الله يسامحك ياسامي! حتي بعد موتك تصر أن تكون أكثرنا حضورا بعدما كدنا نتعود علي غيابك . عندما أرتني تلك السيدة قسيمة زواجكما وقالت إنها حامل منك كدت أسألها: - هو كان لسه فيه حيل يخلف! و منعني حيائي ، تمنيت أن أنفذ إلي رحمها ،لأري ملامح الجنين الذي لابد انه يشبهك ، أصدق تماما زهد هذه المرأة التي قالت إنها ارتضت الزواج السري بك، حتي بعد موتك، لولا امتدادك الذي في بطنها. منذ موته نتجنب أن نأتي بسيرته، لئلا يمضي اليوم غما ونكدا، رأيت زكي يشير الي السيدة ناحيتي فانتظرتها ، كان كرسي سامي هو الوحيد الخالي قي الإدارة فسحبته وجلست أمامي. شعرت بنظرات السيدات وهي تخترقها ،كنت أعرف ما يدور في رؤوسهن ،خشيت أن تهب إحداهن وتسحب الكرسي من تحت السيدة. قالت: - حضرتك فاكرني؟ رأيت هذا الوجه من قبل ولا أتذكر المكان أو الزمان، سبقتني قائلة : - انا حنان الممرضة في مستشفي الحياة، اللي كان فيها المرحوم سامي تذكرتها علي الفور، فقد كانت المسئولة عنه ولم تكن تقريبا تغادر حجرته حتي خرج ، كانت رقيقة ورشيقة ،وفسرت عدم تذكري لها بملابسها السوداء التي ترتديها الآن،تذكرت أن جمالها لفت نظر أم هاني زوجة سامي فداعبته قائلة: رزقك في رجليك ياسمسم حتي في المستشفي ضحك قائلا: - خلاص ياام هاني، راحت علينا تدخلت نادية قائلة ماتصدقيهوش يام هاني، ديتها بس يشد حيله ويرجع يلعب بديله ردت زوجته في طيبة وحب. - بس هو يقوم بالسلامة ويلعب بديله زي ماهو عاوز. كان سامي العقاد حريصا علي أن يبدو مبهرا ، نادرا ماتنحرف كسرة بنطلونه عن مسارها، أو يكون الحذاء غير لامع، كان يحفظ ماركات صبغات الشعر وخواصها وأسعارها ،ولم يحدث أن فلتت منه شعرة بيضاء رغم بلوغه الخمسين ،لايمكن أن يدخل سيارته إلا بعد تنظيف الحذاء، ولا يسمح لأحد بالركوب معه بحذاء متسخ ،لايأتيه نوم إذا جرحت السيارة،يظل يتنقل طوال اليوم بين الصنايعية حتي تعود الي أصلها كان يأتي للوزارة في السابعة صباحا ليضمن نفس المكان يركنها فيه أمام الباب الرئيسي، تحت عين سليمان الغفير، الوحيد فينا الذي كتب اسمه علي ظهر كرسيه وعلي مسند الرأس ،كان يعاتبنا إذا سمحنا لأي زائر للإدارة أن يجلس عليه ، يظل حائرا يلف حوله حتي ينتبه الزائر ويعتذر تاركا الكرسي. كان مفتونا بالسادات، يراه نموذجا مكتملا للرجل بأناقته وذكائه ولؤم الفلاح المصري داعبته قائلا : أصله منوفي زيك فقال - ياريتني ربعه، لو في كل محافظة واحد زيه كنا سبقنا العالم. كان سامي أكثرنا قربا إلي زميلاتنا في الإدارة، يعرف تفاصيل حياتهن وتربطه علاقة قوية بأفراد أسرهن ، عندما التوت ساق مدام نادية كان يمر عليها صباحا قبل موعد خروجه المعتاد من البيت بساعة ليأخذها الي الإدارة، يسكن في الهرم وهي في البساتين، حتي لاتضطر لأخذ إجازة وتخصم منها الحوافز ، رافق الحاجة منصورة طوال فترة تجهيز رباب ابنتها لتشتري لوازم الزفاف. كان مابينه وبينهن يسمح أن يأخذ رأيهن في ملمس قمصان النوم وألوان الملابس الداخلية وكريمات إزالة الشعر ،التي يحرص علي اختيارها بنفسه لزوجته. كان سامي ينسي انه حكي لنا عن موت جده وأبيه وشقيقه الأكبر في نفس العمر، في العام الأول لبلوغهم الخمسين، وبنفس المرض الغامض- توقف مفاجئ للقلب- فقد مات جده ساجدا يصلي الفجر ومات أبوه مدرس الابتدائي وهو يشرح في الفصل، ومات شقيقه الأكبر طبيب أمراض النساء في غرفة العمليات وهو يجري عملية ولادة ، كان يقول إن سلالته قلبها عمره الافتراضي خمسون سنة، عندما أحس بنغزة في قلبه لم يهتم لأنه يعرف أن طريقة موتهم لايسبقها ألم، اشتد عليه الوجع فنقلته زوجته الي المستشفي ،أدخلوه العناية المركزة ثم عملية قلب مفتوح ،ظننا أنها النهاية لكن الأطباء أخبرونا أن الخطر زال. فاجأني بالسؤال. - حد بيقعد علي الكرسي بتاعي؟ ردت أم هاني زوجته. - ياراجل خليك في صحتك ،كرسي أيه! قالت نادية. - ماحدش يجرؤ يقعد علي كرسيك واحنا موجودين ظهر رقمه علي شاشة تليفوني فانزعجت، وأسرعت بالرد عليه. - خير ياسامي ! قال غاضبا: - انا نازل الشغل بكرة - انت مجنون! قلبك مايستحملش - الأستاذ مصطفي عشرة العمر بان علي حقيقته ، نسي الزمالة ودخل للوا مرتضي رئيس القطاع وقال له اني خلاص مش هاقدر اشتغل، وطلب تغيير تصريح المطار باسمه ،عاوز يحل محلي ويتقرب للقيادات ويوصل الوزير ويستقبله ، أنا لسه ما متش في الصباح وجدت سيارته مركونة في مكانها الذي غابت عنه أياما قليلة، علمت من أم هاني عندما عاتبتها أنه رفض توسلات أسرته ونزع الخراطيم الموصلة بجسده وخلع ملابس المستشفي ولم يستشر أي طبيب. اعتدنا وجوده بيننا وكأن شيئا لم يحدث ،عاد لقفشاته الخارجة التي لم تعد تخدش حياء السيدات، بل أصبحن يضحكن لها، كلما سأله أحد عن صحته يقول حديد وكل حاجة حديد. فجأة مات سامي العقاد ،كان بيننا فرحانا بنجاح هاني في الإعدادية، وكانت نادية تزغرد فأتي الكثيرون من الإدارات الأخري يهنئونه ، أمر زكي الساعي أن يأتي بصناديق بيبسي ويوزعها علي المهنئين، مالت رأسه علي المكتب، اجتمعنا حوله نادينا عليه لم يرد، كان قلبه قد توقف، فعلا صراخ السيدات. عيني التي اعتادت علي النظر الي مكان سيارته قبل موته لأتأكد من وصوله ،أصبحت تري كل يوم سيارة أخري تقف مكانها، تحت عين سليمان الغفير، أجلس علي مكتبي فأري كرسيه خاليا، واسمه مكتوبا علي مسند الكرسي بخطه الجميل فأترحم عليه. أخذت المرأة وخرجنا من الإدارة، لم أجد مكانا ائتمنه علي مافي الورقة إلا طرقات المبني ،سألتها ونحن نتجول. - إزاي وإمتي؟ قالت: التفاصيل مش مهمة هو كان بيحبك. طلبت منها أن تتركني أفكر في الأمر بما لايظلم القادم ولا يهدم القائم، لاأعرف الآن كيف أواجه كل هذه العيون والآذان المسنونة! كيف أنقل ماعرفته ، اقتربت مني صباح، بعد ان أعادت الكرسي إلي مكانه، قالت غاضبة. - ازاي تسمح لها تقعد علي الكرسي! قبلت رأسها وسحبت حقيبتي وخرجت.