أذكر منذ بضع سنوات انني كنت قد قرات مقالاً يصف فيه صاحبه وهو طبيب نفسي علي ما أعتقد الشعب المصري بأنه مصاب بحالة اكتئاب جماعي (أو جمعي)! وفند كاتب المقال أسباب تشخيصه وأعراض المرض الذي إعتقد إنه أصاب المصريين برمتهم. ولا أدري ماذا دعاني لتذكر ذلك المقال حينما هممت الآن لأكتب عن رحلتي لزيارة الوطن الأخيرة. قضينا اسبوعين بمصر وكالعادة إستمتعت بكل دقيقة قضيتها هناك، حتي وجدت صعوبة في أن أجمع ثيابي في الحقيبة في آخر الرحلة وأعترف بانتهاء الأجازة، وبأن الوقت قد حان لمعاودة حياة الدوران في الساقية، كالثور المغماة عينيه حتي لا يصيبه الغثيان من كثرة اللف والدوران حول نفس النقطة. أريد أن أكتب عن رحلتي ولكن قلمي يأبي ويصر علي مراجعة تشخيص حال المصريين الذين كنت وسطهم قبل أيام قليلة. هل أصاب الكاتب في تشخيصه؟ ما لي وما للإكتئاب؟ آه! إبحث عن المرأة كما يقول الفرنسيون! هي تلك المرأة التي قابلتها في القاهرة، هي التي دفعتني للتفكير في كل هذا. هأنذا أدَّعي هنا أن كاتب مقال "إصابة المصريين بالإكتئاب الجمعي"، قد أخطأ التشخيص يوم أن كتب ذلك الكلام المنطقي المثير للعقل والتفكير قبل سنوات. وكما هو الحال مع الحالات الفردية التي تصاب بالشيزوفرينيا (الفصام)، فإنها عادة ما يساء تشخيصها في البداية فتبدو أعراضها كأنها أعراض مرض الإكتئاب العادي. لذلك فإني أري اليوم أن المصريين مصابون بحالة "شيزوفرينيا جمعية" بدأت أعراضها ربما قبل عدة سنوات، ولكن ربما بدأت بحالات من الانزواء وفقدان الرغبة في الاختلاط مع غياب روح الدعابة أو النكتة المصرية الشهيرة، التي كنت تسمعها أينما سرت في شوارع القاهرة، أو أي من المدن المصرية وحتي أصغر قرية أو نجع بطول مصر وعرضها. كان لابد لك وأن تسمع صوتاً يندفع من داخل مقهي، أو كشك سجائر، أو مجلس حول مدخل بيت، أو حتي يتدحرج إلي أذنيك قادماً من شباك أو بلكونة بأعلي عمارة قد يتصادف أنك تمر من تحتها. صوت يقول: "سمعت آخر نكتة؟ كان فيه مرة واحد..." وتضحك أنت وتقهقه وأنت تدرك أن مصر "لسه بخير". ولكن حدث وأن ماتت الضحكة علي وجوه المصريين تدريجياً قبل عدة سنوات، وغلبت الوجوه العابسة المكفهرة جنبات الشوارع والطرقات. ربما كان هذا هو ما دعا الكاتب الطبيب أن يصف المصريين خطأً بالمكتئبين. لكني هنا أكاد أجزم بأن التشخيص الحقيقي هو الشيزوفرينيا أو الفصام ولكني سأستخدم التعبير الغربي في هذا المقال، لما يحمله اللفظ العربي من إيحاء بأن مرضي الفصام يعانون من تعدد الشخصيات كما هو شائع. تعالوا نبحث معاً في أعراض ذلك المرض العضال لنري ما إذا كان المصريون يعانون منه أم لا. بدءاً من التعريف نري أن "المرضي يصعب عليهم التفريق بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي مما يدور حولهم". فمثلاً تملأ الأجواء من حولك روح التدين والنسك، فالرجال يرفلون بالجلاليب وقد طالت ذقونهم وعلت جباههم علامات الصلاة (الزبيبة)، والنساء التفحن بأميال من الأقمشة تغطي كل سنتيمتر من أجسامهن، فيما عدا فتحة واحدة أو فتحتين في أحيان كثيرة يبصرون خلالها الطريق أمامهن وحتي لا ينكفئن علي وجوههن. ومن حول هؤلاء الرجال والنساء تملأ الطرقات والشوارع والمحال التجارية ومداخل البيوت وسيارات الأجرة أصوات تتلو القرآن نهاراً وليلاً، أو تصرخ بحرقة الإيمان من خلال مكبرات للصوت مزروعة عند كل ركن من الأركان، تدعو الناس للصلاة خمس مرات في اليوم، وقبل كل دعوة للصلاة لابد من صلوات تعد البشر لاستقبال دعوة الصلاة، ثم صلوات ونداءات بعدها، تتلو نداءات الصلاة السابقة، حتي لتكاد تلتحم كل تلك الصلوات في صلاة واحدة متصلة، تنافس تلاوات قرآنية أخري تنبعث من أجهزة الراديو في كل مكان، تسمرت مؤشراتها علي اذاعة القرآن الكريم. تستطيع بالطبع، لو كنت شخصاً طبيعياً أعني هنا غير مصاب بالشيزوفرينيا أن تتوقع إنه في ظل ذلك الجو المتخم بالورع في كل مكان بمصر، أن تجد الناس وقد تحولوا إلي ملائكة، بل وكادوا يطيرون إلي عرض السماوات من فرط سموهم الروحي. ولكن كما قلت يصعب علي المريض بالشيزوفرينيا أن يميز بين ما هو حقيقي وغير حقيقي من حوله، ولذا فقد اقتصر التدين في مصر علي حالات بصرية يراها المصري في كل مكان من حوله لايستطيع التفريق بين حقيقتها، أو عدمها. وتلك المرأة التي قابلتها بالقاهرة، جاءت لتقابل صديقي أخصائي "اللعب" باستخدام الكومبيوتر في شتي المجالات قصدته المرأة وكانت قد جاءت إلي مكتبه بصحبة ابنتها ذات الإثني عشر عاماً، واستأذنت في أن تنتزعه من إصلاح الكومبيوتر الخاص بي، لأنها متعجلة جداً. إذ طلبت منه بكل جرأة وتبجح، أن يزوُّر لها فوراً شهادة تخرج ابنتها التي جاءت بها لتتعلم أول دروس الحياة العملية، والتي كانت تعبر الصف الإعدادي الثاني للثالث. إذن فهي ليست مسألة مُلحة تتطلب التزوير لتنقذ مستقبل الفتاة حتي لو اعتبرنا أن تزوير شهادة التخرج يمكن أن ينقذ أي مستقبل فما السبب إذن؟ عرفت أن الأم تعمل بالمحاماة والأب بسلك القضاء، فماذا يمكن أن يكون الدافع للتزوير في تلك العائلة التي يعمل عائلاها في خدمة القانون؟ لابد أنه سبب خطير إذن! لو كان "حقيقيا" بالطبع! ولكنها الشيزوفرينيا! فالسبب الذي جعل هذه الأم المحامية ترتكب هذه الجريمة التي يعاقب عليها القانون بالسجن والغرامة كما تعلم هي ذلك جيداً وأمام غريب مثلي، وبصحبة ابنتها الغضة، هو أن والد الصبية كان قد وعدها بمبلغ ألف جنيه لو حصلت علي مجموع معين، فشلت الفتاة في أن تلحق به، فقررت الأم أن تطلب من صديقي تزوير شهادة ابنتها، لتفوز بالمبلغ الذي لم تكن الصبية تستحقه، هكذا علي الملأ! وبسرعة قبل أن يعود الأب للمنزل ويطلب مراجعة شهادة التخرج! هل صعب علي المحامية أن تفرق بين الحقيقي والمزور، لذلك قصدت صديقي الذي يقدر أن يجعل الشهادة المزورة صورة طبق الأصل من الأصلية؟ ألهذا لم تتردد في اصطحاب ابنتها لتشهد عملية التزوير بنفسها لتعلمها إنه لا فرق الآن بين الحقيقي والمزور؟ هل هذه هي أعراض الشيزوفرينيا؟ ثم يبدأ المريض بالشيزوفرينيا بأن "يفقد القدرة علي التفكير المنطقي، فيصدق تماماً أفكاراً أو ادعاءات تخلو من المنطق، أو يعتقد بأن هناك قوة خارجية خارقة في العادة تتحكم في حياته وتشكل تفاصيلها، وتسيره علي هواها". لذلك يسود بين المصريين مثلاً الاعتقاد بأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر من فعل المخابرات الأمريكية والموساد، وأن اليهود لم يذهبوا إلي عملهم في ذلك اليوم، حتي تقوم الحكومة الأمريكية اليمينية المتصهينة بالتنكيل بالعرب والمسلمين، بغض النظر عن عدم منطقية أن يقوم جناح من أجنحة الإدارة الأمريكية بقتل آلاف الأمريكيين، حتي يتسني لهم محاربة العرب والمسلمين، حيث أن الحرب بين أمريكا وبين العراق وبين تنظيم القاعدة مثلاً كانت قد بدأت قبل تلك الأحداث بسنوات وسنوات، وبأن هناك المئات من اليهود الذين قتلوا فعلاً من جراء تلك الاعتداءات السبتمبرية، ولم يمكثوا في بيوتهم كما يعتقد معظم المصريين. كما يتفكرون أيضاً فيما يشبه اليقين بأن كل مصيبة أو علي الأقل أمر جلي يمر بهم في حياتهم اليومية، هو بلا شك من صنع إسرائيل وأمريكا المتربصين بهم وكأنهما لايجدان ما يفعلانه في هذه الدنيا، فتفرغا للعكننة علي المصريين، فأفسدا المحاصيل الزراعية وسرطناها، ونشرا أنفلوانزا الطيور والخنازير لقتل المصريين أو بيع الأمصال التي تقصم وسطهم. ثم إنهما السبب في الدفع بتغيير المناهج التعليمية ومحاربة الإسلام، ونشرا بين الناس وخصوصاً هؤلاء الليبراليين الملاعين أفكاراً لهدم الوحدة الوطنية وتمزيق النسيج المترابطة عناصره، ودعم أقباط المهجر وتجنيدهم لعرقلة المشروع الديموقراطي المصري لئلا تقوي مصر فتهدد أمن إسرائيل. وأخيراً من حيث التوقيت وليس الأهمية فإن إسرائيل هي وراء استقواء دول منابع النيل علي مصر، والعمل علي حظر المياه عنها لذبح المصريين وترويعهم من المنبع! وبعد ذلك "يعاني المريض من خلل في إستقبال والتعبير عن المشاعر". فنجد المصريين يتهكمون من سكناهم المقابر والعشوائيات التي انتشرت في كل أرجاء الوطن، حتي صارت هناك وزارة لتنظيم التعامل في شئون العشوائيات وهنا يجدر بالإشادة بلا معقولية الجمع بين مفردي التنظيم والعشوائيات ويسخرون من إرتفاع الأسعار المذهل الذي لابد وأن يقصم ظهر كل عائلة بمصر، ومن البطالة التي ارتفعت معدلاتها لنسب غير مسبوقة. ويسخرون من تزوير الانتخابات وآخرها انتخابات مجلس الشوري الأخيرة، ومن التعذيب في أقسام الشرطة وفي طوابير الخبز، ومن غرقي المراكب في عرض البحار، ومن كل صغيرة وكبيرة تمس حياتهم، بل وتعتبر علي المستوي الإنساني بصفة عامة سبباً لكل معضلة منها علي حدة، أن تكون سبباً وجيهاً لقيام ثورات وانقلابات في بلدان أخري، حتي نشر الأسواني كتاباً بعنوان "لماذا لا يثور المصريون"! بينما علي الجانب الآخر نري المصريين يثورون دورياً فعلاً، وفي شتي أنحاء مصر، دفاعاً عن الظلم الذي يلحق بالفلسطينيين في قطاع غزة! ثم يتطور المرض "فيبدأ المصاب بالشيزوفرينيا في سماع أصوات، أو إبصار أشياء، أو شم روائح ليست موجودة علي أرض الواقع، وهي ليست أوهاماً ولكنها بالنسبة للمريض حقيقية تماماً يبصرها فعلاً ويسمعها ويستشمها وكأنها موجودة بالفعل". فمثلاً خذ تصريحات الوزراء بارتفاع مستوي الدخل، وارتفاع مستوي المعيشة وتحسن مستوي الخدمات الطبية، والتعليم والإسكان والمواصلات والطرق ... إلي آخره، كل يؤيد كلامه بأرقام وإحصاءات وكأنه يصف بلداً آخر. أو مثلاً حكاية اعتداء الجزائريين علي المصريين في موقعة أم درمان بالآلاف، وعن سقوط عشرات المصابين والضحايا، رآهم كل من كان هناك بأم عينه، ولكن فشل إتحاد الكرة، والمسئولون المصريون في إثبات حالة واحدة تقنع الفيفا بمسئولية الجمهور الجزائري عن إفساد المباراة، فلم يعاقب الفيفا الجزائريين ولو بكلمة عتاب من وراء القلب. أو خذ مثلاً النداء بذبح كل الخنازير في مصر للوقاية من وباء انفلونزا الخنازير، الشهير بمذبحة الزبالين، وما استتبعها من نحر كل خنزير بأنحاء البلاد، وتشريد آلاف عمال جمع القمامة الذين كانوا يقتاتون بتقديمها للخنازير لبيعها فيما بعد لتقدم لحومها للسياح الأجانب ولمسيحيي مصر الذين ارتضوا لأنفسهم أن يأكلوا ما حرمه الله في كتابه العزيز. ومن بعدها تراكمت أكوام وأكوام من الزبالة وانتشرت روائحها أعلاناً عن نجاح أم المعارك! كل هذا في حين لم تقم دولة واحدة في العالم بمثل ذلك العمل الفذ، ذلك لأنهم لم يبصروا الخطر وهو يهاجمهم كما أبصره المصريون. كما يعاني مرضي الشيزوفرينيا من "غرابة حديثهم وتركيبات الجمل وانتقاء الألفاظ". فنجد بينهم مطرباً إسمه "أبو الليف" يقول بتحبني ... لا اشك ... مين دول اللي علي الفيس بوك... لو مشلتيش العيال دي ... عليك هسك .... وانااااااااااااااا انا مش خرونج ... لا .... لا وآخر بيحب عمرو موسي وبيكره إسرائيل وبيبطل السجاير ويدخل الإنعاش بسبب جرعة حشيش مجعلصة، وآخر يركب الحنطور ويتحنطر! كما ينشرون كتباً بعناوين مثل "مصر مش أمي دي مرات أبويا" و "عليك واحد" و"عاوزة اتجوز" و"فك المربوط وربط السايب". ويستخدمون عبارات واصطلاحات غامضة مثل "البت دي بيئة" و"فلان ده إحلقله" و"الباشا خلاص عَدَّي" و"دي غالية طحن". كما يهملون في مظهرهم الخارجي، ثم يبدأون في العزلة والإنعزال، وهذه مرحلة لم يصل إليها المصريون بعد، فما يزال الشباب منهم يدعكون شعورهم بالجيل وترتدي المصرية الحجاب المزركش وتلون البقية الباقية من وجهها بالمساحيق والألوان لتعلن في خفة دمها "نحن هنا"! أتري يا عزيزي صحة تشخيصي للمرض النفسي الذي أصاب بلداً برمته! ومع ذلك من منا لو مرض أخوه أو صديقه أو حبيبته يهون عليه إلا أن يهيم حباً في أي منهم؟