لو كنت يوم أنساك أيه أفتكر تاني!!.. وحده صوت عبدالحليم حافظ يستطيع أن يرسم خارطة الإجابة عن هذا السؤال بعذوبته الشافية، يتلون بعذابه وغُلبه وحيرته (بالي وخيالي معاك وكل وجداني / الحب اللي في ألبي والدمع اللي في عيني/ والنار اللي في جنبي والشوق اللي كاويني/ في بُعدك ولا مرة فاتوني لو أنساك إزاي ينسوني )، ثم يحسم الأمر دون إشارة علي تجاوزه جدار الجراح سوي بالمسح عليه ، فيتدرج الصوت بين الحنان العميق الحزن، والرقة والليونة ( يافايتني ... وهاااان حبي / علي ألبك ياحبيبي/ بدعيلك من ألبي ماتشوفش تعذيبي)، حيرة العندليب الأسمر تتقلب علي موجات من الموسيقي الهادرة ثم الخافتة، بين مد وجذر الموسيقي التي تُعطيه الفرصة لترميم حكاية لسعته بنيران الدهشة (لا اللي آسيته كان علي بالي ولا أوهامه جات في خيالي)، لطالما كانت هذه الحيرة هي وقود عاطفتنا غير الحيادية نحن الجيل الذي نشأ علي أغنياته التي استدرجتنا إلي عالمه دون أن يتريث القلب، أفق حيرة العندليب أضاءت جوهرنا ونفضت عني بشكل شخصي قلق شهر مارس الذي ينتابني كل عام عند مفترق الفصول، لكن هل يجب انتظار الربيع لنكتب عن عبدالحليم حافظ؟ سؤالي المطروح دائماً مع حلول ذكراه، وكنت دائماً أنكر فكرة الاحتفاء برحيله، فكل شيء لم يزل ينطق بوجوده؛ الواقع وأرقام توزيع ألبوماته وحضوره الطاغي في الحياة الفنية والممر الطويل أمام منزله في الزمالك المصبوغ بألوان حبر مختلفة وكلمات تجعله يبدو عصياً علي النسيان والغياب، ما يغوي علي اتباع ما تبقي من رومانسية مهدورة وفراغ كبير لم يملؤه أحد بعده، فهذه المساحة محجوزة له، كأن لا أحد غيره عرف سر الحب، وهو ما عبر عنه حليم نفسه في محادثة دارت بينه وبين النجمة الإيطالية صوفيا لورين في مقابلة تمت بينهما في إحدي الحفلات، قالت له صوفيا: سمعت عن شهرتك العظيمة في بلادك، فليتك تسمعني بعضاً من أغنياتك حتي أعرف سر ارتباط الناس بك. فغني لها حليم أغنية االحلوة»، فضحكت صوفيا وقالت: لو غنيت هذه المعاني في الغرب فلن يلتف حولك غير المراهقين. فقال لها العندليب: في بلادنا تتوقف مشاعرنا عند هذه المرحلة، نكبر وننضج ولكننا نعيش بعواطفنا ونحتكم لقلوبنا. في بلادنا لا تتشابه الساعات، كل دقيقة تمر هي ذكري يجددها صوت حليم، وبصرف النظر عما يقوله المفكرون والفلاسفة من أن لكل فكرة آوانها وزمانها فإن الظرف الزمني الآني ابتكر نفسه وانتزع أغاني حليم في سياق جديد في ميدان التحرير في الخامس والعشرين من يناير؛ يدفع الحماس في شرايين حركات التغيير وحملة شموع الديمقراطية والتحرر (أحلف بسماها وبترابها.. صورة.. فدائي.. إحنا الشعب ويا حلاوة الشعب وهو بيهتف باسم حبيبه)، وبعد 38 عاماً من رحيله لم يزل عبدالحليم حافظ أيقونة للثورة وللحالمين بالتغيير كما هو نبع للرومانسية لا ينضب، فنظرة واحدة بعد كل هذه السنوات تكفي لتفسير بقائه حياً وفاعلاً في وجدان الجماهير وفي ساحة الغناء، لعل ذلك يعود إلي تفرد شخصيته وموهبته الفارقة والدفء والشجن اللذين عبر عنهما ببساطة في اختيار أغنياته، وتوافق ذلك كله مع لحظة ذهبية من عمر مصر والوطن العربي والعالم الثالث وهي لحظة التحرر من الاستعمار والخروج إلي أفق الحرية ومحاولة الاستقلال وبلورة هوية وشخصية الفنان في هذه المنطقة من العالم وفق المناخ الجديد ومفرداته التي تليق بالصحو وتنشره، فإذا نظرنا إلي معظم أفلام حليم سنجد أنها بصورة أو بأخري تعبر عن حالة من حالات الخروج من النفق المظلم إلي النور، اكتشاف شاب فقير لموهبته ووصوله إلي الشهرة وتغييره لصفحة حياته تماماً، رأينا ذلك في حكاية حب، شارع الحب، معبودة الجماهير، لحن الوفاء، وحتي في الأفلام التي ظهر فيها منتمياً إلي أسرة أو يعيش في كنف زوج الأم كما في أيام وليالي وبنات اليوم، هو نموذج للشخصية التي أرادها عصره أن تدل عليه وتنثر بعضاً من أفكاره التي لم تخرج بالمرة عن إطار الصورة النبيلة أو الهالة القدسية التي تحيط بالمطربين عموماً في السينما العالمية حينما يتجهون إلي التمثيل، صورة تتكيء علي المثالية ومنذورة لها ولا ينفع أن تعبث بها أية ريح غادرة. وعلي أية حال فإن حالة الصعود التي عبر عنها عبدالحليم حافظ في أفلامه كانت تعبيراً عن صعود المجتمع ككل، وهو ما سهل وصوله إلي وجدان الناس، فالمجتمع في لحظة بزوغ نجم حليم كان في حالة اكتشاف للذات، الفلاح والعامل وكل البسطاء تحرروا من قيد الاستعمار وكل منهم كان يفتش عن أحلامه، وكان حليم صوتهم القوي الذي يرصد أمانيهم وبسوطهم الذي يلهب مشاعرهم ويوقظ طموحاتهم حتي في أغانيه العاطفية كان تعبيراً عن قدرة هذا الفلاح الملسوع بكرباج الباشا والعامل المنهوب حقه علي أن يخرج من دائرة التخلف المغلقة ويحمل حقيبة المدرسة بحب ويجد في قلبه مكاناً لغير الحسرة والألم بحب بنت الجيران وزميلته في الجامعة أو الحي. ارتبط اسم عبدالحليم حافظ بالوحدة والحرية وثورة يوليو، وصوته يستدعي دائماً زمن الحلم القومي والمشروعات العربية الكبيرة، فالعندليب الاسمر كان ولايزال زعيماً بأغنياته التي يكتمل بها إيقاع الحلم والواقع وتكون البصيرة التي تركض نحو الغد، حتي أن نزار قباني في زيارته الأولي للقاهرة بعد سنوات القطيعة العربية التي فرضتها معاهدة كامب ديفيد سألوه عن أول مكان ينوي زيارته، فأجاب: ضريحا النجم جمال عبدالناصر والزعيم عبدالحليم حافظ!.. ونزار هنا لم يُخطيء ولكنه يُسرج بكلماته المقصودة خيل شريعة الحلم التي كسرت القواعد التقليدية إلي فضاء أوسع يفلت من الصور العتيقة التي لا تتزحزح عن نقطة محلك سر، في لحظة تاريخية إجتمعت فيها عبقرية عبدالناصر السياسية ورومانسية الزمن ورغبات التمرد علي القديم والتحرر من الآخر الغربي المستعمر، بالإضافة إلي بزوغ نخبة إبداعية في مختلف ألوان الفن والأدب كان نزار قباني جزءاً منها علي امتداد السطر كان إحسان عبدالقدوس وكمال الطويل وصلاح جاهين ومرسي جميل عزيز ومحمد الموجي والأبنودي ومحمد حمزة وعشرات ممن أسهموا في صناعة نجومية عبدالحليم ابن ثورة زمنهم، وممن رفعوا راية الحب والثورة وبناء مجتمع جديد بقوة وصفها هيكل في عبارته الشهيرة ليس هناك أقوي من فكرة آن أوانها. كنت أتصور أن الكلام الكثير عن خلو الساحة بعد رحيل حليم هو نوع من استثمار جماهيرية عبدالحليم حافظ أو عجز عن استيعاب حساسية الغناء الجديد بكل مايحمله من مواصفات عصرية يجد فيها الشباب مايسد جوعه وحاجته للغناء والتعبير عن مشاكل جديدة ربما لايفهمها أبناء الجيل السابق، وبالرغم من إرتباطي الخاص بأغنيات عبدالحليم إلا أنني كنت أتساءل: هل يأخذ عبدالحليم زمنه وزمن غيره؟ وهل يمكن أن تصلح أغانيه الوطنية للتعبير عن مشاكل الوطن في الألفية الثالثة؟ وهل يقتنع الشباب بكلمات من تلك التي غناها عبدالحليم في الخمسينيات أو الستينيات من صافيني مرة حتي االشعر الغجري المجنون؟ وهل رومانسية حليم هي نفسها رومانسية فاروق جويدة وليوناردو دي كابريو في تيتانيك مثلاً؟! وهل يعقل أن يغني أحد في هذا الزمن ابنك يقول أنا حواليا الميت مليون العربية .. ومافيش مكان للأمريكان بين الديار؟ وأدعم تساؤلي وأقول إنها أغنية وطنية عظيمة في الستينيات، لكنها الآن نكتة لأننا أوشكنا أن نبحث في بلادنا العربية عن مكان إلي جوار الأمريكان!!»، أظن أن الإجابات توالت منذ اللحظة الأولي للثورة المصرية في ميدان التحرير وحتي هذه اللحظة الت تحيطني فيها أغنيات عبدالحليم من كل صوب: البيت، الشارع، المقاهي بشكل يستفز السؤال السؤال مرة أخري من باب المراجعة الهادئة : هل يعقل أن يتحمل إيقاع الشباب السريع كلمات فاتت جنبنا وأي دمعة حزن لا، ناهيك عن المدة الزمنية الطويلة لكل أغنية؟ لاشك أن عبدالحليم نفسه أدرك في نهاية حياته طوفان التغير القادم وحاول أن يركب الموجة الجديد، فأعاد توزيع بعض أغنياته بسبعة عازفين فقط بدلاً من الأوركسترا الضخم الذي كان يصاحبه، وهو الذي استبدل بعد نصر اكتوبر افتتاحية حفلاته بأغنية عاش اللي قال بدلاً من أحلف بسماها وترابها لأنه أدرك أن الثأر قد تحقق ولابد للنصر من أغان جديدة، وهاهو استطاع تحطيم سيرورة الزمن الطبيعية والقفز بين الماضي والمستقبل والحاضر. كان صوت الشعب الطالع تحت جناح ثورة يوليو وصورتهم علي الشاشة الفضية التي عبرت بشكل أو بآخر عن حالات الصعود لمجتمع بأكمله، ولم يزل كذلك في زمننا الحالي صوتاً قوياً يرصد مطالب شعب وبسوطاً يلهب مشاعرهم ويوقظ طموحاتهم في مجتمع يكتشف ذاته من جديد، ولاشك أن عبدالحليم الذي حزن كثيراً في زمن السادات لمنع أغانيه الوطنية التي أرخت لزمن عبدالناصر ما كان ليتحمل حزن مابعد كامب ديفيد فكان رحيله ختاماً قوياً لمسيرته الغنائية والنضالية لأنه لو عاش ما كان ليستطيع مواجهة المتغيرات العاصفة التي اجتاحت كل شيء.