداع عملية ممتعة، إلا أنه يمثل مشقة للكثير من المُبدعين. إنهم لا يعرفون السبب، ويفضلون عدم التفكير فيه. لقد ألمح المحلل النفسي "دونالد كابلان" أن مرضاه من المبدعين نادراً ما يناقشون أعمالهم الإبداعية معه، وإن حدث وقرروا الحديث عن أعمالهم، يقتصر الحديث حول تبرير تلك المشقة عن المُنغصات من حولهم: ضجيج الأطفال، والصحفيون المزعجون. ويتوقفون عن العلاج النفسي بمجرد أن تزول الأمور التي تسبب لهم الضيق. لا يعرفون، ولا يهتمون بمعرفة العوامل النفسية الكامنة خلف العملية الإبداعية. إنهم يريدون مواصلة عملهم طالما كان بمقدورهم القيام به. قال ذات مرة إنه لم ير من قبل كاتباً طبيعياً من الناحية النفسية؛ حتي وإن سار عمله علي ما يُرام، فإنه يعاني من اضطرابات عُصابية في حياته الشخصية