كان طبيعيا ان يبدأ الكاريكاتير في مصر سياسيا فكرا وموضوعا نظرا للظروف التي كانت تعيشها مصر من احتلال وفقر وقصر فاسد وتناحر بين الاحزاب وهو مناخ جيد لصناعة الكاريكاتير السياسي الذي يغلب عليه الخطابية والاهتمام بالرمز واحيانا التصريح بالرمزية كما فعل سانتيس الرسام الاسباني علي صفحات مجلة الكشكول وهي المجلة التي كانت تمول من بعض الرجال المحسوبين علي القصر لتشويه صورة زعيم الامه سعد زغلول فراحت المجلة تنتقد سياسة الوفد اسبوعيا من عام 1924 وحتي 1931 وتراجعت الفكرة الاجتماعية علي حساب الكاريكاتير السياسي وكان نجومه الاسباني سانتيس علي صفحات مجلة الكشكول والتركي علي رفقي والآرمني صاروخان الذي حصل بعد ذلك علي الجنسية المصرية بعد ثوره 1952 .. وظل الكاريكاتير السياسي البطل حتي جاء جيل ثورة 52 ( صلاح جاهين بهجوري حجازي رجائي ) وتحول شكل الكاريكاتير الي التخلص من الكثير من الخطوط والاهتمام بالرمزية والتأكيد علي خفة دم الشعب المصري بالافكار الاجتماعية التي هي في صميم المشكلة السياسية وحاول هذا الجيل التأكيد ان الحديث عن الازمات الاجتماعية من البيروقراطية او ازمات العيش والبطالة هي كلها افكار سياسية .. وتعود المتلقي المصري والعربي علي الشكل الجديد للكاريكاتير وراح هذا الجيل في الترسيخ لمدرسة الكاريكاتير في العصر الحدث ومهد الطريق الي الجيل الثالث من رسامي الكاريكاتير ( جمعة تاج رؤوف سمير اللباد محسن بطراوي ) كوكبة شبابية يسعي كل منهم لصنع اسلوب خاص البعض التزم بالتقليد الحرفي حتي تخلص منه سريعا والبعض راح الي فكرة التجريب حتي الوصول الي الاسلوب الذي يرتاح اليه والبعض فكر في الاجتهاد الشخصي .. فكان الفنان جمعة وهو طالب قفشه الاستاذ البرت مسيحة مدرس اللغة الانجليزية يرسم اثناء الشرح علي كشكول الدرس رسوما يسخر فيها من الجميع وسط حالة الرعب للتلميذ جمعة ابتسم الاستاذ وتحول من رجل ضخم الجثة الي شخص هادئ وجد راحة باله في تلميذه ودعاه الي منزله واحضر له كتابا عن الكاريكاتير باللغة الانجليزية وقدمه الي مدرسة الكاريكاتير مجلة روزاليوسف ليشهد رسومه الفنان بهجت عثمان ويثني عليها وكان اول رسومه المنشورة في 1958 شهر رمضان وجمعة مازال طالبا بكلية التجارة جامعة فؤاد الاول ولكن لاحساس خاص يملكه جمعة وحده احس ان عليه ان يبذل الوقت والجهد اكثر وهمس في اذنه ان رسومه تحتاج الي بعض الوقت وانقطع لبعض الوقت واخذ يراقب اكثر ويصنع الاسكتشات ويرسم الناس والاحياء ويصنع حالة من الخطوط الخاصة ويرتكن الي خطوط للبورتريه ماركة جمعة فقط .. وعندما استراح الفنان داخله الي خطوطه ذهب مرة اخري الي بيته مجلة روزاليوسف ليلتقي بأستاذ آخر الفنان ناجي كامل والذي يعتبره الاستاذ الحقيقي له .. وعندما شاهده حسن فؤاد صياد النجوم الماهر ويكتشف موهبته لينشر بعده صفحتي البورتريه والفكرة السياسية وتنطلق موهبته الحقيقية ويصنع لنفسه الاسلوب الخاص والريشة التي تعرف مداد الحبر وحجم الورقة البيضاء وصناعة الكتلة داخل المساحة لتنفجر فكرة قد تؤدي بصاحبها الي السجن في ظل انظمة لم تكن تدرك معني المعارضة وهي الناصية التي كان يرتاح اليها جمعة لايقف إلا علي ناصية المعارضة ذات توجه يساري يتفق مع انتمائه السياسي وهو الناصري الهوي حتي عندما رسم في جريدة الوفد فإنه كان يمثل اليسار داخل اليمين وهي التجربه التي يتحدث عنها ( عندما عرض علي العمل في جريدة الوفد عام 90 ترددت كثيراً وظللت شهرين حتي اعطيهم الموافقة علي العمل وكنت اعمل في الجريدة التي كانت تحترم توجهاتي السياسية واستشرت اكثر من صديق من رسامي الكاريكاتير وقال لي حجازي ياجمعة نحن مسئولون عن التاريخ وليس الجغرافيا بمعني ان التاريخ اليومي هو مهمتنا اي مايحدث والمكان ليس مسئوليتنا أما الفنان زهدي فقال لي رسام الكاريكاتير يحتاج الي نافذة يطل منها كل يوم وهذا ماتمثله الجريدة اليومية ) .. ولانه فنان حقيقي ظل يرسم الكاريكاتير في كل الجرائد المعارضة بانتمائه الفكري وليس بهوي الجريدة فعندما غيرت جريدة الشعب من توجهها السياسي تركها جمعة فورا ليرسم بالاهالي .. يرسم مايتفق مع فكره وحالته الوجدانية لانه يصنع موقفا وليس تاجر شنطة حتي في اختلافه مع النظام بعد التضييق علي رسومه بعد مواقفه السياسية من اتفاقية كامب ديفيد او ربما الاختلاف مع رئيس تحرير جاء من منظومه فكرية اختار جمعة الرسم للطفل في مجلة ماجد لمدة ثلاث سنوات كاملة يرتاح فيها المحارب داخله ويشحن بطارية الصمود التي ظلت تنبض وتشعر وتحس. لم يترك عشقه الكاريكاتير ولكنه اختار زاوية اخري . تمام لا يختلف عن الخط المستقيم في رسومه فهو خطوطه لاتختلف ولا يختلف عنها .. هكذا كان مفتاح الفنان زهدي عن جمعة في مقدمته الرائعة عنه (لكل فنان منهجه في ترتيب مفاجآته وبها يتشكل اسلوبه الخاص في التعبير الكاريكاتيري وهذا المنهج لا يأتي من فراغ وبعيدا عن الخصائص التي تتحدد بالتفاعل بين شخصية الفنان والبيئة التي ينشأ ويتواجد فيها فمن هذه الخصائص وليس بدونها يمكن التعرف علي فكر الفنان وبالتالي فلسفته تبقي كلمه الصفة البارزة عند جمعة انه يمتلك حسا فنيا راقيا كما يمتلك قدرا لابأس به من شجاعة المحاولة بجرأة واستقلالية وهو في الغالب يعتمد علي اعتقاد وثقة فيما يتمتع به من فطرة سليمة فرسومة تبدو كما انه يعتمد علي ابرازها ممزوجة بقدر من التلقائية الفطرية ) وشهادة الفنان زهدي تبقي كما تبقي ورقة البردي شاهدة علي ان هنا كانت حياة وان البشر عرفوا الحضارة من ارض النيل وان السخرية والرسوم كانت مع الانسان الاول وان رسوم جمعة حافظة للتطور السياسي المصري والعربي والعالمي تنقل وجهة نظرنا العربية تجاه الممارسات القمعية لكل الانظمه القمعية في العالم وتبقي رسومه عن القضية الفلسطينية سهم نافذ الي قلب زعماء الصهيونية وهو صاحب اللوحه الشهيرة التي رسم كل رؤساء اسرائيل يحمل كل واحد منهم مذبحة شهيرة حتي من يحاول منهم التمسك بالسلام المذعوع خلعت ريشته ورقة التوت وبانت عورته وكشفت زيف الادعاء الكاذب .. واستطاعت ريشته فضح المزاعم من خلال وكيل اعماله الذي يراسله وتنشر رسومه في اكثر من 112 جريده امريكية و5 اوربية و5 اسيوية. وطقوس الفنان داخل جمعة خاصة فليس له صومعة خاصة ولكن صومعته الناس والبشر فهو حالة اجتماعية خاصة يعشق العمل الجماعي ظل يحلم مع الفنان زهدي بحلم الجمعية المصرية للكاريكاتير وله نشاطه الخاص بها لايشغله عمله الخاص عن العمل الاجتماعي الاقرب لكل الاجيال يحفظهم ويحفظ اعمالهم يعرف هواة الفن ومحترفيه يتحدث عنهم بحب قد ينزعج البعض من نصائحه بضرورة رسم مايناسب جيلك هنا يقصد انك الاقرب الي المشكلة اكثر من جيله ولكنه يحب الاجيال ويعشق نجاحهم .. ويبقي السؤال هل أخذه الكاريكاتير السياسي عن الكاريكاتير الاجتماعي .. جمعة الذي بدأ في الفترة الناصرية يرسم الكاريكاتير الاحتماعي وكل الرسامين كانوا يداعبون هذه الفترة ولكن كان دائما علي الفنان الحديث عن كل شيء بشكل غير مباشرة وكان الرمز هو السيد والكاريكاتير السياسي اغلبه خارجي يتماشي مع الحالة المزاجية للفترة حتي كانت فترة النكسة وقبل ان يصل الكاريكاتير الي مرحلة جلد الذات اختلف الكاريكاتير الي الغرض التحفيزي وتوارت السخرية ولفترة السادات يقول جمعة ( لقد اختلفت مع السادات بعد كامب ديفيد والكثير تركوا مجلة روزاليوسف ولم اتركها لعملي بها وكنت ارسم وقتها عن السلام بالمفهوم العام وعن القضايا الاجتماعية وعن احداث سنه 1977 قلنا انها ثورة شعبية ولم نقل انتفاضة حرامية ) .وجمعة صاحب شخصية محارب طول الوقت لقد وقف وحده يحارب توغل الفنان لوري الصهيوني الذي كان يحاول ان يرسم في الصحف المصرية مدعيا انه مناصر للقضية العربية ولكن ظل جمعة المحارب يكشف كل يوم بالقلم وتخلي عن الريشة يكشف زيف وادعاءات هذا الفنان وقف صلبا لا يلين ابدا وتلك طبيعته المحاربه كرسومه ثابتة تؤمن بقضية ويعرف طريقه ويحدد بوصلته جمع رسومه في كتاب عالم ساخن جدا يحمل احلي رسوم سياسية يمكن ان تراها عين فكرة وتنفيذا .. وفي كتابه الثاني 4 حكومات ومعارضة يلخص حكومات مرت علي مصر ويتعرض معك بكل هدوء وصخب في نفس الوقت كيف تسعي كل حكومة الي تثبيت الكرسي ويشرح جمعة سياسة في قالب ساخر يملك مشرط الجراح الماهر الذي يعرف موطن الجرح ولايخفي علي مريضه وقد يعتقد البعض ان الطبيب يقسو علي مريضه ولكنه جمعة لايعرف الزيف ولا انصاف الحلول واضح ابيض نقي .. صاحب ريشه خاصة وحالة تعرف انها تعبر عن ضمير وطن يرتاح الفنان داخله عندما يسمع من يلقبه بالسياسي والفنان يقبل منك النقد ويعترف به ولايخجل وانا احدثه انه غير معجب بهذا العمل ولكنه يبتسم لانه استطاع ان يعوضه بفكرة تقف عندها كثيرا .. صاحب مدرسه خاصة به خطوط واضحة مستقيمة ثابتة مجربة فيما ندر عندما ارتاح لاسلوبه الذي اختاره لنفسه جرب داخله بهدوء ولم يزعج القارئ بالدهشة في الاسلوب ولكنه اراد ان ترتاح عين القارئ بسرعة تجد توقيعه .. فنان ذكي جدا حتي في عز دهشته