أسماء المرشحين على مقاعد الفردي بدوائر محافظة الجيزة لانتخابات مجلس النواب 2025    إسرائيل ال3.. أسعار البنزين الأعلى تكلفة في العالم (قائمة ب10 دول)    محافظ أسوان يقرر تعديل تعريفة الأجرة للمواصلات الداخلية والخارجية    مساعد الرئيس الروسي: بوتين يؤيد فكرة ترامب بعقد قمة روسية أمريكية فى بودابست    اتهام مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق ب 18 تهمة بينها الاحتفاظ بوثائق بشكل غير قانوني    نتنياهو يبحث مع ترامب تطورات ملف جثامين الأسرى الإسرائيليين بغزة    رويترز: الجيش الأمريكي ينفذ ضربة جديدة في منطقة الكاريبي ضد سفينة يشتبه بأنها تحمل مخدرات    بعد إعلان حماس .. نتنياهو: إسرائيل ستعرف كيف تتصرف    ضبط قائد «توك توك» صوّر فتاتين بملابس خادشة ونشر الصور لزيادة المشاهدات    شيرى عادل من الجونة: أنا بموت فى نيللى كريم وحاسة حاجة مختلفة السنة دى فى المهرجان    سعر الدولار اليوم الجمعة 17102025 بمحافظة الشرقية    فاروق جعفر يتغزل في نجم الزمالك.. ويؤكد: «قدراته الفنية كبيرة»    ستاد المحور: الكوكي يدرس الدفع ب صلاح محسن في التشكيل الأساسي أمام الاتحاد الليبي وموقف الشامي    سعر الأسمنت اليوم الجمعة 17 أكتوبر 2025 فى الشرقية    طقس حار نهارًا وشبورة صباحية خفيفة.. الأرصاد تكشف تفاصيل حالة الطقس الجمعة 17 أكتوبر 2025    «زي النهارده».. وفاة شيخ الأزهر الدكتور عبدالحليم محمود 17 أكتوبر 1978    انطلاق الدورة 33 من مهرجان الموسيقى العربية احتفاءً بكوكب الشرق أم كلثوم (صور)    عاجل - حريق أمام المتحف المصري الكبير قبل افتتاحه    أكثر من ربع مليون جنيه.. سعر صادم لفستان أسماء جلال في مهرجان الجونة    أطعمة طبيعية تساعد على خفض الكوليسترول في 3 أشهر    حيلة لتنظيف الفوط والحفاظ على رائحتها دائمًا منعشة    لو عايز تركز أكتر.. 5 أطعمة هتساعدك بدل القهوة    حبس متهم بقتل شقيقه فى قنا    روسيا توسع أسواق نفطها وتستهدف إنتاج 510 ملايين طن    أوقاف الفيوم تعقد فعاليات البرنامج التثقيفي للطفل لغرس القيم الإيمانية والوطنية.. صور    كريم نيدفيد: رمضان صبحي ليس صديقى ولا أعتقد أن هناك فرصة لعودته للأهلى    إبراهيم محمد حكما لمباراة الإسماعيلى والحرس ومحجوب للجونة والبنك    الصحف المصرية: إسرائيل تماطل فى فتح معبر رفح    حمزة نمرة ل معكم: وفاة والدتى وأنا طفل أورثتنى القلق وجعلتنى أعبّر بالفن بدل الكلام    فلسطين.. قوات الاحتلال تطلق قنابل الغاز خلال اقتحام بلدة بيت ريما قضاء رام الله    جوتيريش يدعو للعودة إلى النظام الدستورى وسيادة القانون فى مدغشقر    أسماء المترشحين بنظام الفردي عن دوائر بمحافظة الغربية لانتخابات النواب    السيطرة على حريق داخل مخزن لقطع غيار السيارات بميت حلفا    رفضت إصلاح التلفيات وقبول العوض.. القصة الكاملة لحادث تصادم سيارة هالة صدقي    نجم الأهلي السابق يطلب من الجماهير دعم بيراميدز في السوبر الإفريقي    فاروق جعفر: الأهلي أفضل من الزمالك.. ولكن الأبيض مازال في المنافسة    يونس المنقاري: بيراميدز فريق جيد.. سعيد ب أداء الشيبي والكرتي.. ومواجهة السوبر الإفريقي صعبة    الحفني يشهد توقيع بروتوكول تعاون بين سلطة الطيران المدني وإدارة الحوادث    أسعار الخضار والفاكهة في أسواق أسوان اليوم الجمعة    بحضور رئيس مجلس الوزراء.. وزير الشؤون النيابية يشهد ختام أسبوع القاهرة الثامن للمياه    4 أبراج «مبيخافوش من المواجهة».. صرحاء يفضلون التعامل مع المشكلات ويقدّرون الشفافية    تركي آل الشيخ: «بدأنا الحلم في 2016.. واليوم نحصد ثمار رؤية 2030»    فضل يوم الجمعة وأعماله المستحبة للمسلمين وعظمة هذا اليوم    فضل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة ووقتها المستحب    أدعية يوم الجمعة المستحبة للمتوفى والمهموم والأبناء    ترامب يهدد بتحرك أمريكي ضد حماس حال خرق اتفاق غزة    الداخلية تكشف ملابسات واقعة فيديو «التوك توك» بملابس خادشة للحياء    السيطرة على حريق سيارة ملاكي بميدان الرماية في الهرم    تفاصيل لا يعرفها كثيرون.. علاقة فرشاة الأسنان بنزلات البرد    مصطفى شلبي يتنازل عن 50%؜ من مستحقاته لنادي الزمالك    ارتفاع أسعار البنزين..جنيهين للتر الواحد    استبعاد هيثم الحريري من انتخابات البرلمان بالإسكندرية وتحرك عاجل من المرشح    سعر السكر والأرز والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الجمعة 17 أكتوبر 2025    الرعاية الصحية: المواطن يدفع 480 جنيه ونتحمل تكلفة عملياته حتى لو مليون جنيه    هل يجوز المزاح بلفظ «أنت طالق» مع الزوجة؟.. أمين الفتوى يجيب    بالأسماء والأسباب .. تعرف علي قائمة المستبعدين من خوض انتخابات النواب بالقليوبية    هل الصلوات الخمس تحفظ الإنسان من الحسد؟.. أمين الفتوى يوضح    جامعة قناة السويس تطلق فعاليات«منحة أدوات النجاح»لتأهيل طلابها وتنمية مهاراتهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يحيي مختار:أحاول أن أبعث النوبة وأحييها
نشر في أخبار الأدب يوم 28 - 03 - 2015

مبدع عربي مصري نوبي، ابن النيل، كونته الطبيعة، متمسك بدينه وقيمه، ولد عام 1936 بقرية الجنينة والشباك في أسوان، قدم إلي القاهرة في عمر ثماني سنوات ليلحق بوالده ويتعلم، لم يكن يعرف كلمة عربية واحدة، فلغته الأم هي النوبية، بدأ في تعلم اللغة العربية ودخل الكتاب، أحضر له والده شيوخا لتحفيظه القرآن، ثم التحق بمدرسة المعادي وحصل منها علي الشهادة الابتدائية عام 1950، ثم الإعدادية عام 1952، فالثانوية العامة عام 1956، وبعدها التحق بكلية الآداب قسم صحافة في جامعة القاهرة ليتخرج عام 1963، ويصبح فيما بعد صاحب كتابات النوبة "يحيي مختار".
رغم التجارب الكثيرة والمتنوعة التي عاشها في المدينة بالقاهرة، وما فيها من أحداث جديرة بالتناول والكتابة، إلا أنه لا يستدعيه أو يكتب سوي عن النوبة التي ولد وعاش فيها سنواته الأولي، لأن تجارب العاصمة تتماس بشكل كبير مع ما يقدمه بقية الكتاب هنا: "لأننا جميعا في وطن واحد ونعيش الظروف نفسها سواء سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، فتجاربنا متشابهة، كتاب العاصمة كثيرون ومتنوعون، يعبرون عنها وأكثر الناس قدرة علي ذلك، أما النوبة؛ من سيكتب عنها إن لم يكن ابنا من أبنائها؟، فالنوبة لا يعرفها أحد، هناك أناس لا يعرفون عنها سوي السد العالي، أما عاداتها وتقاليدها ومعاناة أهلها وتضحياتهم، لا يسمعون بها، لذلك لابد من تقديم هذا للقارئ العام في مصر، حتي أدخل النوبة في نسيج المواطنة المصرية، هذا هو دوري، فإذا كان فوكنر ابتكر ولاية أمريكية من الخيال لكي ينشئ إبداعاته المختلفة، فأنا أتحدث عن النوبة، الموجودة لكن مندثرة في أعماق البحيرة، أحاول أن أبعثها وأحييها لكي تعيش، سواء كان في ذاكرتي أو في ذاكرة من يتلقون أعمالي، أو النوبيين أنفسهم الذين يستعيدون ذكرياتهم بهذا العمل أو ذاك ويلتصقون بتاريخهم ويعيشونه ويتمتعون به، لأن تلك هي أصولهم وجذورهم وتاريخهم العميق، فإذا كانت المرحلة الفرعونية انتهت تاريخا وأشخاصا، فالنوبي مازال يعيش ويحقق وجوده داخل وطنه الكبير".
ومع ذلك، ورغم أن كل كتاباته عن النوبة، إلا أنه لا يطلق علي أعماله لقب رواية أو مجموعة قصصية نوبية، وإنما يذيلها بمقولة كتابات من النوبة، قاصدا ذلك وعن عمد: "ليس هناك أدب نوبي أو مسرحية نوبية أو مجموعة قصصية نوبية بالمعني المتعارف عليه، أنا أشير إلي أن العمل ينتمي إلي النوبة التي أبدع وأكتب بها، فكتاباتي عربية مصرية، وتصنيفها كأدب نوبي يصنع نوعا من الفرقة داخل الوطن، وذلك شيء خطير لابد من الوعي له".
صدر له مؤخرا عن الكتب خان رواية "جدُكاب"، يتناول فيها قصة محمد سليمان جدُكاب، اليتيم ذي ال11 عاما، الذي قدم إلي القاهرة كأي نوبي، عاريا من أي إمكانيات، ليتعلم اللغة العربية الفصحي، يواجه ظروفا قاسية، لكنه يعيش ويستطيع أن يخترق الوجود ويبني نفسه في مجتمع غريب عنه ومدينة غاية في التعقيد والاختلاف عما نشأ فيه، الذي اكتشف أن أصله يمتد لعائلة "كوش" التي حكمت مصر سابقا، فتسلل اسمه من خلال ذلك العرق القديم، حيث إن هذا الاسم لا يوجد في النوبة كلها شمالا أو جنوبا، سواء بقريته أو القري المجاورة، هو شخصية من أرض الواقع، مثل بقية الشخصيات في الرواية، أذهل مختار وأثار قلمه ليكتب عنه وهو في عامه ال91 الآن، وهو ما اعتبره جدكاب جزاء طيبا، ربما يستحقه آخرون غيره، ويقول عنه مختار: "علاقتي وثيقة جدا بجدُكاب، كان رئيس جمعية التراث النوبي، من خلال تلك الصداقة عرفت طبقات تركيبته، فهو شخصية مبهرة، نشط جدا، يعرف اليونانية كأهلها، إلي درجة أن اليونانيين عندما يحادثونه يظنونه منهم، أتقن الفرنسية كأحد أبنائها رغم أنه لم يذهب إلي باريس مطلقا، أتقن الإنجليزية أيضا، إلي جانب إتقانه للعربية والنوبية، فقد امتلك خمس لغات، انتقل من فراش ينظف الأرض إلي مراقب حسابات في بنك مصر، هو تركيبة لابد أن تُكتَب، كما أنه نموذج للشخصية النوبية التي تسنح لها الفرصة، فتناضل لكي تعيش، بالإضافة إلي قرب التجربة بيني وبينه، صباي وصباه، معرفتي ومعرفته، غربتي وغربته، هذا الالتقاء الذي حدث بيننا هو ما جعلني أتمكن من كتابة جوانية جدُكاب".
ومثل "جدُكاب" كانت "مرافئ الروح"، التي فرضت نفسها عليه، فقد انبثقت من شخصية عاشت معهم، هي الشيخ سلامة، أحد بقايا نظام العبودية وقتما كانوا يجلبون من جنوب السودان لمصر مرورا ببلاد النوبة، ممن بقوا في النوبة وأقاموا فيها، ضريرا ولكنه يتقن العزف علي المزمار والمديح: "كان عبدا لجد من أجدادي، بقي معنا وعشت معه طفولتي، ولكن ليس كعبد، لقد كنت أناديه ب"عمي"، كان يأتي إلينا في القاهرة لزيارتنا إلي أن توفي قبل عمليات التهجير ودُفن في القرية، رغم أنه ضرير، لكنه كان يعرف البيوت النوبية ويأتي وحده وكأنه مبصرا، يعرف النخيل من بعضها، كانت لديه بصيرة مبهرة، لدرجة استفزتني لكتابة هذا العمل، رغم أنه جاء بالرواية كشخصية ثانوية في بدايتها ولكنه خلق قصة مليئة بالأحداث".
جدُكاب رواية حقيقية بجميع شخصياتها، معظمهم موجودون إلا من توفي منهم كحسن شفا ومحمود الشوربجي ومحيي الدين شريف، أدخل مختار خياله فقط لصياغة الأحداث ومزجها، المتابع لأعماله يجدها مختلفة عن كتاباته السابقة، فالأسلوب أكثر سلاسة والكلمات واضحة ولا يصعب فهمها: "بساطة هذه الشخصية هي من فرضت علي بساطة الأسلوب والسرد، كما أن بعض النقاد أخبروني - وخاصة في المجموعة الأولي -، عندما كنت أضع هامشا وأكتب تحته معاني الكلمات النوبية، أن هذا الأمر يعوق الاندماج مع الرواية واستمرار القارئ معها، فبدأت أضعها بين قوسين أو أستعين بكلمة عربية مرادفة تفسر النوبية أو شرحها بحيث تفهم من السياق، فأنا أعمل بروحين، روح نوبي والأخري هو روح اللغة العربية التي لابد أن أكتب بها، إن لم أكن نوبيا عند الكتابة لن أستطيع التقاط الشعيرات الطفيفة جدا من الأحاسيس والمشاعر والرؤية، فأحيانا اشتم رائحة ما أكتب".
لم تكن اللغة بالنسبة لمختار بالأمر الهين، ففي وقت ما عندما قدم صغيرا للقاهرة كان أحد أهم أسباب شعوره بالغربة هو عدم معرفته باللغة العربية، إلي جانب اختلاف مفردات الحياة بين القرية والمدينة، ولكن سرعان ما سقطت تلك الغربة واندمج داخل وطنه وأدرك أنه جزء منه، وأنه مواطن مصري ينتمي للنوبة: "من سبقونا بالهجرة امتصوا غربتنا وجعلونا نندمج معهم، وبالرغم من أن المواطن المصري إن انتقل من حارة إلي حارة يقسم بغربته، فالنوبي لا يقول ذلك أبدا".
ربما لا يشعر بصعوبة أمر اللغة من لم يعان منه، لكنه بالنسبة للنوبة أمر معقد، فاللغة النوبية أصولها هيروغليفية وديموطيقية، انحدرت أثناء في الحقبة الفرعونية، ثم بعد ذلك جاء الفتح الروماني لمصر، فاحتلوا جزءأ من النوبة، وبدأت تدخل اللغة والأحرف اليونانية القديمة، وبالتالي بدأ النوبيين في كتابة لغتهم بتلك الحروف اليونانية، ثم أتت المسيحية وبالتالي أصبحت هناك ممالك مسيحية نوبية ودخل فيها ما يسمي بالخط القبطي، فتحولت النوبية من لغة كتابية إلي لغة شفهية، عندما دخل الإسلام للنوبة بعد 650 عاما من دخوله لمصر، أصبح هناك ثنائية لغوية، ما بين النوبية والعربية، من خلال بعث شيوخ للقري النوبية لتعليمهم القرآن والعبادة: "استمر ذلك حتي التهجير، بعدها أصبحت اللغة السائدة هي العربية، لم يحتفظ بالنوبية سوي القدامي مثلي، بينما من ولدوا وترعرعوا في المهجر الجديد أو هنا بالمحافظات لا يتقنون اللغة النوبية ولا يعرفونها، لأن المرأة النوبية هي من كانت تحفظ اللغة والتراث وجميع القيم المجتمعية، فالزوج يترك زوجته وأولاده ويسافر ويبعث لهم بالنقود، والمرأة النوبية كانت هي عماد البيت، تقوم بالزراعة وتربية الماشية وتربية الأولاد، إلا أنه عندما أتت تلك المرأة إلي القاهرة فقدت هي أيضا اللغة بالتبعية فلم تستطع تعليمها، وأصبحت عادات الجيل الجديد مدنية، فهناك شباب نوبيون ولدوا في القاهرة وليس في النوبة، فاقدين للغة والتقاليد والأعراف والثقافة النوبية، مرتبطين بالأغاني والأفراح النوبية فقط لا غير، لأن الأرض هي التي تمثل الهوية للإنسان وارتباطه بها يجعله يرتبط باللغة، لذلك العربية هي السائدة بينهم".
بدأ شغفه بالكتب في المرحلة الابتدائية، بعدما قام أستاذ اللغة العربية "عبد الباسط بركات" في مدرسة المعادي حينها، بتحويل دفتر التحضير الخاص به إلي كتاب أسماه "التعبير الحديث" ووزعه علي طلابه لقراءته: "اندهشت من ذلك وتملكتني رغبة بأن يكون لي كتاب مثله، فاشتريت كراسة ورسومات ملونة، ألصقتها ووصفت ما فيها، وكتبت عليها تأليف يحيي مختار، هذا ما أنبت بداخلي الشعور بضرورة أن يكون لي ما يخصني تأليفا".
كما كان لروايات الجيب وأجاثا كريستي أثرها الواضح أيضا، فقد أذهلته وبدأ يقرأ منها بنهم شديد، إلي أن عرف طريقه لسور الأزبكية بتنوعه العميق والمختلف، ثم بدأ يتنوع في قراءاته ما بين روايات مترجمة من الغرب وما تعرضه دار الكتب في باب الخلق، لم تتكون لديه حينها فكرة الكتابة ولكنه اختزنها بداخله، حتي تم اعتقاله لأسباب سياسية في الجامعة ودخل السجن وهو بالليسانس: "لم أكن ملحدا مثلما يطلقون علي الشيوعيين، فأنا أنزع للصوفية والإيمان، ولكن إيماني بالفكر الماركسي اليساري هو إيمانا بالعدالة الاجتماعية للناس، لأن بيئتي كلها والنوبيين فقراء، عاريين من أي ثروات حقيقية، أناس لم يعرفوا سوي الزراعة، لذلك عندما جاءوا للعاصمة كان العمل المتاح لهم إما بوابا أو طباخا أو سفرجيا وهكذا، وهم أنفسهم من ربوا الأجيال التالية وأخرجوا الأطباء والمهندسين والعلماء، لأنهم أدركوا قيمة العلم، فجيل الآباء ضحي والأبناء حصدوا ثمار ذلك".
داخل السجن اختمرت لديه فكرة الكتابة، فقد كان معه كثير من كبار المثقفين حينها، مثل أسعد نديم وإبراهيم عبد الحليم وغيرهما، فعلم أن له خصوصية يجب أن يعبر عنها: "أثناء وجودي في السجن توفي والدي الذي كان يعمل طباخا مثل كثير من النوبيين، لذلك كان منوطا بي بعد خروجي أن انتهي من دراستي وأبحث عن عمل للاعتناء بوالدتي وإخوتي، فألحقني أستاذي أحمد حسين الصاوي بالعمل في أخبار اليوم، انشغلت في ذلك كله عن الجلوس لأكتب، وبالتالي تأخرت كتاباتي".
لكنه انتهي من مجموعة عروس النيل عام 1970، قبل نشرها بعشرين عاما، حيث سلم قصة "عروس النيل" للدكتور عبد القادر القط حينما كان رئيس تحرير مجلة "المجلة"، لكنه لم ينشرها رغم إعجابه بها، لأنها طويلة وتحتاج لمساحة كبيرة، فأحبط ولم يكتب غير أربع قصص وظلت في درج مكتبه، لم ينشر منها سوي عروس النيل في القسم الثقافي بمجلة الطليعة أثناء رئاسة لطفي الخولي، بواسطة أستاذته في قسم الصحافة لطيفة الزيات: "رغم أن علاقاتي في أخبار اليوم ومع الناشرين كان يمكنني من خلالها تقديم هذه المجموعة ولكنني لم أفعل ذلك، أشرفت بعد ذلك علي سلسلة كتاب اليوم عندما رأس تحريرها أمين محمد عدلي، من خلال علاقتي بالصديق جمال الغيطاني، الذي أصبح مشرفا في فترة من الفترات علي المطبوعات الثقافية في أخبار اليوم، طلب مني إحضار مجموعتي الموضوعة في درج المكتب منذ عشرين عاما، فنشرتها عام 1991 ونلت عنها جائزة الدولة التشجيعية عام 1992، وبمجرد نشرها، كتبت في العام ذاته رواية "تبدد" ومجموعة "ماء الحياة"، فربما إن كنت نشرت تلك المجموعة خلال العشرين عاما التي سبقتها لاختلف إنتاجي، سامح الله الدكتور عبد القادر القط".
ورغم أنه درس الصحافة ولكنه لم يكتب فيها، خاصة وأنه أتيحت له الفرصة مرتين لأن يتحول من عمله الفني في قطاع التوزيع إلي صحفي ولكنه رفض: "المرة الأولي عندما جاء خالد محيي الدين رئيسا لأخبار اليوم، وحضر معه مجموعة من اليساريين مثلي، فطلبوا مني العمل كمحرر، رفضت لأنني لن أكتب ما أريد كصحفي وإنما ما تريده السلطة، بعدها جاء محمود أمين العالم وتكرر الأمر ذاته، أخبرتهم أنني لا أريد سوي مرتبي وعملي من الثامنة صباحا وحتي الثانية والنصف لأعيش أنا وأخوتي، وبقية وقتي أوفره لقراءتي الخاصة".
لا تخلو كتابات مختار أبدا من الحديث عن التهجير سواء قسرا أو طواعية، والأشد ألما بالنسبة له هو التهجير النهائي للنوبيين عام 1964، حيث أن خزان أسوان تم بناؤه عام 1902، ثم التعلية الأولي له عام 1912، والتعلية الثانية عام 1933، حتي تم بناء السد العالي، وهجر أهالي النوبة أرضهم، فهذه العملية اقتلعت جميع القري النوبية "43 قرية" علي امتداد 350 كيلو مترا، بداية من جنوب أسوان وحتي أدندان علي الحدود مع السودان في وادي حلفا: "جميعهم هجروا تهجيرا كاملا، لم يعد هناك نوبي حول بحيرة ناصر منذ ذلك الحين، في التعليات الأولي لخزان أسوان كان هناك نوع من الهجرة العرضية، بالصعود إلي التلال لأن المياه كانت ترتفع وبالتالي تأكل جزء من الأرض الزراعية، ولأن النيل بخيل في هذه المنطقة، والشريط الزراعي ضيق جدا، لا يفي باحتياجات المواطنين ولا يغطي احتياجاتهم الأساسية والمادية، ولذلك كان طبيعيا أن يهاجروا للشمال، ولكن القري ظلت موجودة بأهلها، ليس كل من فيها يهاجرون، فمن يهاجر كان باحثا عن العمل، ليرسل نقود ومساعدات إلي الموجودين في قراهم ويعينهم علي مواجهة الحياة ومتطلباتها، ولكن التهجير الاقتلاعي الحقيقي هو السد العالي، لقد اقتلع جميع النوبيين وهجر الجميع إلي شمال أسوان في كوم اومبو أسماء القري القديمة التي كانت موجودة".
لم يكن هناك مفر من هذا التهجير، فلكي يظل النوبيون هناك، كان يحتاج ذلك لبنية أساسية لم تستطع الدولة حتي الآن أن تحققها، هناك مشروع بأن تعود بعض المناطق حول البحيرة لما كانت عليه، ولكنه مازال تحت الدراسة والبحث: "تهجيرهم كان حتميا، وهو شيء معتاد في كل الشعوب والمناطق حول الأنهار التي يتم فيها بناء السدود، فهو شيء طبيعي وخطوة في طريق التطور الاقتصادي والتنمية والحداثة بالنسبة لدولة كمصر، تحقيق الأمنيات بأن يصنعوا بنية أساسية بحيث يظل المواطنين هناك كان صعبا جدا في وقتها في الستينات، أولا بسبب الحصار الاقتصادي الذي يقوم به الاستعمار، وثانيا لأن السد العالي بُني بمعركة عندما رفض البنك الدولي تمويل السد، فلجأ عبد الناصر لتأميم قناة السويس، ثم كان العدوان الثلاثي عام 1956، ودخل المصريون جميعهم هذه المعركة، ومن بينهم النوبيون، في سبيل إكمال بناء السد، كخطوة بمسيرة التنمية المستدامة لمصر".
يمكن للبعض أن يجد تشابها بين تهجير النوبيين قديما وتهجير أهالي سيناء حديثا، ولكن مختار لا يري ذلك، لأن أهالي سيناء مهجرون من مكان لآخر لظروف أمنية، عندما تنتهي سيعودون تلقائيا إلي بيوتهم أو سيحل محلهم أناس آخرون كنوع من الاتساع، فالمكان لن يندثر: "وفي رأيي سيناء منذ 1956 كان لابد أن تملأ قري ومدنا، بدلا من التكدس حول الوادي، لكي يصعب اختراقها، لأنها مفتاح مصر من الشرق، فجميع الغزوات علي مصر جاءت من الشرق، الفرس والعرب وإسرائيل، هي نقطة الضعف في عبقرية الموقع الجغرافي المصري، لابد فيها من عملية تنمية وزراعة، كما أن بها معادن تساعد علي إنشاء صناعات هامة جدا، أنا ذهبت إلي سيناء وشرم الشيخ، هي بمفردها دولة، كيف تهمل هكذا؟".
يعود ذلك للمركزية التي تحدث عنها جمال حمدان، ولكن لا أحد ينتبه أو يقرأ، فاستراتيجية الدولة لا تستفيد بما يقدمه علماؤها ليحولوه إلي خطط خمسيه، فلا حياة لمن تنادي: "كيف نحول الأراضي الزراعية الخصبة منذ آلاف السنين بطمي النيل إلي عمارات وبيوت خرسانية، بلد زراعي علي النيل ونذهب للصحراء لاستصلاحها، نحن نعيش كوارث!".
التهجير يعتبره النوبيون حدثا كونيا، 350 كيلومترا و43 قرية أصبحوا في قاع البحيرة، تاريخ القبائل والأجداد والتراث يختفي من الوجود: "هذه عملية ليست سهلة، فالدنيا موجودة ولكن هذا المكان لم يعد موجودا، المدافن والبيوت أصبحت طميا، مرابط البهائم كما هي، فهذا التغير الكوني كان لابد أن يأخذ طابع تسجيلي وتوثيقي".
لذلك لجأ في رواية "جبال الكحل" لأسلوب المذكرات والسرد علي لسان بطلها أستاذ التاريخ، فالموضوع فرض عليه هذا الشكل، وكذلك حدث في جدكاب، فكلها تجارب حقيقية عاشها أو حكيت له، لأن علاقته بقريته لم تنقطع بسفره بعيدا عنها: "كنت أذهب إلي الجنينة والشباك في الإجازات المدرسية، رؤياي ووجداني الجديد الذي تربي وأصبح مزيجا بين الوجدان النوبي كطفل عشت به في صغري، وميلادي الجديد الذي تم في المدينة، فصنع سبيكة مختلفة، وبالتالي كانت رؤيتي عندما أذهب للنوبة أكثر وعيا وفهما لمفردات الحياة هناك، تختلف عن رؤيتي وأنا طفل، أما النوبة الحديثة الموجودة في كومبومبو فهي مختلفة تماما عن المواطن الأصلية للنوبيين، فالنوبي ابن النيل، علاقته وطيدة جدا بالنهر، عاداته وتقاليده وكل ما يخص حياته من فنون وأغاني وحكاوي، لذلك كثير من العادات والتقاليد التي كان يعيشها النوبيون سقطت بعد انتقالهم، ولأن الحراك السكاني يصنع حراكا اجتماعيا، فبالتالي النوبي فقد لغته وعاداته وتقاليده وكل ما ارتبط بنهر النيل من قيم".
ليس أسلوب السرد وحده الذي يفرضه الموضوع، وإنما أيضا القالب الفني، فهو يتحدد وفقا للتجربة: "هناك تجارب يمكن تناولها في شكل قصة، وأخري رواية، فمثلا رواية "مرافئ الروح" كانت قصة قصيرة في مجموعة "ماء الحياة" عام 1992 تحت عنوان "سرداب النور"، عندما أنهيتها شعرت أن تلك التجربة لم تستوعبها القصة القصيرة، بها زخم روائي جعلني اكتبها".
يري كثير من النقاد، من بينهم شكري عياد، علي الراعي، علاء الديب، صلاح فضل، يسري عبدالله، أن مختار يخاطب الإنسان بشكل عام وتجربته ومعاناته بشكل خاص، فليس صحيحا أنه يكرر نفسه بالحديث عن النوبة والتهجير: "من يتحدث هكذا لم يعش تجربة أن يفقد مسقط رأسه، ولم يعرف مدي التضحية التي قدمها النوبيون للوطن، فمفاعل الضبعة مثلا الذي أرادت الدولة أن تبنية في مطروح، أهلها حطموا أدواته وسرقوا المعدات، وحتي الآن لم تستطع الدولةبناءمفاعل نووي هناك، هذا هو الفارق بين النوبيين وغيرهم، فالنوبيون قدموا تاريخهم كله للوطن".
فالنوبي لديه نوع من التضامن والحميمية في علاقاته، يحرص علي الواجبات الاجتماعية مهما كانت الظروف، ويبدو من الغريب معرفة أن "الساقية النوبية" لها دور في هذا الربط الاجتماعي والأسري نادر الوجود في أي مجتمع: "تختلف الساقية النوبية عن الساقية في الريف المصري، ففي تروسها وأماكن معينة بها يضعون جلود وزيت معين، لعمل صوت شجي يطرب له العامل علي الساقية، يندمج مع زقزقات العصافير واليمام، تصنع سيمفونية في غاية الروعة والجمال، ولأنها مكلفة لا يستطيع أن يقوم بها فرد، تتآزر العائلات لبنائها، كما يتآزرون أيضا في عملية الري بالتناوب، ويتزاوجون لعدم تفتت الملكية، فهي تبعية تعاونية تلقائية عفوية، دارت حولها كثير من الدراسات".
ولكن ذلك كله انتهي، فلم يعد هناك بيت نوبي، حل محله الطوب الأحمر والبيوت الخرسانية: "كل بيت كان يبنيه الفرد وفق رؤيته وفنيته، معمار يمت إلي المعمار الفرعوني القديم، أخذ منه المهندس العالمي حسن فتحي البناء الحديث المشتق من واقع البيئة نفسها، الطين الني المأخوذ من الطمي، الأبوات وليس الأسقف، مداخل ومخارج الهواء بين الصيف والشتاء بحيث يكون دافء في الشتاء ونسيمه عليل في الصيف، تزيين النساء والفتيات له، الحوش السماوي، الذي يمثل علاقة بين الإنسان والسماء لا تنقطع، إضافة إلي أن النيل كان أول وآخر ما يراه النوبي في يومه".
لم يعد النوبي موجودا، حتي وإن كان تمثيلا: "السينما والتليفزيون لا يعبران عن النوبة، ينقص الأعمال الفنية أن يكتبها نوبي ويمثلها نوبيون، فحتي الآن لم يُقدَم شيئا عن النوبة، وعندما تظهر شخصيات نوبية في بعض الأعمال تكون ثانوية وتافهة للسخرية ليس أكثر، إما في صورة سفرجي أو سواق أو بواب ولا يتحدث العربية جيدا، لا يعرضون هذا الإنسان الحضاري المتقدم الذي يحمل بداخله واحدة من أعرق الحضارات".
يحيي مختار، لا تعنيه الترجمة ولا يسعي إليها، لأنه لا يريد أن يستمد وجوده أو قيمته من اعتراف الغرب أو عدم اعترافه به، فهو يخاطب أناسه ويعبر عنهم، مصريين ونوبيين: "أطمح إلي صنع جدارية كبيرة عن النوبة، لم تكتمل بعد، ولا يعنيني كثرة الكتابة والتدفق فيها بقدر ما يهمني أن أكتب عمل أتمتع به أولا وأشعر به، ربما بعد اكتمال الجدارية إن أتيحت لي الظروف والصحة والعمر، يمكنني تناول تجارب أخري غيرها عشتها في المدينة، ولكني لم استنفد التجارب النوبية في كتاباتي السبع حتي الآن".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.