دموع تتناثر فوق خدود ملساء، حريرية الملمس، تحفر خندقا في صفحات الوجه الوردي، لتتكسر فوق شفاه كرمزية اللون تشهق بأنين مكتوم: " أبي عد سريعا مظفراً ". ويعود الدمع ليحفر خندقا آخر في وجه الطفلة العبوس، وخندقا آخر، وآخر وآخر. كانت عبراتها قاسية علي خدها الوردي الملمس وعيناها من الدمع- لا تكاد تري ذاك الرجل الوسيم، المتجمد في بروازها الوردي، النابض بالحياة فوق رمال صفراء، المتوهج تحت سماء صافية لا يكاد السحاب يجرح صفحتها الملساء. كان الأب ثلاثيني العقد وابنته لم تتجاوز السنوات العشر. كان الأب حاملا من الصعاب ما تنوء به الجبال بعد استشهاد الأم والابن البكر، في احدي غارات الخسة علي أطفال أبرياء في مدرستهم. كان الأب جنديا نظاميا، وصل في سلم العسكرية إلي درجة وظيفة حسد عليها من أقرانه. كان الأب أباً، ومحارباً، وقائداً، وكان إنساناً. كم جلس طويلا يتحدث لابنته النابضة حياة في بروازها الذهبي الصغير، وهو علي خط النار. كم جلس طويلا يحكي ويتسامر وجنوده يحسبونه قد مس من الشيطان. كم كان طويلا يتباهي بفتاته في البرواز الذهبي الصغير، يلاعبها، يسامرها حتي خيل للقاصي والداني من أفراد كتيبته أن القائد قد فقد ما تبقي من عقله في ظلمات اللامعني السوداء. لم يفهم حديث الأب إلا فتاته التي تراه أبا وأما، فهي لم تعرف لها أما عرفت جدتها دوما ولكن لا تعرف للأم إلا بروازا فضيا، تعلوه شريطة سوداء تجمد فوق الحائط البارد في ردهة منزلها، وبروازا آخر فوق الحائط الأبرد لغرفتها تحمل طفلاً، أختفي وتجمد في البرواز الفضي معها. كان الأب القائد أبا وأما وصديقا. كم جلست تتسامر معه ليلا ممسكة بروازه الوردي، كم سمعت ضحكاته، كم ارتجف القلب طويلا، وارتفع الصدر شهيقا وزفيرا حال هجوم الأب في سرية علي أصحاب الخسة،أوصده لهجوم جارف.كان الأب يحدث ابنته وكانت الابنة تحدث أباها ولا يشعر أو يصدق في هذا الحديث سواهما. وتمر الساعات ثقيلة علي رمال كانت صفراء بعد أن اكتست بلون أحمر رسمه شهداء فوق الصفحات الملساء بعد صراع دام مع أصحاب الخسة. كان الأب يتواري خلف ستائر الرمل أحيانا ليلتقط الأنفاس ويحدث بروازه الصغير لثواني معدودة ملقيا تحية الصباح لمحبوبته تارة وتحية المساء تارة وفي كلا الأمرين كان يتواري ليتزود بوقود الصبر والشجاعة والأمل من تلك العيون السمراء البريئة. ومن حسن طالعه انه كان يشعر بأن بروازه الصغير يرد عليه التحية صباحا ومساء ويذكره دوما ان فتاته في الانتظار ولن تقبل بغير النصر هدية لروح الأم والأخ المستشهدين علي أبواب المدرسة منذ سنوات ثلاث. كان الحديث شيقا دون أن تنبث الشفاه بحرف كان مؤنسنا لتلاقي أرواح المحبين عبر أثير الخيال وكان الأب القائد قديرا في هجومه ودفاعه وكانت الابنة شجاعة في حبها ووعيها كم نهرتها الجدة كثيرا علي سهرها وكانت الابنة ترد بثبات:" إني أسامر أبي ".وتتعجب الجدة من شجاعة الابنة وهوسها بحب الأب القائد وكان الجنود يستحثون القائد دوما ان يستريح ولو دقائق وكان يرد بثبات:إني أسامر طفلتي " وكانت الليلة ليلاء وكانت السماء جرداء بعد أن هجرها القمر. وأصحاب الخسة كانوا كعادتهم ينتظرون غفلة القائد وجنوده. وكان لهم ما كان- لحظيا- إذ إبان تزود القائد من رحيق الذكري ومدد الاشتياق أنزل عليه مطرا من الرصاص أصاب من أصاب ونجا منهم من نجا عندها شعر الأب القائد بصرخة من برواز الطفلة وكأنها تنادي"حذار" استفاق القائد من غفوته وصرخ في جنوده كزئير الأسد: "إرفع الحالة " عندها استفاق الجميع واحتل مواقع الدفاع وكان الرد قاسيا وهرول أصحاب الخسة إلي مواقعهم الحصينة وظل القائد وجنوده في رباط وثبات يقاومون. ولان أصحاب الخسة لا يستطيعون القتال الا من وراء جدار فقد آثروا الهرب بالرغم من تفوقهم عدة وعتادا. عاد الوقت صباحا والقائد يداوي جرحاه من الجنود ويتجاهل جراحه، إذ أنها مهما عظمت لن تتساوي أبدا مع الجرح الدامي في قلبه بفقد الحبيبة والابن، واشتياقه للطفلة الجميلة وإن تصبر دوما ببروازها الذهبي، الذي يضعه دوما في اقرب مكان لقلب لتعطيه المؤن وتعطيه الأمل. تمر الأيام بطيئة في انتظار النصر، ويجيء يوم الذكري الثالثة لفقدان الأحبة داخل أسوار المدرسة ويتصادف أنه يوم أجازته الشهرية. هرول الأب سريعا لاقتناص الثماني والأربعين ساعة مدة أجازته. فتح أبواب الشقة وكان اللقاء وتعلقت في أحضانه المحبوبة الصغري:" أبي اشتقت إليك ". لم ينطق بكلمة خشية أن ترمش عيناه فيفقد متعة رؤية صغيرته ولو ثواني، فهي الابنة والمحبوبة وآخر ما تبقي له من أمل في الحياة. كان معها يشعر وكأن للحياة هدفا وفي خضم ارتشافه لحلاوة صوتها بادرته: "أبي اليوم تعلمنا كلمة وطن وأدركت أنك تبحث عنه بعيدا فهل وجدته؟!!! ". خجل الرجل وطأطأ رأسه وتجمد الكلام علي شفتيه فبادرته الصغيرة: "أعلم أنك تبذل قصاري جهدك فلتعطني عهداً ووعداً ". ازداد خجل الرجل وتجمدت الدماء في عروقه من قدرة الطفلة وشجاعتها وسعة أفقها، ولم يدر كيف يرد عليها. وتجمدت عيناه في مقلتيه فلم ترمش. لمعت عبرات متجمدة فوق العين ولم تنزل. والطفلة لم تتوان أو حتي تتردد في أخذ العهد من الأب قائلة: " أبي دعني أتلقي منك العهد... أن تخلص لي الود، ألا تتركني أبدا أمشي وحدي أو أحلم وحدي فلتقسم أن ترجع لي وطني ". أومأ الرجل برأسه موافقا. وأنهي أجازته القصيرة مع فتاته وقبلها واتجه صوب خط النار. كانت كلمات الطفلة ترن في أذنيه، وعهدها وميثاقها لا يفارق عقله مستيقظا أو نائما. وتلاشت كل الكلمات من فوق البرواز الذهبي الصغير وكان كلما طالع بروازها الذهبي ملقيا التحية صباحا أو مساء يسمعها تقول: " أبي دعني أتلقي منك العهد... أن تخلص لي الود، ألا تتركني أبدا أمشي وحدي أو أحلم وحدي فلتقسم أن ترجع لي وطني ". فجأة أرتفع النفير وحان الوقت وصدرت أوامر عليا ببدء الهجوم علي طول خط النار بجميع الفرق والسرايا. عندها جمع الأب القائد جنوده وصرخ فيهم بحنان: "أن اللحظة قد حانت للثأر فمن مات له شهيد علي يد أصحاب الخسة فهذا يوم الثأر منهم ومن سرقت منه أرض أو أسر له صديق فهذا يوم الثأر ". وكان الجنود كالمغاوير وهتفوا هتافا رج رمال الصحراء وكأنه زلزال قادم صرخوا جميعاً: " الله أكبر". تسلق الأب القائد خط بارليف وكأنه يعرفه منذ أزمان. وكأن الرمال تقذف به لأعلي ولم تكن تتردد في أذنه أصوات القنابل والمدافع بل صوت طفلته. صعد الأب حاملاً مدفعا ثقيلا، وسلما متحركا لأعلي خط بارليف. وكان كلما يأخذ منه التعب نصيبا تهمس في أذنه كلمات فتاته بنت السنوات العشر:" أبي دعني أتلقي منك العهد... أن تخلص لي الود، ألا تتركني أبدا أمشي وحدي أو أحلم وحدي فلتقسم أن ترجع لي وطني ". وعندما وصل لقمة الساتر الرملي وضع المدفع جانبا، ووضع السلم لأقرانه. وبدأ في صيد أصحاب الخسة وكأنهم جراد منهمر حتي أن طلقات رصاصه كانت من العنف ما فجر به جنديين أو ثلاثة وكان اللقاء. وقف الأب مزهوا ورأي في أصحاب الخسة رعبا فاق رعب الفأر وذعره. وكان للأب وقود لا يتواني في أخذه حال شعوره بالوهن أو الإرهاق. كان يمسك بروازه الذهبي الصغير من فوق القلب ويرشف أريج الشجاعة والحب ويشنف آذانه بصوت المحبوبة: " أبي دعني أتلقي منك العهد... أن تخلص لي الود، ألا تتركني أبدا أمشي وحدي أو أحلم وحدي فلتقسم أن ترجع لي وطني ". وكان اللقاء هرب أصحاب الخسة كالفئران أمام الأب القائد وجنوده وكان الأب كلما نضف الرجس من بقعة من الأرض يرفع عليها علم العزة والكرامة. حتي كان اللقاء شعر الأب القائد بكلمات فتاته بنت السنوات العشر:" أبي دعني أتلقي منك العهد... أن تخلص لي الود، ألا تتركني أبدا أمشي وحدي أو أحلم وحدي فلتقسم أن ترجع لي وطني ". دهش إذ أن المعركة قد انتهت وأن النصر أصبح لهم صاحبا فأصغي السمع فلم يجد إلا نفس الصوت من بروازه الذهبي القابع فوق القلب. أعمل العقل فأيقن أن هروب أصحاب الخسة أصبح غير مبرر إذ أنهم حتي لم يقاوموا أو حتي يطلقوا رصاصة واحدة. أرجع البصر، ثم أرجع البصر ثانية فإذا بأصحاب الخسة ينشرون تشكيلاتهم بلصوصية خلف خط النار وخلف جنودنا الأطهار ليبيدوهم خلسة من وراء الجدار. وكان ما كان في خضم الاحتفال بالانتصار جاءت رصاصات الغدر في ظهور الجند فهرول الجميع، وأصيب من الجند من أصيب وجزع منهم من جزع ولكن الأب القائد قرر أن يعدل في تمركزات الجند وتشكيلاتهم وأطلق كلمة السر بعنف وحنين وكانت ترياقا للجنود هتف صارخا: "الله أكبر". وفي أقل من دقيقة اتخذ الجند وضع الاستعداد الدفاعي. وكون الاب القائد سرية من عشر جنود واتجهوا غربا عكس دفاع الجند واشتد وطيس المعركة. وانقلب السحر علي الساحر وبدلا من أن يحاصر أصحاب الخسة الجند المصري حاصر الجند المصري أصحاب الخسة. وأبيد منهم من أبيد وأسر قائد كتيبتهم ورحل إلي السجن الحربي بالعاصمة وهمس البرواز: "أبي اشتقت إليك عد سريعاً". عاد القائد إلي بيته مهرولاً بعد شهر من إعلان الانتصار وفتح أبواب بيته وكان اللقاء وجد الصغيرة مستبشرة: "هل أعدت الوطن يا أبي؟ " فأجابها بحب: "أجل يا قلبي، وأتركه لك أمانة ".