في وقت تحتشد الدولة والمجتمع كله في مواجهة الإرهاب، وتطرح قضية المواجهة الثقافية لمنابعه وتداعياته المتشحة بوشاح الدين، فوجئنا في 12 مايو الماضي برسالة ضمنية تتسلل إلي داخل مبني أتيليه القاهرة للفنانين والكتاب تحمل إلي الفنانين والمثقفين رسالة من كلمتين: «نحن هنا» الرسالة لم تكن مكتوبة بالكلمات، بل بسنِّ أداة حادة مزقت أجزاء من لوحة زيتية من أعمال كانت معروضة بإحدي قاعات المعارض بالأتيليه، اللوحة عنوانها «آدم وحواء» رسمتها عام 1996 وعرضتها ضمن حوالي 100 لوحة في معرضي الاستعادي الذي أقيم بمناسبة عيدي الماسي. كان الجاني ولا يزال مجهولا، ولا نعرف هل تسلل من أحد بابي الأتيليه وصعد إلي الدور الثاني حيث تعرض اللوحة، أم كان موجودا وكامناً داخل المكان ويتحين الفرصة المناسبة لتنفيذ فعلته في وقت تخلو فيه القاعة من الزائرين؟، وهل هو أحد المنتمين إلي التيارات الدينية المتعصبة، أم هو مجرد شخص متزمت استفزه موضوع اللوحة وما تخيلة الفنان، متناقضاً بذلك مع الصورة الواردة في الكتب المقدسة عن خلق آدم وطرده من الجنه، بما يحمله ذلك من شبهة الكفر الذي يستوجب العقاب، أم هو مجرد شخص حاقد أراد الانتقام مني أو من الفنانين عموماً بمثل هذا العدوان ؟! في كل الأحوال يظل الخطر قائماً من تكرار مثل هذا الفعل أو ما هو أسوأ، وقد انتفض ضمير الفنانين والمثقفين مرارا قبل وبعد ثورة 25 يناير 2011 (ربما بلغ أشده عقب محاولة اغتيال نجيب محفوظ) للتنبيه إلي خطورة زحف التيارات الطلابيه نحو الإبداع الفني والأدبي والفكري ومحاولة تكفير كل من يختلف مع ما يراه أصحابها علي أنه ثوابت دينية، ومحذرا من تغولها، كما انتفض ضمير الرأي العام ولا يزال ضد مظاهر العنف والبلطجة والعدوان والتي تفاقمت بعد ثورتي يناير ويونيو، وتصاعدت آراء المفكرين وأصحاب الرأي منبهة إلي أن جذر الظاهرتين ثقافي بالدرجة الأولي، ودعوا إلي تغيير توجهات العمل الثقافي عموماً وفي وزارة الثقافة خصوصاً نحو سياسة ثقافية جديدة تحل محل الثقافة السائدة لدي التيارات المتشددة ولدي المهمشين والمهيئين لاعتناق الأفكار المتعصبة، أو المقهورين الناقمين علي المجتمع، وهم بيئة خصبة للإرهاب والتخريب، ولتوجيه غضبهم نحو المجتمع، لكن أحداً من واضعي السياسات الثقافية في كل مواقعها لم يقم بعمل جدي لتبني مشروع قومي لهذه المواجهة الثقافية، كل ما هناك كان تصريحات ووعودا ولجانا وشعارات.. لم توضع موضع التنفيذ، إلا قليلاً يتم عمله بشكل فردي وجزئي لا يغير القاعدة ولا يحمل معني «المشروع القومي»، وقد عايشنا منذ قيام الثورة تشكيل سبع وزارات للثقافة وستة وزراء لها.. ولا جديد علي أرض الواقع! إن حادث الاعتداء علي لوحة آدم وحواء لا ينبغي النظر إليه كحادث فردي أو لوحة تخصّ فناناً بعينه أو حتي تعبر عن موضوع بعينه، بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف حوله، بل هو إشارة إلي تحول نوعي في التعبير عن صراع كامن تحت السطح بين المتعصبين وأصحاب الإبداع، من التعبير عن الخلاف بالرأي والكلمة إلي التعبير بالعنف العدوان، وينطبق هذا التحول علي بقية الدوافع غير الدينية التي أشرنا إليها، بتحول طاقة الغضب لدي الناقمين علي المجتمع والفن والفنانين إلي أفعال انتقامية وإجرامية متقلبة. وها نحن نري عناصر التخريب إياً كانت نوعياتها ودوافعها قد دخلت إلي عقر دار الفنانين والمثقفين منبئة بما هو أسوأ. هذا هو المعني الذي لم يدركه أعضاء مجلس إدارة أتيليه القاهرة بكل أسف، حيث إن رئيس الأتيليه وزملاءه لم يبادروا بالتضامن ضد ما حدث، بإصدار بيان أو قرار يتضمن مسئولية الجمعية عما يجري في المكان، بل تناثرت أقوال متفرقة من بعضهم بعدم مسئولية الأتيلية عن المعرض حيث يقوم صاحبه بأستئجار المكان وعليه أن يحميه بنفسه، ناهيك عن أنني لم أتلق أي اعتذار من مجلس الإدارة أو أي شكل من أشكال التضامن معي، وعندما انتشرت أصداء الحادث علي صفحات التواصل الاجتماعي والبوابات الالكترونية اعتبر مسئولو الأتيليه أنها حملة مدبرة من جانبي وممن يقفون معي لتشويه صورته، ناسين أنني الذي بادرت باختيار الأتيليه لإقامة معرضي به، لانتشاله من انهياره الوشيك بعد أن دبت فيه الصراعات الأهلية وتفاقمت المشكلات بداخله وساءت حالة المبني واعتمت أنواره حتي بلغت درجة أن أنفض كبار الفنانين عن العرض فيه، وبات المبني لا يزيد علي مقهي في وسط البلد، آثرت أن أبدأ بنفسي بكسر هذا الجدار واستضافة جمهور كبير رفيع المستوي ليدخل الأتيليه لأول مرة منذ سنوات بعيدة، وكانت أمامي فرص العرض بغير مقابل وبلا حتي تحمل نفقات المطبوعات والإعلانات والدعوات في أي قاعة من قاعات الدولة أو القاعات الخاصة، فإذا بهم يرددون في الكواليس أن الأمر لا يستحق كل هذه الضجة، بل يذهب رئيس الأتيليه إلي ادعاء أن اللوحة تعرضت للتشويه أثناء نقل المعرض قبل افتتاحه، وقد كذبت الصور التي ظهرت فيها اللوحة عند افتتاح المعرض هذا الإدعاء، وهنا ذهب إلي الترويج بأنني قمت بتشويه اللوحة متعمداً حتي أجعل من نفسي ضحية! أردت أن أعبر عن احتجاجي علي الحادث بشقيه: (العدوان من جانب الجاني، واللامبالاة والادعاء بأنني اختلقت المشكلة من جانب قادة الاتيليه) وذلك بشكل حضاري، وهو تنكيس اللوحات علي الأرض وتركها ليشاهدها الجمهور مسنودة علي الجدران، وعندما ذهبت في نهاية فترة المعرض لحمل اللوحات إلي مرسمي، فوجئت باختفاء لوحة آدم وحواء المطعونة في أكثر من مكان، وقيل لي إن رئيس الأتيليه أخذها وتحفظ عليها حتي انتهاء التحقيق الذي لم يبدأ أصلاً ولم نعرف أساساً أنه سيتم، ثم قيلت تبريرات غريبة مثل أن الأتيليه لن يسلمها إليَّ إلا بعد أن أكتب تعهداً بعدم اتخاذ إجراءات قانونية ضد المجلس، كل ذلك ورئيس المجلس الذي أجمع الكل علي أنه هو من أخفي اللوحة بقرار منفرد غائب عن المكان وقد سافر إلي بلده، الأمر الذي خلق أزمة كادت تنتهي في قسم الشرطة وسراي النيابة في مواجهة جريمة جديدة فاعلها معروف هذه المرة، وهي اختفاء لوحة آدم وحواء!.. لولا تدخل عضو المجلس الفنان أحمد الصعيدي الذي تحمل بشكل شخصي مسئولية إخراج اللوحة من مخبئها وتسليمها إليَّ بعد ساعات من المفاوضات العبثية. قد تكون مشاعري الآن في غمار حالة الصدمة المزدوجة هي مشاعر مَن قُطع الحبل السري بينه وبين المكان الذي أحبه وأنفق 20 عاماً من عمره في خدمته والمشاركه في الارتقاء به ثم اكتشف في النهاية أنه أضاع هذه السنين عبثاً، لكنني مع قدر من الهدوء والتروَّي أقول: لا ينبغي أن يكون موقف الشرفاء والمناهضين لقوي التخريف مقصوراً علي مواجهة مثل هذا العدوان والتحذير من زحفه إلينا، بل ينبغي أن يضاف إليه ضرورة التكاتف لإنقاذ الأتيليه من نفسه، لأنه بهذا المنهج الإنكاري في مواجهة الأزمة، وبمثل هذا الموقف السلبي واللامسئول يمهد الطريق للقوي الظلامية لتقتحمه وتعيث فيه فساداً.. وبهذا نخسر أعرق مؤسسة أهلية كانت في يوم من الأيام قلعة للمثقفين المستقلين والمدافعين عن الحق والحرية والإبداع.