«المصريين الأحرار» يتدخل لحل مشكلة الكهرباء بمزرعة «القومي للبحوث» بالبحيرة    وزير الأوقاف: دراسة علم الآثار من فروض الكفاية (صور)    صرف مكافأة نهاية الخدمة للمحالين للمعاش بالصحف القومية    وفد سياحي متعدد الجنسيات يزور المناطق الأثرية بالمنيا    جيلي كولراي موديل 2022 كسر زيرو بأقل من مليون جنيه    محافظ القليوبية يناقش تنفيذ عدد من المشروعات البيئة بأبي زعبل والعكرشة بالخانكة    حصاد 4 آلاف فدان من محصول الكمون في الوادى الجديد    حماس تعلّق على إعلان الاحتلال بدء عملية عسكرية جديدة في جباليا    مهند العكلوك: مشروع قرار لدعم خطة الحكومة الفلسطينية للاستجابة لتداعيات العدوان الإسرائيلي    الرئيس الكولومبي يطالب «الجنائية الدولية» بإصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو    موعد المباراتين المتبقيتين لأرسنال بالدوري الإنجليزي    الدوري الإنجليزي.. سون يقود هجوم توتنهام أمام بيرنلي    ميتروفيتش يقود هجوم الهلال أمام الحزم    ننشر خريطة المدارس التكنولوجية التطبيقية ATS وIATS بالمحافظات -مستند    تأجيل محاكمة 35 متهمًا بالانضمام لجماعة إرهابية وتمويلها في المقطم ل10 يونيو المقبل    اليوم العالمى للمتاحف.. متحف إيمحتب يُطلق الملتقي العلمي والثقافي "تجارب ملهمة"    لمدة أسبوعين.. قصور الثقافة تقدم 14 مسرحية بالمجان بالإسماعيلية وبورسعيد وشرم الشيخ    إيمي سمير غانم ل يسرا اللوزي بعد رحيل والدتها: "هنقعد معاهم في الجنة"    وزير الأوقاف يحظر تصوير الجنائز بالمساجد مراعاة لحرمة الموتى    عمرو الورداني للأزواج: "قول كلام حلو لزوجتك زى اللى بتقوله برة"    رئيس صحة الشيوخ في يوم الطبيب: الدولة أعطت اهتماما كبيرا للأطباء الفترة الأخيرة    وزير الصحة الأسبق: تاريخ مصر لم ينس تضحيات الأطباء    «هشمت رأسه وألقته من أعلى السطح».. اعترافات المتهمة بقتل زوجها في قنا    استعدوا لنوم عميق.. موعد إجازة وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    إلغاء جميع قرارات تعيين مساعدين لرئيس حزب الوفد    نقيب الأطباء يشكر السيسي لرعايته حفل يوم الطبيب: وجه بتحسين أحوال الأطباء عدة مرات    وزير التموين: مصر قدمت 80 ٪ من إجمالي الدعم المقدم لقطاع غزة    أخبار الأهلي : طلبات مفاجئه للشيبي للتنازل عن قضية الشحات    آخرها هجوم على الاونروا بالقدس.. حرب الاحتلال على منظمات الإغاثة بفلسطين    نتائج منافسات الرجال في اليوم الثاني من بطولة العالم للإسكواش 2024    «الأرصاد» تكشف حقيقة وصول عاصفة بورسعيد الرملية إلى سماء القاهرة    رئيس الوزراء: نستهدف الشركات العالمية للاستثمار في مصر    التنمية المحلية: استرداد 2.3 مليون متر مربع بعد إزالة 10.8 ألف مبنى مخالف خلال المراحل الثلاثة من الموجة ال22    قروض للشباب والموظفين وأصحاب المعاشات بدون فوائد.. اعرف التفاصيل    تسلل شخص لمتحف الشمع في لندن ووضع مجسم طفل على جاستن بيبر (صور)    باسم سمرة يكشف سر إيفيهات «يلا بينا» و«باي من غير سلام» في «العتاولة»    جامعة القاهرة تستضيف وزير الأوقاف لمناقشة رسالة ماجستير حول دور الوقف في القدس    البابا تواضروس يدشن كنيسة "العذراء" بالرحاب    الإمارات تهاجم نتنياهو: لا يتمتع بأي صفة شرعية ولن نشارك بمخطط للمحتل في غزة    تأجيل محاكمة المتهم بقتل 3 مصريين في قطر    عقوبة استخدام الموبايل.. تفاصيل استعدادات جامعة عين شمس لامتحانات الفصل الدراسي الثاني    إحالة العاملين بمركز طب الأسرة بقرية الروافع بسوهاج إلى التحقيق    مباشر مباراة المنصورة وسبورتنج لحسم الترقي إلى الدوري الممتاز    المفتي يحسم الجدل بشأن حكم إيداع الأموال في البنوك    «صفاقة لا حدود لها».. يوسف زيدان عن أنباء غلق مؤسسة تكوين: لا تنوي الدخول في مهاترات    وزيرة التضامن: 171 مشرفًا لحج الجمعيات.. «استخدام التكنولوجيا والرقمنة»    القاهرة الإخبارية: أنباء عن مطالبة الاحتلال للفلسطينيين بإخلاء مخيمات رفح والشابورة والجنينة    التنمية المحلية: تنفيذ 5 دورات تدريبية بمركز سقارة لرفع كفاءة 159 من العاملين بالمحليات    بعد وصفه ل«الموظفين» ب«لعنة مصر».. كيف رد مستخدمي «السوشيال ميديا» على عمرو أديب؟    معسكر مغلق لمنتخب الشاطئية استعدادًا لكأس الأمم الأفريقية    شروط وأحكام حج الغير وفقًا لدار الإفتاء المصرية    تفاصيل زيارة وفد صحة الشيوخ لمستشفيات الأقصر    «الصحة»: نتعاون مع معهد جوستاف روسي الفرنسي لإحداث ثورة في علاج السرطان    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 11-5-2024    حادثة عصام صاصا على الدائري: تفاصيل الحادث والتطورات القانونية وظهوره الأخير في حفل بدبي    الشيبي يهدد لجنة الانضباط: هضرب الشحات قلمين الماتش الجاي    مجلس الأمن يدعو إلى إجراء تحقيق مستقل وفوري في المقابر الجماعية المكتشفة بغزة    طائرات الاحتلال الإسرائيلي تقصف منزلًا في شارع القصاصيب بجباليا شمال قطاع غزة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فتوح الفتوحات ماء الماء
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 05 - 2015

اندلعت صرختي الأولي في الغرفة الأمامية من بيت خالي، بربع حسام الدين، قرية جهينة الغربية، بإقليم سوهاج، الصعيد، الجنوب، عالمي الأول الذي شكلت فيه الصور الأولي لذاكرتي، من مكونات هذا الواقع صيغت عناصرها وأركانها.
النخيل، الأشجار، قنوات المياه، تتفق في مجاريها، لم أسأل نفسي إلا بعد سنوات من تقدمي في العمر، من أين يجيء هذا الماء؟ وإلي أين؟
الماكينة التي تدفع بالمياه عبر الحوض إلي القنوات، مياه مؤطرة، محددة بمسارات عتيقة وضعها الإنسان الذي جاء إلي ضفتي النيل منذ حقب سحيقة، لا نعرف مقدارها.
غير أن ما يطالعني ذلك المشهد الذي اختفي الآن، عندما بدأنا نزور جهينة كل صيف، نجيء من القاهرة إلي مدينة طهطا بالقطار، ثم ننتقل بالسيارة عبر طريق مترب صوب الغرب، وندخل الربع من ناحية الصحراء، حيث المقابر، والأبدية، فهناك تغيب الشمس، ذلك المشهد المهيب الذي بث الخشية في نفوس الأجداد ثم ألهمهم الرؤيا، وأحوال النشوء والخلق.
تلك السنة جاءت "الدميرة" عالية، "الدميرة" الاسم القديم لفيضان النهر المقدس في الزمن القديم والذي جري ترويضه إلي حد ما من خلال قناطر وسدود وترع وجسور وقنوات وفروع عبر القرون المتوالية، ثم جري ترويضه النهائي مع السد العالي الذي انتهي تشييده عام تسعة وستين، وإن كان للنهر حالات يطل عبرها الخطر القديم، كما حدث في هذا العام (1999) والذي شهد فيضانا مرتفعاً أقلق وأنذر، وإن كان قومي ضعف عندهم الحس بالفيضان، لايهتم إلا المتخصصون.
"الدميرة" ربما كلمة مصرية قديمة تعني الفيضان، في تلك السنة من نهاية الأربعينات تجاوزت المياه الجسور المشيدة. وتدفقت لتغرق الأراضي المزروعة، وبيوت قائمة، أما ربع حسام الدين فقد ظل بمنأي، ذلك أنه مقام علي مرتفع من الأرض. تصعد اليابسة شيئاً فشيئا. البيوت علي الجانبين، إلي اليمين الرحبة التي تطل عليها أبواب البيوت، في هذه السنة كان لابد أن نصل بالقوارب إلي الرحبة، لن يندثر أبداً هذا المشهد من مخيلتي.
انبساط الماء، سطحه المستوي اللألاء الممتد، ومن خلاله تنبثق المرتفعات الصغيرة التي لم يطلها بعد، هكذا تظهر أجزاء أخري من الأرض بعد انحسار المياه، لكنها تظل جزراً، الأصل هو الماء، والاستثناء تلك اليابسة.
إلي الجنوب من جهينة، حوالي أربعين كيلو متراً تقع العرابة المدفونة حيث أقدس الأماكن في مصر الغابرة، مركز عبادة أوزير، أحد ثلاثة معابد مصرية مقدسة وصلت إلينا سليمة، أبيدوس الذي شرع في بنائه سيتي الأول وأئمة رمسيس الثاني، إلي الغرب من المعبد المهيب الذي صمم كمواز للكون المرئي أو المتخيل، يقع معبد صغير ملحق، يسمونه اليوم الاوزريون.
المعابد الكبري دائماً عند الحافة، أما حافة الأراضي المزروعة وحافة الصحراء، في مصر يتجاور اللونان، الأخضر والأصفر، تجاوراً ممتداً، واضحاً جلياً، يمكن للانسان أن يقف بقدم هنا وأخري هنا، وما يحدد ذلك سريان الماء.
في هذا المعبد الخلفي، في قلب الصحراء يسري الماء من نبع خفي، مياه جوفية؟ ربما.. مياه تسربت من النيل؟
ربما..
إنها قديمة، أزلية، موجودة حتي الآن، دائما أتطلع إليها في مسارها المرجح، المحيط بصخرة قاتمة صلدة، جزيرة صغيرة. لكنها رمز لتصور الأجداد القدماء لبدء الوجود. للخلق، فالماء قديم، ومنه نبعت الحياة، هنا نتلو الآية القرآنية الكريمة
"وجعلنا من الماء كل شيء حي..".
عين الحياة
أينما ولينا الوجه فثمة ماء.
مستو، ممتد، به يكون القياس. إنه الموجود الوحيد علي مستوي واحد، في البحار والأنهار، وشتي الامتدادات، تضطرم البحار وتتدفق ويتعاقب الموج، لكنه المستوي الواحد، لكنه لايقتصر علي ذلك، إذ نجده في الأعالي، قطراته التي تكون السحاب، المنخفض والمرتفع، ومنه يجيء الغيث إذا الغيث همي، والعجيب، الغريب، أن هذا المطر العذب، الذي تخضر به الأرض، ويروي ظمأ النفوس الحية، وتمتد معه الحياة أينما سري، وفاضت به الأنهار، العجيب أنه قادم من ماء مالح تفيض به المحيطات والبحار، لكنه إذ يعلق في الفراغ متحولا عبر الفراغ إلي الأعالي، يتغير أمره من مالح إلي عذب، ومن مساحات شاسعة لاتروي ظمأ ولا تسقي نباتاً علي البر إلي أنهار وعيون، بها تكون النشأة، ومنها يكون الحضور.
في جوف الأرض، علي مسافات متفاوتة، في الصخور، في الرمال التي لايخطر لذهن بشري أنها تعرفه أو تقترن به، يسدد علماء الكون وخبراء الفلك مناظيرهم إلي أعماق بعيدة تقاس بملايين السنين الضوئية ويؤكدون وجود الماء بين المجرات، وفي المجرات، وإذا استدلوا عليه فوق كوكب من خلال شكله كثلوج أو بقاياه في الأخاديد الدالة علي جريانه يوماً تلك علامة حياة، وإشارة إلي احتمال وجود كينونة، إنه منبث موزع في أرجاء الكون الفسيح.
أشكاله بلا حصر.
صلب فهو ثلج
سائل وهذا ما نعرفه
لايري، حيث لاقوام ولاملمس، فهو بخار
له كل الأشكال ولا شكل له، إذ يتشكل بما يحويه، لون الماء لون إنائه.
فوقي، تحتي، يخرج بارداً من جوف الأرض الملتهب، وأحياناً يخرج دافئاً أو ساخناً، في صحراء مصر الغربية تتوزع الواحات العتيقة، في الواحات الداخلة قصية البعد، عيون ماء وفيرة. وقفت يوماً عند عين ماء تجاورها أخري، الأولي يتدفق منها ماء بارد لذة للشاربين، العين الثانية علي بعد أمتار قليلة، يتدفق منها ماء دافيء، يروي بعض الأهالي هنا واقعة جرت يوماً، عندما جاء عامل صعيدي من جنوب مصر، أحد أولئك العمال الفقراء الذين يرحلون إلي حيث توجد فرصة عمل عابرة، نزل في الصباح الباكر إلي الحوض الذي تتجمع فيه المياه الدافئة. أدركه خدر، تحللت متاعبه، وتواري إرهاقه، نعس، وطواه الماء، رحل به إلي الأبد. الماء سبب الحياة القوي، يجهز عليها أيضاً إذا جرت الأمور في غير مواضعها، في الأساطير القديمة يرحل جلجامش بحثاً عن ماء الحياة، الماء الذي يحقق شربه الخلود ويجنب الإنسان الفناء، ولكن يقع الخطأ غير المقصود فيشرب الثعبان وتفوت الانسان الفرصة، تقول الاساطير أيضا أن الاسكندر الأكبر أخطأ الطريق إلي عين الحياة ولم يشرب الماء الذي يحقق له الخلود. إنسان واحد فقط هو الذي عرف مكان العين وشرب منها، لذلك تخطي الحدود بين الأزمنة، إنه سيدنا الخضر الذي نقرأ عنه في قصص الصوفية وأخبارهم وكراماتهم، اللقاء به كرامة. ويجمع المفسرون علي أنه هو المعني في سورة الكهف، الذي التقي به سيدنا موسي.
"فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً..".
أين عين الحياة؟ لا أحد يدري، قد يمر الإنسان إلي جوارها ويفوته الشرب منها، هكذا الإنسان، دائما في الفوت، تماما كقطرات المياه. لا تمكث علي صورة، ولا تستمر علي حال واحد، دائماً في تبدل، دائما في تحول.
ماء الغيب
في معاجم لغتنا العربية نتأمل ما يتعلق بالماء، كل ما هو جميل وما فيه خير نسبوه إلي الماء، فقالوا لما لا يستحسنونه "لا ماء فيه" وصفوا الشخص الوقح بأنه "ليس في وجهه ماء"، ونسبوا إلي الماء ما هو حسن، يقول أبونواس.
لما ندبتك للجزيل أجبتني
لبيك واستعذبت ماء كلامي
ماء الوجه أي الحياء والشرف. ماء الشباب للنضارة والجمال، ماء الحياة، والمرأة الجميلة توصف بأنها (ماء السماء - الحيوان للجاحظ)، والمنذر ابن ماء السماء أمره ذائع.
يقول الاستاذ محمد بن عبد العزيز بن عبد الله في المجلد الأول من موسوعته القيمة "الماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي":
" ويكفي أن نذكر أن العرب لفرط تشوقهم وتطلعهم للمطر والغيث وبحثهم عنه، قد لقبوا ببني "ماء السماء".. وغاية دعائهم للمرجو والمشكور ان يقولوا له: سقاك الله، فإذا تذكروا أياما طاف فيها الأنس، وصفت فيها النفوس قالوا: سقي الله تلك الأيام.
الضعيف عندهم كالبئر الموشكة علي الانهيار، والبخيل كالماء البعيد
الشحيح. والإنسان الكريم كالنبع، أما تعبير "ماء الشباب" فدليل علي الحيوية، لنصغ إلي ابن الرومي يرثي "بستان" المغنية.
ياحر صدري علي ثلاثة اموا
هريقت في التراب والمدر
"ماء الشباب" ونعمة مزجا
"بماء ذاك الحياء" والخفر
تبتل العود بعد فقدكم
وازدجر اللهو أي مزدجر
وغاض "ماء النعيم" يتبعكم
وانهمر الدمع أي منهمر
ويطلقون ماء الحياة علي مني الرجل، يقول ابن سينا
احفظ منيك ما استطعت فإنه
"ماء الحياة" يصب في الأرحام
أفاض العشاق في الحديث عن "ماء الشوق" و "ماء الجفن" و "ماء الصبابة" و "ماء الهوي"، قال العتابي
أكاتم لوعات الهوي ويبينها
تخلل "ماء الشوق" بين جفوني
ولعل أغرب ما يلاقي القاريء ذلك الحديث عن ماء الغيب، وللقاضي عبدالجواد القنائي المصري الشافعي رسالة عنوانها "كشف الريب عن ماء الغيب" شرح فيها تلك الأبيات:
توضأ بماء الغيب إن كنت ذا سر
وإلا تيمم بالصعيد والصخر
وقدم إماما كنت، أنت أمامه
وصل صلاة العصر في أول الفجر
فهذي صلاة العارفين بربهم
فإن كنت منهم فامزج البر بالبحر
الدلالات اللغوية للماء في العربية، إنما تعكس قيمة الماء في حياة القوم، حيث الصحراء الممتدة، والجفاف، ودورات الغيث التي قد تأتي فيحل النماء، وربما تتأخر فيكون الجفاف.
توالد الماء بالماء
مساء من أغسطس عام ثمانية وتسعين، وقفت علي شاطيء جزيرة صغيرة في عرض النيل أمام مدينة سوهاج، النهر مرتفع، فيضان العام غزير، والخوف علي جدار السد العالي قائم، المختصون يتفقدون أحواله كل عدة ساعات، البوابات كلها مفتوحة، والمفيض المخصص ليستوعب الزيادة بدأ يستقبل الماء.
يتدفق الموج، مسرعاً، متلاحقاً، له دمدمة، يحتوي أضواء النجوم، وانعكاسات المدن والقري، يستوعب الأماكن التي عبرها منذ نزول القطر من السماء، يقولون إن قطرة الماء تقطع المسافة من هضاب الحبشة إلي المصب عند دمياط أو رشيد في أحد عشر يوماً. تري.. كيف تكون ذاكرة الماء؟
هل تعي تحولاتها؟ من قطرة عذبة أو مالحة إلي بخار إلي قطرة مرة أخري، وربما يندمج بعض منها في الكون اللانهائي. لاتمكث الموجة إلا مقدار مرورها الخاطف بالمكان.
دائماً أحاور اللحظة الماثلة. أتجاوزها بالمخيلة إلي الامام، أو إلي الوراء. أتساءل، بأي تصور كان الأجداد يتطلعون إلي الماء المتدفق من الجنوب؟ كم من السنوات استغرقها الجهد المبذول للسيطرة علي ماء النهر، للتوصل إلي دورات الزراعة. ومعها التصور الانساني للوجود والعدم، للحياة الدنيا والحياة الآخرة، تلح عليّ صورة الاله أوزير، ممدداً في كفنه الابيض، مدفوناً تحت سطح الأرض، ومن جسده ينبت العشب، والنماء، ومن دموع زوجته المخلصة ايزيس يتدفق الفيضان. وحدة أزلية بين الانسان والطبيعة، كم قرناً استغرقه الانسان ليرصد حركة النجوم، علاقتها بالفيضان، حتي توصل إلي التقويم المصري الدقيق، الذي مازال الفلاح المصري يعتمده حتي الآن في الزراعة، ويعرف الآن بالتقويم القبطي، كان اكتشاف تلك الصلات منطلقاً لمحاولة فهم الوجود والحياة والموت، اللاوجود، والعبور من حد إلي حد.
العالم يحيطه الماء الأزلي، وإليه أيضا يمضي الوجود بعد انتهائه، نهر النيل مصدر للحياة، مقدس، عبر العالم الآخر يمثل الانسان أمام قضاته وقبل أن يوزن قلبه لابد أن يقسم وأن يقر أمام أربعين قاضياً قبل المثول أمام قاضي المحكمة الأكبر، أوزير، أهم قسم يتلوه:
"أقسم أنني لم ألوث ماء النيل..".
في الجنوب، كل أبواب البيوت تتجه إلي النهر، تفتح علي النهر، ويغمس النوبيون أطفالهم المولودين حديثا في النهر، للنهر احترامه، وهذا احترام قديم، لكن مع تقدم السيطرة عليه وهنت العلاقة بين المصريين ونهرهم. في القاهرة حوصر المجري بناطحات السحاب الجديدة التي يقطنها الأثرياء الجدد، أصبح المجري المهيب مثل النفق المائي، وأبعد معظم المصريين عنه بما أنشيء عليه من نواد خاصة، ومنشآت شتي أما السفن العائمة فتلقي فضلاتها في المجري وكذلك بعض المصانع انتظام وصول المياه إلي القوم جعلهم يفتقدون إلي الوعي المائي، لاينتبهون إلي حقائق تتعلق بثبات حصة مصر من ماء النيل (حوالي خمسة وخمسين مليار متر مكعب) وزيادة السكان المتوالية.
أتأمل الأمواج المتدفقة تلك الليلة، تتداخل الأسئلة بالخواطر.
ما علاقة هذه الأمواج بالأمواج التي تدفقت في النهر نفسه منذ آلاف السنين، هل يتناسل الماء، أم أنه يتوالد، أم أنه يتحول من شكل إلي شكل، من قطر إلي بحر إلي قطر، من بحر إلي غيم، من مالح إلي عذب، إلي أمطار، إلي أنهار، إلي أشجار وثمار وانفاس تتوالي ثم تمضي، هكذا بدا لي موج البحر تلك الليلة.
شهادة الأنهار
لابد للنهر من جريان مستمر، وإلا ما اعتبر نهراً. إنه مرحلة في دورة تقطعها القطرة. النهر يستعصي علي الامساك، وإذ يجري النهر ينفصل عن الانسان، لابد أن يبذل الانسان جهدا لينال حظه منه، بعض وليس كل، مستحيل علي الانسان ان يحتوي النهر، أو أن يمتلكه، النهر جسر بين مرحلتين، اكتمال القطر وسقوطه مطرا، ثم رحيله بخراً عبر البحر.
ما من قوة مثل الماء.
سأل أحدهم حكيما يوماً؟
هل هناك ما هو أقوي من النار؟
قال نعم: الرياح
هل هناك ما هو أقوي من الرياح؟
قال نعم: الماء
هل هناك ما هو أقوي من الماء؟
قال نعم: الماء أقوي من الماء
أتيح لي يوماً أن أري ذوبان الثلوج فوق كردستان، دائماً أستعيد مشهد هذه الخيوط الرفيعة، تنحدر.. تتلاقي، تكون مجاري الأنهار الصغيرة إلي أن تصب في النهر الأكبر، دجلة، وعندما أبحرت فيه رأيت النهر وقد قص صخور.
جبال حمرين قصاً.
لاشيء يمكن أن يقف في مواجهة الماء.
شرط اكتمال النهر الجريان، وما يجري لابد أن يطوي، وكل ما أنجزه الانسان مؤقت مهما طال أمره، أتأمل السدود وأسأل نفسي، إلي متي؟
أتأمل أحوال النهر الذي أوجد الحياة في خضم الجدب، في العمق الشعبي مازال ماثلاً، ولكن المدن الكبيرة التهمت الصلة، مازال قومي في الريف يجلون الماء، وتقديمه إلي الضيف علامة أمان، والاحتفاظ به في المتناول عند النوم باعث للطمأنينة، ومازال وقف الماء أعز ما يمكن تقديمه لروح الميت الغالي، هكذا توضع القلل الفخارية في الطريق لتضفي الخير والرحمة من أجل الراحل.
للجنة أنهار وليس بحار، فالنهر للحياة، البحار كالصحراء للأبدية، هنا يقترن البر والبحر في الدلالة والإشارة.
هنا أستعيد المشهد التاسع من "مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية" لمولانا الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.
أشهدني الحق بالأنهار، وقال لي: تأمل وقوعها.
فرأيتها تقع في أربعة أبحر. النهر الواحد يرمي في بحر الأرواح، والنهر الثاني يرمي في بحر الخطاب والنهر الثالث يرمي في بحر المزمار والسكر، والنهر الرابع يرمي في بحر الحب. ويتفرع من هذه الأنهار جداول تسقي زراعات الزارعين.
ثم رميت بصري في الأبحر فرأيتها تنتهي إلي بحر واحد محيط بجميعها ترمي فيه هذه الأبحر ورأيت الأنهار الأربعة تتفجر من ذلك البحر المحيط ثم ترجع إليه بعد الامتزاج بهذه الاربعة بأبحر.
(2)
طبقا للتصور المصري القديم، كان الانسان يمثل أمام محكمة قضاة الابدية بعد انتقاله من الحياة إلي العالم الآخر، حيث الإله أوزير، إله الموتي، المقدس، كان الإنسان يمر أمام أربعين قاضياً، ويقر بما فعله وما لم يفعله من أمور شريرة في الحياة الدنيا.
يقول مثلاً:
أنا لم أسرق
أنا لم أزف
أنا لم أوذ رجلا كهلا..
غير أن أهم ما كان يجب أن ينطق به. ذلك الإقرار أنا لم ألوث ماء النيل.
النيل، النهر الذي يتخلل الصحراء. مقدس، معبود، كان يرمز إليه بالإله حابي. ما ترتب علي وجوده من مظاهر أدي إلي إمعان الفكر، حول الاسئلة الكبري المتعلقة بالحياة، من أين بدأت؟ إلي أين تمضي؟ ما أصلها؟
كل عام، في توقيت معلوم تختفي أرض مصر "المزروعة في لجة من المياه، ثم لاتلبث أن تنحسر عنها رويدا، رويداً، هكذا تصور المصري القديم أن الأرض ظهرت من الماء، اليابسة وجودها مترتب علي الماء. الماء إذن أصل. منه ظهر التل الأزلي القديم أول ما ظهر موقع مرتفع اسمه "نون" التل الموغل في القدم. التل المزدهر الذي ظهر في أول العصور، وحددوا مكانه في مواقع مختلفة من أرض مصر. فوقه ظهرت المعالم الاولي للحياة، أستقرت فيه الضفادع والثعابين، وهي من الكائنات التي تتفق مع ما يغمر المكان من ظلام ورطوبة. ثمانية مخلوقات، وما تزال في مصر مدينة تسمي "أشمون" بصعيد مصر، أي الثمانية. فوق التل استقرت أيضا بيضة طائر مائي. خرجت منها أوزة استحال بخروجها الظلام الدامس إلي نهار، إنها الشمس التي طارت مطلقة صيحة، لذلك سميت: الصيحة الأولي الكبيرة، سطعت فوق الماء، فكان ذلك بمثابة الضوء الأول والصوت الأول الذي أضاء الظلام الدامس. في نفس الوقت بدأ الصمت الأزلي، الصمت الممتد فوق سطح بحار وأنهار وعيون وآبار العالم.
إنه الماء، الماء المتدفق زمن الفيضان، التوقيت الذي نسج وشائج مصر بالكون، فمجيء الماء في زمن معين ارتبط بظهور نجم الشعري
اليمانية، وقاد ذلك إلي النظر في النجوم. إلي دورات الفلك. إلي نسج كل أساطير مصر القديمة التي لم تكن وقتئذ أساطير، بل كانت تفاصيل رؤية متكاملة للكون، للوجود.
الأرض قبل بدء وصول مياه الفيضان تكون متشققة، متشوقة إلي لقاح الماء، وإذ يبدأ يغمر الشقوق، وتلين الأرض، تتخصب فينبت الزرع. إنها نظرة كونية عميقة، لن أنسي وقوفي مذهولاً، مأخوذاً، أمام رسم جداري في احدي مقابر الأقصر، تمثل الاله اوزيريس متمدداً تحت مستوي سطح الأرض ومن جسده تنبت زهور اللوتس وسنابل القمح شتي الأشجار . إنها عناصر الكون المتصلة، فليست الذرات المكونة لاجسادنا، أو النبات الذي نراه، أو الأرض، أو قطرات المياه، الا نفس الذرات المكونة لأقصي نجوم المجرات بعداً عن كوكبنا، أدرك المصريون القدماء هذه الحقيقة الأولية، إنها الحقيقة التي أدركها المتصوفة فيما بعد، والرهبان المسيحيون، والشعراء العظام، هذه اللوحة الجدارية لأوزيريس الذي لانراه إلا ملفوفاً في الكفن الموميائي الأبيض، مرصعاً بشارات القداسة. إنما تعبر عن تلك الرؤية الانسانية العميقة لعناصر الوجود كافة. والماء عنصر البداية دائما.

كان العالم الذي ظهر من الماء وحدة واحدة، السماء والأرض متصلتان كانت آلهة المساء "نوت" مستلقية فوق آلهة الارض "جب" وهنا جاء إله الهواء، إله الفراغ "شو"، زج بنفسه بينهما ورفع السماء إلي أعلي، هكذا حلت "نوت" النجوم والشمس والقمر علي جسدها، ويمكننا الآن أن نري الالهة "نوت" علي أسقف المقابر وأغطية التوابيت من الداخل.
عندما يعد المصري القديم مقبرته، أو تابوته، فإنه يرسم عليه عناصر الكون كافة، علي الجدران الأشجار والزهور والحيوانات والطيور، ومشاهد العقيدة، وقرب الأرض الماء يجري. إنه الاساس لهذا كله. وخارج التابوت العين التي تبصر ما يوجد في الحياة الدنيا، وأجمل رسم رأيته لآلهة السماء "نوت" في مقبرة رمسيس السادس بوادي الملوك، الاقصر. ومعبد دندرة.
مع انفصال السماء عن الأرض اتخذ العالم شكله الذي نعرفه به.
كانت دورة الفيضان اساساً لتصورات المصريين الذين ارتبطت حياتهم بالنهر، بل إنه شكل التكوين النفسي الداخلي للأفراد والجماعات، إذا جاء الفيضان غزيرا، فإنه يقتضي تلاحم الجهود، وتعاون البشر كافة لدرء أخطاره، ويلي ذلك تنظيم أستخدام المياه من أجل الزراعة. ولنا أن نتخيل الزمن الذي انقضي ليصل المصريون القدماء إلي الزراعة وسائر ما يتصل بها، وأذكر في طفولتي خروج القوم في غميق الليالي لإقامة السدود، وسد الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها الماء ويدمر، أما إذا جاء الفيضان منخفضاً فسرعان ما ينعكس هذا علي حياة الناس، وتبدأ الشدة. استمر هذا الوضع آلاف السنين، وبني المصريون مقاييس الماء لتسجيل حركة المياه. ولعل نهر النيل هو الوحيد في العالم الذي يمكننا أن نعرف مقاييس فيضانه علي الأقل خلال الأربعة عشر قرنا الأخيرة، مدونة سنة بسنة في الحوليات التاريخية، ومازال أقدم مقياس الماء قائماً في جزيرة الروضة بالقاهرة، كانت أنفاس الناس تتعلق به حتي بناء السد العالي الذي أتم سلسلة جهود استغرقت آلاف السنين لترويض ماء النهر، لم يحدث ذلك الا في بداية السبعينات من القرن العشرين.
ماء النهر اساس الدولة المصرية منذ العصر الفرعوني، وحتي عصرنا هذا، هذا الماء الهادر، القادم في زمن معين. لابد من سلطة قوية تحكمه وتنظم تدفق الماء إلي الترع والقنوات، لبدء الزراعة، وكما اقتضي الماء وجود دولة قوية، وحاكم قوي - الفرعون - أصبح الماء من أهم عناصر قوة الدولة المصرية. فالنيل الذي شق مجراه بقوة الماء إلي البحر. هو طريق طويل، يربط البلاد والمدن بعضها البعض، إنه اساس البنيان والنظام. سياسيا وعمرانيا وحضاريا. بمحاذاته تقوم المدن، وإليه تشخص المعابد، وطبقا لمجراه تمضي الشوارع من جنوب إلي شمال. وفي مياهه يتم تعميد المولود، مازال ذلك قائما في النوبة، وفوقه تبحر السفن حاملة جثمان الميت إلي مثواه الأبدي من شرق إلي غرب، تماما كرحلة الشمس.
اعتقد المصريون أن ماء النهر مركز العالم. وأن منبعه يمثل بداية العالم، لذلك اتجهوا دائما إلي الجنوب، ماء النهر هو الذي يحدد الجهات، إنه الفاصل بين الشرق والغرب، إنه الحد الحاسم بين الحياة والموت، تصل المياه إلي الصحراء المجدبة فتبث الخضرة والحياة.
يبدأ وفود المياه إلي مصر منتصف شهر يونيو، مع بدء موسم الأمطار الغزيرة في الحبشة، تستغرق قطرة الماء أحد عشر يوماً لتصل إلينا من هضاب الحبشة. في البداية كان النيل يجلب مع الماء رواسب خضراء، ثم طمياً يميل لونه إلي الأحمر، ويترسب علي جانبي المجري وقرب المصب، منه تكونت تربة مصر والدلتا. تصل قوة المياه في أغسطس، تبلغ الذروة في سبتمبر.
دارت تصورات المصريين حول مصادر المياه، كانت أسطورة إيزيس وأوزيريس تعبيرا عن الصراع بين الخير والشر، بين الحياة والموت، بين الماء والجفاف، إن عناصرها بسيطة جداً، دالة جداً. ايزيس الأم، أصل كل أم جاءت فيما تلا ذلك. كان زوجها اوزيريس إلها للخير، بل اعتبره المصريون رمزاً للنماء والزرع، قتله شقيقه إله الشر ست، ومزق جسده إلي أربعين قطعة، وزعها علي امتداد مصر، ويعتبر رقم الاربعين مقدسا في مصر، وكانت مقاطعات مصر في الزمن القديم أربعين، مشت اوزيريس تبحث عن اجزاء جثمان زوجها، وكلما وجدت قطعة شيدت فوقها قبراً، ولم تكف عن البكاء، من دموعها الغزيرة تجيء مياه الفيضان، ومن نطفة زوجها الميت حملت ابنها حورس، ابن الاله هنا يكتمل الثالوث المصري المقدس. الأم والاب والابن. وحورس هو الذي توارث الفراعنة عرشه.
إيزيس. أصل الأمومة، رأيت رسومها في معبد أبيدوس، وتماثيلها في شتي انحاء مصر، ومتاحف العالم، أحببت رقتها البادية، إذ تلمس بأناملها جسد زوجها اوزيريس الماثل دائما في كفنه، أو حنوها علي ابنها حورس، إيزيس أصل الأمومة ورمزها الخالد، من حملت بماء زوجها بعد وفاته، من موته ظهرت الحياة ونمت.
مع تطور الديانة المصرية أصبح النهر إلها، أطلقوا عليه اسم حابي Hapy كان حابي يعني الماء. الماء الذي يجيء في وقت معلوم، النابع من الماء الأزلي.
الفيضان يعني عودة حابي.
"إنه هو الذي يذهب في وقته ويأتي في وقته، الذي يحضر المأكل، هو الذي يأتي بالأفراح - المحبوب جداً - رب الماء الذي يجلب الخضرة، يتفاني الناس في خدمته، ويحترمه الآلهة".
لم يقتصر تقديس المياه في مصر علي النيل وإنما كانت المياه بصفة عامة كائنا مقدساً يحظي بكل طقوس الاحترام، ففي كل البحيرات والأنهار والعيون والغدران والآبار، كنا نجد طقوس التقديس التي تقام لها، لذلك اعتبروا السمك وفرس النهر والتمساح كائنات مقدسة لأنها تنتمي إلي الماء أصل الحياة.
كان الغرق في النيل يعني التوحد بالماء، أي بالإله، وكانت القرابين تقدم إلي النيل، وتقول الروايات القديمة إن المصريين القدماء كانوا يقدمون عذراء إلي النيل عند تمام الفيضان، لكن هذه الرواية مشكوك فيها، والأرجح أنهم كانوا يقدمون دمية علي هيئة آدمية، ومازال هذا التقليد ساريا حتي الآن، إذ يحتفل بوفاء النيل كل عام، لكن الاحتفال أصبح الآن ذا طابع رسمي بعد أن فقد معظم الناس إحساسهم الداخلي بالنيل بعد تمام بناء السد العالي وترويض الماء.
مع دخول العرب إلي مصر عام 640 ميلادية بدأ انتشار الاسلام في مصر، وبدأ الناس يعرفون ماء مقدساً آخر غير النيل، إنه ماء زمزم.

زمزم
تقديس المصريين للماء امتد أيضا إلي الساميين - بصفة خاصة العرب واليهود - تماما مثل سائر الشعوب القديمة، وطبقا لروايات الكتاب المقدس، فإن العنصر الأساسي للخلق كان هو الماء، وعن طريق الفصل بين المياه العليا والمياه السفلي ظهرت الأرض، لكن المياه التي تجمعت في القبة الزرقاء لم تكن قد انفصلت تماما عن المياه التي تكاثرت أسفلها، تكون منها في البداية بحر عظيم، ثم أنهار وآبار، لذلك كان من المعتقد وجود علاقة بين الماء العلوي والسفلي في شكل أنابيب تصل من السماوات إلي البحر من أسفلها، وهذه الانابيب التي تصب في البحر تعود مرة أخري لتمتص المياه وترفعها إلي السماء التي تسقطها مرة أخري فوق الأرض. في القرآن الكريم، نقرأ آيات تبلور وتلخص سائر التصورات التي توارثها البشر في مصر والجزيرة العربية منذ القدم.
يقول تعالي "وكان عرشه علي الماء" سورة هود: 7
يقول تعالي "وجعلنا من الماء كل شيء حي" سورة الانبياء: 130
يقول تعالي "وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء" سورة الأنعام: 99
يقول تعالي "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة" سورة الحج: 63
وللماء في الاسلام منزلة كبري، فالمسلم يتوضأ ويتطهر به خمس مرات يوميا، مع كل صلاة، وأقدس ماء عند المسلمين ماء زمزم. البئر المقدسة في مكة.
أصبح ماء زمزم مقدساً عند المصريين بعد اعتناقهم الاسلام في منتصف القرن السابع الميلادي، وبذلك يكون في حياتهم مصدران للماء المقدس، نهر النيل، وبئر زمزم، والأخير مقدس عند جميع المسلمين، وأثمن ما يعود به المسلم من رحلة الحج إلي مكة، جرعة من ماء زمزم للأهل والأحباب.
تحيط الروايات الشعبية بئر زمزم بالقداسة. إنها البئر التي فجرها الله تحت قدم إسماعيل عليه السلام حين أسكنه أبوه إبراهيم عليه السلام في واد جاف غير ذي زرع، حتي لايهلك هو وأمه وابوه من الظمأ. بقيت السيدة هاجر الأم مع طفلها في الوادي الموحش. الذي تطل عليه جبال شديدة الجفاف، قاسية المظهر. راحت تعدو يمينا وشمالاً بحثا عن الماء. كانت تسعي بين الصفا والمروة. وهذا السعي أساس شعيرة هامة في الحج، ويعيد الحجاج السعي سبع مرات. كانت الأم ملهوفة علي ابنها خشية أن يهلك. وراحت تبتهل إلي الله ضارعة وتقول: اللهم أنا وديعة نبيك وخليلك عندك. فلا تضيع وديعتك يا من لاتضيع وديعته يا أرحم الراحمين. فبدا لهما الملاك جبريل عليه السلام في صورة آدمي فركض برجله موضع بئر زمزم فنبع الماء، فرحت هاجر وسقت ولدها قبل أن تشرب هي، و"يقال إن بئر زمزم سميت بذلك لأن الزمزمة صوت تخرجه الفرس عند الشرب، وفي الأغاني الشعبية بريف مصر ينشد المغنون عبارات تفيض بالحنين إلي الأراضي المقدسة، والشرب من مياه زمزم.

أستعيد المشهد التاسع من "مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية" لمولانا الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي:
"أشهدني الحق بالأنهار، وقال لي تأمل وقوعها. فرأيتها تقع في أربعة أبحر، النهر الواحد يرمي في بحر الأرواح والنهر الثاني يرمي في بحر الخطاب والنهر الثالث يرمي في بحر المزمار والسكر، والنهر الرابع يرمي في بحر الحب، ويتفرع من هذه الأنهار جداول تسقي زراعات الزارعين. ثم رميت بصري في الأبحر فرأيتها تنتهي إلي بحر واحد محيط بجميعها ترمي فيه هذه الأبحر ورأيت الأنهار الأربعة تتفجر من ذلك البحر المحيط ثم ترجع إليه بعد الامتزاج بهذه الأربعة أبحر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.