حضرتك عايزة تسمعى أم كلثوم ولا أجيب إذاعة نغم نسمع ساعة حليم»، يسأل سائق التاكسى العالق على كوبر 6 أكتوبر لأسباب غير معروفة، يتضح فيما بعد أنها مصادمة بين سيارات مسرعة وليس قطعا للطريق من أناس تكالبت عليهم أسباب الضيق. ودون انتظار للاجابة يحول، المشرف على الثلاثينيات من عمره، مؤشر الراديو من الأغانى لنغم «إف إم» وقد اقتربت الساعة من الحادية عشرة لتأتى المقدمة الموسيقية لأغنية سواح، ويعلن الراديو عن بدء «ساعة حليم». مدحت، السائق، يقول «أنا أصلى باحب عبدالحليم جدا، مش باحس إنى فوق الكوبرى ولا محبوس فى الزحمة وانا باسمعه، باحس انى باسمعه وبس»، ويضيف «على كل حال بعد ساعة حليم فى حفلة الست، يعنى الواحد يسمع الاتنين، ما أنا اصلى باشتغل بالليل»
لم يجد مدحت المتخرج من كلية التجارة، بعد قصة كفاح تلاها مع طول توقف السير، من عمل غير سائق سيارة اجرة فى الوردية الليلية التى يهجرها سنوات مَن هو ليس مضطرا للبحث عن الرزق فى ساعات يغيب فيها الامن ولم يجد له من ونيس فى «ظلمة الدرب العسير» سوى عبدالحليم.
«انا ماكنتش باسمع قديم بس من الراديو سمعت عبدالحليم واتعلقت به.. آه سمعت كمان ام كلثوم بس الصراحة انا باستريح لعبدالحليم اكتر، باحس انه لسه معانا مش انه مات من زمان قوى يعنى».
قبل 36 عاما فى الثلاثين من مارس بكت مصر الصمت الذى ذهب إليه عبدالحليم بعد اكثر بكثير من عقدين من الزمن فاض خلالها انتاجه الغنائى والسينمائى وطغت فيها تفاصيل حياته الاليمة التى بدأت بوفاة والدته يوم ميلاده ثم الذهاب به إلى ملجأ للايتام قبل ان يلتحق بمعهد الموسيقى ثم بفرقة الاذاعة الموسيقية ليعرف اول طريق «حياة العندليب» فى مطلع الخمسينيات ولتأتى بواكير شهرته الاولى من ايام الثورة الحلم ثورة 25 يوليو التى كان صوته لها، بآمالها وانتكاساتها.
ويوم أن وارى الثرى جسد حليم فى الاول من أبريل، بعد جنازة مهيبة لا تقل فى رأى الكثيرين عن تلك التى اهداها الشعب قبلها بنحو سبعة اعوام لجمال عبدالناصر، ظن البعض من هؤلاء الفنانين الذين رأوا فى عبدالحليم الحجرة العثرة لشهرتهم، أن المجد يشارف الطريق، لكن المجد لم يترك عبدالحليم ليذهب إليهم.
يقول كمال رمزى الناقد الفنى إنه بعد ما يزيد على ثلاثة عقود على ذهاب عبدالحليم يبقى «حليم» بأغانيه العاطفية كما بأغانيه الوطنية لأن عبدالحليم تمكّن «كما لم يتمكن آخرون كثيرون غيره من ان يحفر لنفسه مكانا واضحا فى وجدان الوطن.. فعبدالحليم نجح ان يكون جزءا من هذا الوجدان العاطفى والوطنى للمصريين، وهذا أمر يتجاوز فى واقعه مسألة الزمن، وبالتالى فنحن نتابع قصص نجاح غنائية أتت بعد عبدالحليم ولكن ايا من هذه القصص لم تتمكن ان تمحو قصة «حليم» لمن عاش عبدالحليم وعرف اغانيه، أو حتى لمن لم يعش عبدالحليم وعرف اغانيه.. كما أن أيا من هذه القصص لم تحول دون ان يفتح عبدالحليم نفسه بابا جديدا لمستمع ومشاهد جديد حتى لمن جاء بعد موته».
وبحسب عادل، أحد العاملين فى واحد من منافذ بيع صوت الفن، الشركة المنتجة لأغانى عبدالحليم والتى كان يوما شريكا فيها مع الموسيقار الخالد محمد عبدالوهاب، فإن من يشترى اغانى عبدالحلم ليسوا فقط من ابناء الجيل الذى عاش عبدالحليم وحزن يوم رحيله ولكن من اجيال كثيرة.
«لا ما فيش يا مالكا قلبى على سى دى... لا لسه ما نزلتش على سى دى،» يجيب عادل عن سؤال فتاة جامعية محجبة، منار، فى رقة تسأل عن تلك القصيدة التى غناها عبدالحليم فى السبعينيات.
تقول منار إن والدتها كانت طالبة فى المدرسة الاعدادية عندما توفى عبدالحليم وانها محتفظة بأعداد من جرائد يومية حملت انباء الوفاة وصور الجنازة وقصص رواها اناس عرفوا عبدالحليم. داليا، والدة منار، محتفظة ايضا بتسجيلات كاسيت سجلتها بنفسها لحفلات عبد الحليم من الاذاعة، مازالت تتصدر مكتبة منزل جديد انتقلت اليه الاسرة فى التجمع الخامس قبل اشهر.
مجموعة داليا القديمة التى تحرص على الا يفرط احد فى استخدامها ضمت إليها هذا العام مجموعة من الاسطوانات المدمجة (السى دى) اصدرتها صوت الفن فى علبة لاغانى عبدالحليم. «بس ما كانش فيها يامالكا قلبى وانا باحب الأغنية دى، فقلت اجيبها».
عادل يقول إن الاغنية لابد وان يتم اصدارها على سى دى لأن «عبدالحليم من الناس القليلين اللى اغانيهم بتحقق مبيعات جيدة وهو من اكتر الناس، زى ام كلثوم، اللى اغانيهم مازالت تباع سواء على شرائط كاسيت أو سى دي»، وانهما دون غيرهما من الفنانين الذين اصدرت صوت الفن مجموعات «كاملة» تقريبا لهم، وحققت رواجا فأعيد الطبع مرات.
بقاء عبدالحليم الفنى برأى رمزى مرتبط باسباب عديدة، اغلبها فنى. «يتحدث البعض عن تلك القصة الانسانية المؤلمة لذلك الشاب الاسمر الوديع الملامج، صاحب الصوت الحزين الذى به شحنة عاطفة وانفعالية تتجاوز كثيرا قوة الصوت، وهم محقون، لكن الحديث عن عبدالحليم وبقائه ايضا لا يمكن ان يخلو من الحديث عن نفحة الحداثة التى حرص عليها والحرص على اختيار الكلمات والتنوع فى اختيار الألحان فجاء الانتاج متنوعا بما يتناسب مع الكثير من الاذواق فى حينه وبما يمكن ان يبقى بعد عبدالحليم،» بحسب رمزى.
لا تعرف منار وصديقتها فرح وهما طالبتان فى كلية الهندسة سببا واضحا لتعلقهما بأغانى عبدالحليم، وتقول فرح «مش عارفة يمكن اتأثرت بمنار ومنار اصلا متأثرة بوالدتها لكن الحقيقة أن عبدالحليم بيعبر عن حاجات كتيرة، مش بس فى اغانيه العاطفية لكن كمان فى اغانيه الوطنية.. احنا وقت الثورة (25 يناير) كنا بنغنى اغانيه كتير فى الميدان».
ذلك الفنان الذى غنى لثورة يوليو وغنى بعض من ثوار ثورة يناير، بعد نحو ستة عقود، اغانيه الوطنية، هو على حد قول رمزى «الفنان الذى جسد وحفظ ليس قصة ثورة يوليو تحديدا، ولكن بالأساس تلك القيم التى يحب الشعب المصرى أن ينتمى إليها ويدافع عنها، لاجيال متتالية». «فالرغبة فى التحرر والعزة والكرامة والصبر فى لحظات الانكسار»، بحسب رمزى، هى ما يتغنى به عبدالحليم، فى اغانى مثل «حكاية شعب» و«صورة» و«عدى النهار».. «الثابت فى الوجدان سواء من الناحية العاطفية أو من الناحية الوطنية هو تحديدا ما حمله عبدالحليم فى اغنياته التى مازالت تجد رواجا».
وبحسب شريف نجيب، السيناريست، فإن بقاء هذا الرواج ليس بالضرورة امرا بلا نهاية لانه مرتبط إلى حد ما بأجيال معينة. نجيب الثلاثينى، يشير تحديدا إلى اجيال من الفنانين مثل محمد خان الذى استخدم عبدالحليم فى فيلمه الهام «زوجة رجل مهم» ليس فقط كتعبير عن فكرة انسانية حاكمة أو مرحلة زمنية بعينها ولكن ايضا للتعبير عن حلم ما لزمن ما.
جيل نجيب، هو برأيه آخر الاجيال التى نشأت مع عبدالحليم لأن التليفزيون المصرى فى الثمانينيات، وقت طفولة نجيب ومراهقته، كان كثيرا ما يذيع اغانى وافلام عبدالحليم وهو الامر الذى يتناقص بالفعل حتى ان القناة الاولى للتليفزيون المصرى اختارت ظهيرة الثلاثين من مارس هذا العام ان تذيع احد الافلام الكوميدية التجارية الشعبية (اللنبى) دون اى من افلام عبدالحليم.
«افتكر ان الناس لم تعد مهتمة على نطاق واسع ان تشاهد الافلام الابيض والاسود، ولا اظن ان هذا الامر قاصر بحال على المشاهد المصرى ولكن هذه ثمة عالمية فلا اظن ان كثيرين من شباب الجامعة فى فرنسا أو امريكا يشاهد افلام آلان ديلون أو همفرى بوجارت».
النوستالجية قد تغير فى الامر الكثير، والنوستالجية هى فعل من يرغب فى تذكر ما كان ولكنها ايضا فعل من يرغب فى الهروب مما هو حال، حسبما تذكر استاذ الانثروبولوجى بالجامعة الامريكية ريم سعد.
وتقول سعد ان النوستالجية، الناجمة عن استمرارية الارتباط أو الرفض للواقع، تسمح بما يمكن ان يوصف باعادة الاكتشاف ومن هنا تأتى اجيال جديدة تبحث فيما لم تعرفه من قبل لتقابل ربما اغانى عبدالحليم، فيكون البحث عن تقديمها لهذا الجيل بوسائط فنية متطورة تتجاوز مرحلة شريط الكاسيت إلى مرحلة السى دى.
وبحسب سعد فإن ذلك الارتباط غير المبرر دوما بالضرورة بين عبدالحليم وعبدالناصر ربما كان فى ذاته جزءا من النوستالجيا لعبدالحليم لأنها بصورة ما مرتبطة بتلك النوستالجيا الحالة لسنوات ناصر التى تبقى فى ذهن الكثيرين وبعيدا عن التدقيق السياسى بالضرورة سنوات العزة والكرامة الوطنية وسعى الدولة لأن تكون فى خدمة الافقر والاقل حظا. «هذا الحب الرومانسى لناصر لا يمكن انكاره»، حسبما تذكر سعد.
اكتساب صفة «الكلاسيكية» هى كما النوستالجيا، فى رأى سعد، من الاسباب التى تبقى الفنون والآداب.
وبحسب نجيب فإن عبدالحليم هو بالتأكيد من الكلاسيكيات.. «الابيض والاسود هو بالتأكيد تعريف من تعريفات الكلاسيكيات اليوم.. ونعم الكلاسيكيات تبقى ولكنها ليست بالضرورة محل اهتمام واسع».
اغانى عبدالحليم، كما يقول عادل البائع باحد منافذ صوت الفن، هى بالتأكيد من الكلاسيكيات «عبدالحليم وعبدالوهاب وام كلثوم.. نضع اعمالهم فى جانب منفصل عن الاغانى الجديدة».
ولكن عادل يضيف ان الابقى من انتاج عبدالحليم الغزير هى تلك الاغانى المرتبطة بالافلام، خاصة بين الاجيال الاصغر. «يندر ان يأتى أى من الشباب ليسأل مثلا عن اغنية «صافينى مرة» ولكن الكثيرين يسألون على «بتلومونى ليه» و«اهواك» وكمان «مغرور»،» يقول عادل فى اشارة إلى الاغانى التى شملتها افلام «حكاية حب» و«بنات اليوم» و«الخطايا».
هذه الافلام الثلاثة، بحسب اميرة، العاملة فى احدى التليفزيونات الخاصة من اكثر الافلام التى تذاع لانها ببساطة «من اكثر الافلام التى يحبها المشاهد».
شعبية هذه الافلام فى رأى الكثيرين مرتبطة ربما بتقاطعها مع حياة عبدالحليم نفسه «جدارية الحلم والالم»، حسب توصيف استخدمه الروائى ابراهيم عبدالمجيد فى تعليق على كتاب «حليم وانا.. الدكتور هشام عيسى الطبيب الخاص لعبدالحليم» الصادر عن دار الشروق فى طبعة منقحة عام 2010، بعد اكثر من ثلاثة عقود على رحيل عبدالحليم.
«هذا الكتاب لا يحمل فقط ذكريات الطبيب الخاص لعبدالحليم حافظ.. بل هو يرسم ملامح عصر كامل من الفن المصرى»، بحسب كلمات الروائى علاء الاسوانى المدونة على الغلاف الخلفى للكتاب.
كتاب عيسى ليس سوى اطلالة من رجل اقترب من عبدالحليم وليس تفسيرا لقصة حياة لم ترو ابدا تفاصيلها كاملة وإن بقت دوما محل التكهنات، ليس بها من المؤكد الكثير سوى قصة اليتم والمرض وجمال الصوت ودلائل الذكاء الشديد التى تجعل الفنان الاحب يدرك وهو يقدم اغنية «فاتت جنبنا» ان يقول للجمهور «انا النهارده هاغنى لحن استاذى محمد عبدالوهاب» فى كسر للتقليد الذى تبناه يوما بتقدم الاغنية بذكر اسم المؤلف ثم الملحن أو على العكس على حسب القامة الاعلى.
«لقد كان عبدالحليم فنانا موهوبا ولكنه كان ايضا شخصا محبا ومتقنا لما يقوم به، لهذا نجح وهو الذى ظهر فى زمن كانت به قامات فنية لا نهاية لموهبتها ونجاحاها ولهذا يبقى رغم مضى الزمن وتنوع الاذواق وتغير الامزجة،» هكذا يوجز رمزى.