لا يمكنك إطلاقًا الالتزام بالحياد عندما تتعامل مع "ريش"، اجتيازك الخط الفاصل بين حياة فاترة وأخري تشتعل بالأحداث، ولو كانت منتهية، يجبرك علي التخلص من ركود أصبح سمة مميزة للجميع. كانت تلك مقدمة ملف كامل عن مقهي "ريش" أعددته لأخبار الأدب، ونشر في 27 فبراير 2000، ووجدت نفسي هذه الأيام في حاجة للعودة إليه بعد رحيل صاحب المقهي مجدي عبد الملاك، الرجل الذي حافظ علي المكان خلال فترة تحول فيها الوجه الثقافي والحضاري لوسط البلد إلي آخر استهلاكي بذوق متدنٍ للغاية. في اليوم الذي رحل فيه عبد الملاك فتحت مواقع التواصل الاجتماعي النار عليه، سيل من الشتائم والانتقادات بدا معه أن الرجل الذي عرفته لسنوات كان في حقيقة الأمر نازيًا هاربًا من المحاكمة، ومقهي "ريش" ليس أكثر من محرقة عرقية، وإذا كانت النازية قد سقطت وأصبح مجدي مجبرًا علي الاختباء فإنه لم يكن قادرًا علي إخفاء ميوله وعدائه لفئة من الشعب المصري.. وبينما كان قائده هتلر محددًا في كراهيته لجنس معين، فإن عبد الملاك لم يلتزم بتلك القاعدة البديهية بل وسع من دائرة الانتقاء حتي شملت الجميع تقريبًا، كما فهمنا من مواقع التواصل الاجتماعي التي لديها الحقيقة المطلقة دومًا، فهو كان معاديًا للمحجبات، لأساتذة التاريخ، للمرشدين السياحيين، الشعراء، الروائيين، الباحثين، الموسيقيين، العابرين، والقائمة تطول، حسب ما أكده مستخدمو الفيس بوك وتويتر، والذين حكي كل منهم قصة يدلل بها علي تعالي الرجل وعنصريته وطبقيته لتشعر، إن كنت مثلي من رواد هذا المكان، بالخجل من نفسك، لأنك بهذا الشكل كنت مشاركًا في واحدة من أكبر جرائم التطهير العرقي التي جرت أحداثها في وسط البلد. مبدئيًا، هناك قاعدة عامة من لا يدركها فإنه لا يعرف قانون المقاهي.. "مثلما نختار الأماكن فإنها بالقدر ذاته تختارنا". ينطبق هذا بالقدر نفسه علي أي مقهي، بداية من ذلك الذي ليس أكثر من "نصبة" وكراسي علي الرصيف، إلي أفخمها وأعلاها تكلفة، ولا يمكن بالتحديد تفسير هذا القانون أو تحليله منطقيًا، إنما هذا لا يعني إمكانية التحايل عليه، وبالتأكيد في ذاكرة كل من احترف الجلوس علي المقاهي حوادث متنوعة لأماكن لم يحبها وأخري هي التي عبرت صراحة عن رفضها له. وريش في النهاية، ودعك من الحمولات الثقافية، والدلالات التاريخية، ليس أكثر من مقهي ينطبق عليه ما ينطبق علي رفاقه. هذه ليست محاولة للدفاع عن مجدي عبد الملاك، أو لاتهام من هاجموه، وكالوا له الشتائم، بقصر النظر والسطحية. مجدي رحل عن عالمنا ولن يهتم، وهو من الأساس لم يكن يهتم بتوضيح صورته، فقط كان لديه علي الدوام هدف واحد لم يتردد في إنفاق حياته عليه، الحفاظ علي "ريش" في مواجهة انهيار شامل يراه يزحف إلي عتبة الدنيا الوحيدة التي يعرفها وألفها، لهذا بني حولها أسوارًا وجلس علي بابها لا يصرح بالدخول إلا لمن يؤمن بما يؤمن به، ويري ما يراه.. اصرخ، وهدد، واطلق ما شئت من اتهامات بالعنصرية والطبقية.. النتيجة واحدة: لن تدخل ريش. الجانب الآخر من القصة يخص الثقافة المصرية تلك التي، ونظرًا لضعفها الحالي وخلوها من المواهب، لم يعد لديها رحابة تقبل الاختلاف، أو الحوار معه واستيعابه، ومحاولة تغيير ما تراه سلبيًا فيه، الثقافة المصرية (أو مثقفوها إن شئت) يحلو لها الآن أن تلعب دور الطيب في مواجهة الشرير. أنت عنصري وطبقي وخائن وعميل، وأنا علي العكس منك ضحية وطيب وإنسان.. وهذا الإيمان الطفولي لا ينتج في النهاية إلا رؤية واحدة وآراء جاهزة جامدة لا تختلف كثيرًا عما يعتقد فيه أصحاب التيارات السلفية التي تغفل أن أي إنسان، وأي موقف له وجوه متعددة ودوافع مختلفة، وأن مهمة الثقافة التفتيش في ذلك كضرورة لازمة لإنتاج الفن (الوظيفة الأساسية للثقافة). رحيل مجدي عبد الملاك تعامل معه المثقفون بوصفه حدثًا سياسيًا وهو ليس كذلك، وأصدروا حكمهم علي المكان وصاحبه من منطلق ثوري، الثورة تبخرت في الهواء وبقي منها أسوأ ما فيها.. النزوع إلي تصفية المعارضين. التاريخ أنت لا تعرف لماذا وصل مجدي عبد الملاك إلي ما وصل إليه، لا تفهم لماذا يمنعك من الدخول، لماذا يضايقك فلفل (الجرسون الأشهر في المكان) بنظراته وتلميحاته حتي يجبرك علي الفرار، وعندما تخرج من الباب تبدأ في البحث عما ينقصك فيجعلك أقل من المكان حسب وجهة نظر من يديرونه، لكن صدقًا الأمر ليس هكذا (ليس هذا معناه أن تتوقف في التنقيب عن عيوبك، هذه عملية مفيدة في كل الأحوال) المسألة وما فيها أن القائمين علي ريش كان لديهم اعتقاد ويقين بأنهم حراس للتاريخ، وأن مسئوليتهم منع كل من يمكنه أن يكون عنصرًا مدمرًا لهذا التاريخ، ومن هؤلاء؟ بشكل عام أي مصري، لأنه ثبت للحراس بما لا يرقي للشك أن المصريين مخربون بالفطرة، وأعداء للجمال، في فترة من الفترات في حياتي كنت أجلس بصحبة مجدي عبد الملاك وبعض أصدقائه، كان ينتظر حتي يأتي الليل ثم أخرج من ريش برفقته ليريني علي الواقع ما الذي جري لوسط البلد وأبنيتها وثقافتها، يحكي أنه خاطب مسئولين لحماية هذا المكان أو ذاك، محاولات يومية لا تتوقف بجانب ما يسعي له من أجل "ريش" وحمايتها". أنا كنت واحدًا من المصريين الذين لم يقبلهم المكان ببساطة، كان علي اجتياز اختبارات وسخافات، مثلما حدث مع الكثيرين، الوحيدون الذين كان مرحب بهم في المكان بلا أسئلة أو اختبارات كانوا فئتين.. الأجانب علي اعتبار أنهم ليسوا مخربين، والمثقفين الكبار الذين لا شك في دوافعهم، والذين هم أيضًا حراسًا لقيم وأماكن أخري. "ريش" خاض حروبًا طويلة وتكاد تكون مجانية تمامًا وفقًا لمنطق حياتنا هذه الأيام الخالي من البهجة والجمال: ميشيل بولتس اليوناني هو المالك الثالث للمكان، إن تصفحت ملف المقهي المتخم، ستفهم من أناقته وجديته كيف جرت إدارة المكان في بدايات القرن الفائت، هو المؤسس الحقيقي لأسطورة ريش، أصحاب المقهي المصريون ورثوا عنه نضاله في سبيل ما يريد. كان قبلاً مديرًا لمسرح الحمراء بالأزبكية، وعندما انتقلت إليه ملكية ريش ضم إليه قطعتي أرض ليصل امتداد المقهي حتي الميدان، أقام تياترو وحديقة ثم رغب في إدخال الموسيقي، تقدم بطلب فرفض بدعوي عدم إزعاج الجيران، فتقدم بطلب آخر: حضرة صاحب السعادة هارفي باشا حكمدار شرطة القاهرة بالبلد، منذ بضعة أسابيع التمست بصفتي صاحب مقهي ريش الكائن بشارع سليمان باشا الترخيص لي بإعداد موسيقي خفيفة في محلي، وقوبل هذا الالتماس من سعادتكم بالرفض بدعوي أن هذه الموسيقي قد تزعج بطبيعة الحال وتقلق راحة السكان القاطنين بجوار المقهي، ونتيجة لذلك قد يتقدمون بالشكوي إلي سعادتكم. مرفق مع هذا إقرار موقع عليه من الجيران الذين لا يعترضون علي الموسيقي أثناء الأمسيات في محلي ولا يتضررون منها، لذلك ألتمس من سعادتكم منحي هذا الترخيص، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام، توقيع....". في كل ما قرأته من تعلقيات حول ريش ومجدي عبد الملاك بعد وفاته، علي الفيس بوك وغيره من وسائل تواصل، استوقفني أحدهم وهو يقول ما معناه، لا تبرر لي طبقيته وعنصريته بأنه حافظ علي المكان.. فليحترق ريش لا يهمني. طيب، كيف يمكنك فهم تعليق كهذا، في أي سياق يمكن وضعه، المتطرفون يقولون به أيضًا، الدواعش، لا يريدون تاريخًا، لا يرغبون سوي في اللحظة التي يعيشون فيها، لا يمكنهم قبول منجز لا يفهمونه، دعك طبعًا من خدعة أن هذه أصنام، من الضروري لنا كذلك أن نترك ريش يهدم، ويتحول إلي محل ملابس لأن صاحبه كان طبقيا وعنصريا كما أن نري، طيب، أنا لدي طلب خاص.. هل يمكننا أن نهدم وسط البلد بالكامل، ومعها الأحياء الراقية التي كان المصريون ممنوعون من دخولها، هل يمكن أن نضع في القائمة الأهرامات التي بناها أجدادنا كعبيد، وقناة السويس التي حفروها بالسخرة. إليكم مفاجأة.. كل الحضارات تطلب قيامها والحفاظ عليها ما لا يمكن لإنسانيتنا المرهفة استيعابه. كم استمر نضال ميشيل مع السلطة الإنجليزية ليدخل الموسيقي إلي مقهاه؟ ثلاث سنوات من الرفض والتعنت، حتي قرر أن ينقل المواجهة إلي شكل مختلف غير المكاتيب ورفع الدعاوي القانونية، أتي بفرقة موسيقية دون تصريح. أحب التفكير في أنه جلس وحيدًا يومها في المقهي يستمع إلي الموسيقي مستمتعًا بانتصاره، ووقف الجرسونات علي الباب يمنعون الناس من الدخول إلا لمن يستحق هذا الشرف، ومعهم عساكر البوليس الذين أتوا ذلك اليوم وألقوا القبض عليه لمخالفته القانون. هل تريد المزيد من التاريخ؟ هل مازال غضبك من ريش وصاحبه متقدا؟ أظن سيبقي علي حاله، كما قلت لك في البداية.. مع هذا المقهي لا يمكنك أن تكون حياديًا علي الإطلاق. كيف يمكن ذلك مع مكان كانت أرضه تفرش بالرمال الحمراء ترحيبًا بزبائنه، وكان مكانًا سريًا لمنظمي ثورة 1919، وملتقي كل الأدباء والفنانين في مصر، موعد الندوة الأسبوعية لنجيب محفوظ التي انتهت بتحديد الجمعة إجازة للمقهي (بأمر من الأمن علي الأغلب). هو "الكرنك" إن أحببت، مثقفوه يتبعون خط الحزب الشيوعي السوفيتي، فيما مثقفي إيزافيتش يتبعون خط الحزب الشيوعي الصيني علي حد ما كانت تعتقد أجهزة الأمن، وهذا بحسب كلام إبراهيم منصور لمحمود الورداني، ومن علي المقهيين خرجت "جاليري 68"، وعلي "ريش" صيغ بيان توفيق الحكيم الشهير في 73 والذي أدي إلي قرار السادات بفصل كل الموقعين عليه من مواقعهم في الصحافة والإعلام. وفي "ريش" ضرب يوسف إدريس ذات مرة فاروق عبد القادر لأنه كتب عنه "حاجة ما عجبتوش" وهذا وفقًا لحكاية نجيب محفوظ. دعك من كل ذلك، نحن لسنا في حصة تاريخ، وأنا قبلك لا أحب الأحداث التاريخية التي يتم التذكير بها للتدليل علي الأهمية، اعتبرها معلومات عامة لا أكثر، أضف لذاكراتك، حدث في مثل هذا اليوم، ويمكنك استخدامها في حل الكلمات المتقاطعة، ويمكنك أيضا أن تضيفها لتعليقك علي الفيس بوك مثلا "بالمناسبة أنا أعرف أن ريش خرجت منه ثورات وكان ملتقي لمثقفي اليسار ومع ذلك فليحترق لأن مجدي عبد الملاك منعني من الدخول". هل تعرف ما هي المفارقة الحقيقية، محيي الدين اللباد يحكي عن ريش علي اعتبار أنه المكان الذي سمح ووافق علي وجوده مع أبناء جيله في مواجهة تعالي "لاباس" الذي لم يحتمل فوضاهم وجهلهم بالنظام، وفي مواجهة مكان مخيف مثل "جروبي" الذي يتردد عليه نجوم مثل فريد الأطرش ومصطفي أمين، يتناولون إفطارهم هناك، و"الأمريكيين" الواقع تحت سيطرة أهل وسط البلد من الدرجة الثانية المتشبهين بالأجانب. اللباد نفسه من يقول: بعد الانصراف من جلسات مقهي ريش، أو عند اقتراح مكان للذهاب إليه، كان الكثيرون يلعنون مقهي ريش، ويقسمون أنهم يمقتونه ولن يذهبوا إليه أبدا لكن كل هؤلاء كانوا يحنثون في القسم، ويذهبون ويجلسون فيه كثيرًا وطويلًا ومرارا. هل تفهم الآن لماذا منعك ريش من الدخول إليه؟ أظن لا.