وثيقة لتجديد الخطاب الديني.. تفاصيل اجتماع السيسي مع مدبولي والأزهري    طريقة عمل التورتة بمكونات بسيطة في البيت    توجيهات بترشيد استهلاك الكهرباء والمياه داخل المنشآت التابعة ل الأوقاف في شمال سيناء    «الأعلى للإعلام» يُلزم 3 مواقع بسداد غرامات مالية بسبب مخالفة «الضوابط والمعايير والأكواد»    لأول مرة في تاريخها.. الشبكة الكهربائية الموحدة تسجل أعلى حمل في مصر بقدرة 39،400 ميجاوات    محافظ أسوان يكرم الحاجة فاطمة قاهرة الأمية تقديراً لإصرارها لتعلم القراءة والكتابة    رئيس نقل النواب: كلمة السيسي رسالة قوية للمجتمع الدولي وتحذير من استمرار الكارثة في غزة    موسكو تبدأ رحلات مباشرة إلى كوريا الشمالية وسط تراجع الخيارات أمام السياح الروس    موعد إعلان النصر السعودي عن صفقة جواو فيليكس    مران خفيف للاعبي المصري غير المشاركين أمام الترجي.. وتأهيل واستشفاء للمجموعة الأساسية    عمار محمد يتوج بذهبية الكونغ فو فى دورة الألعاب الأفريقية للمدارس بالجزائر    اندلاع حريق فى أحد المطاعم بمنطقة المنتزه شرق الإسكندرية    خريطة معامل تنسيق المرحلة الأولى الإلكتروني بالجامعات 2025    كمال حسنين: كلمة الرئيس السيسى كانت "كشف حقائق" ومصر أكبر داعم لفلسطين    السيسي يوجه بتعزيز قدرات الأئمة وتأهيل كوادر متميزة قادرة على مواجهة التحديات    الغرف التجارية: تطوير قطاع العزل والنسيج خطوة نحو استعادة مكانة مصر الرائدة    ضائقة نفسية وراء وفاة صغير بالأقصر معلقا من رقبته فى حبل    تجديد حبس متهم بقتل سيدة وسرقة 5700 جنيه من منزلها بالشرقية بسبب "المراهنات"    بدء تنفيذ عمليات إسقاط جوي للمساعدات على مناطق في جنوب وشمال قطاع غزة    بعد تخطيها 2 مليون مشاهدة.. شمس الكويتية تكشف كواليس أغنيتها الجديدة "طز"    ضعف المياه بشرق وغرب بسوهاج غدا لأعمال الاحلال والتجديد بالمحطة السطحية    التحقيق في وفاة فتاة خلال عملية جراحية داخل مستشفى خاص    فريق جراحة الأورام بالسنبلاوين ينجح فى استئصال كيس ضخم من حوض مريضة    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم فردوس عبد الحميد بدورته ال 41    لمواجهة الكثافة الطلابية.. فصل تعليمي مبتكر لرياض الأطفال بالمنوفية (صور)    تفاصيل حسابات التوفير من بنك القاهرة.. مزايا تأمينية وعوائد مجزية بالجنيه والدولار    السيسي: قطاع غزة يحتاج من 600 إلى 700 شاحنة مساعدات في الإيام العادية    حملات الدائري الإقليمي تضبط 18 سائقا متعاطيا للمخدرات و1000 مخالفة مرورية    ينطلق غدا.. تفاصيل الملتقى 22 لشباب المحافظات الحدودية ضمن مشروع "أهل مصر"    وزير الأوقاف: وثِّقوا علاقتكم بأهل الصدق فى المعاملة مع الله    الفنان محمد رياض يودع السودانيين فى محطة مصر قبل عودتهم للسودان    ديمقراطية العصابة..انتخابات مجلس شيوخ السيسي المقاعد موزعة قبل التصويت وأحزاب المعارضة تشارك فى التمثيلية    البربون ب320 جنيهًا والقاروص ب450.. أسعار الأسماك والمأكولات البحرية اليوم في مطروح    وزير الصحة: مصر الأولى عالميا في الحصول على التصنيف الذهبي بالقضاء على فيروس سي    على خلفية وقف راغب علامة.. حفظ شكوى "المهن الموسيقية" ضد 4 إعلاميين    الشرطة التايلاندية: 4 قتلى في إطلاق نار عشوائي بالعاصمة بانكوك    السّم في العسل.. أمين الفتوى يحذر من "تطبيقات المواعدة" ولو بهدف الحصول على زواج    حكم استمرار الورثة في دفع ثمن شقة بالتقسيط بعد وفاة صاحبها.. المفتي يوضح    كريم رمزي: فيريرا استقر على هذا الثلاثي في تشكيل الزمالك بالموسم الجديد    الإسكان تُعلن تفاصيل مشروعات محافظة بورسعيد    إجلاء أكثر من 3500 شخص مع اقتراب حرائق الغابات من رابع أكبر مدن تركيا    بأحدث الإصدارات وبأسعار مخفضة.. قصور الثقافة تشارك في معرض الإسكندرية العاشر للكتاب    «الصحة» تحذر من الإجهاد الحراري وضربات الشمس وتوجه نصائح وقائية    شوبير يدافع عن طلب بيراميدز بتعديل موعد مباراته أمام وادي دجلة في الدوري    هل ستفشل صفقة بيع كوكا لاعب الأهلي لنادي قاسم باشا التركي بسبب 400 ألف دولار ؟ اعرف التفاصيل    كل عبوة مساعدات مجهزة لتلبية احتياجات الأسرة في غزة لمدة 10 أيام    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    أمين الفتوى: الصلاة بالبنطلون أو "الفانلة الداخلية" صحيحة بشرط ستر العورة    منطقة الإسماعيلية الأزهرية تعلن أسماء أوائل الشهادة الثانوية    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    وكيل الأمم المتحدة: الأزمة الإنسانية في غزة مدمرة    المجلس الوزاري الأمني للحكومة الألمانية ينعقد اليوم لبحث التطورات المتعلقة بإسرائيل    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    «تغير المناخ» بالزراعة يزف بشرى سارة بشأن موعد انكسار القبة الحرارية    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    هدى المفتي تحسم الجدل وترد على أنباء ارتباطها ب أحمد مالك    الكرتي يترك معسكر بيراميدز ويعود للمغرب    ثروت سويلم: ضوابط صارمة لتجنب الهتافات المسيئة أو كسر الكراسي في الإستادات (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ابنة سوسلوف: فصام اليمن روائياً!
نشر في أخبار الأدب يوم 21 - 03 - 2015

لخص أحد قراء رواية (ابنة سوسلوف) لحبيب سروري, الصادرة عن دار الساقي والتي وصلت إلي القائمة الطويلة للبوكر 2015)), بعبارة قال فيها: "جنسية مع بعض المعني, بعكس الأدب العالمي معني مع بعض الجنس". هذه العبارة حصيلة قراءة المرئي، أو السطور التي تكمن أبجديتها في أن ما بين سطورها أهم من المرئي فيها. واللامرئي هنا: نسق ثقافي لا واعٍ أو مضمر بطبيعته، ويتطلب جهداً تحليلياً للكشف عنه. هذا فيما يتعلق بالبعد الجنسي الرمزي في الرواية التي لها أبعاد أخري تقريرية، منها تناولها بالنقد اللاذع الأوضاع السياسية والدينية والاجتماعية ورموزها في اليمن الجنوبي والشمالي وفي ظل الوحدة.
المرئي في الرواية: حكاية تجمع بين عمران وفاتن، مراهقين عدنيين تجمعهما علاقة حب بريئة. يفرقهما سفر عمران إلي باريس وهروب فاتن إلي صنعاء واتخاذها اسم أمة الرحمن، وهوية أخري سلفية. يلتقيان بعد سنوات في صنعاء، لكن علي نحو جسدي وفي ظل تكتم شديد فرضته ظروف زواجها من الشيخ عمر ابن الإمام محمد الهمداني الذي تجمعه بها علاقة محرمة. وفي ظل مستنقع الحياة المتناقضة، التي تعيشها أمة الرحمن، يحاول عمران انقاذها لكي يعيدها إلي صورتها الأولي البريئة؛ قبل أن تهربها ابنة الهمداني إلي صنعاء. وضمن هذه الحكاية ترصد الرواية مظاهر الرجعية التي طرأت علي عدن بعد استباحتها من قبل قبائل الشمال وسلفييه، والانتكاسة التي حلَّت بالشخصيات بعد حرب 1986 وحرب 1994.
أما اللامرئي في الحكاية فيمكن تلخيصه في بعد رمزي يري في شخصية ابنة سوسلوف (=فاتن)، وهروبها إلي صنعاء، رمزاً لعدن ومدنيتها التي ساهمت حرب 1986، والمد السلفي، ثم حرب 1994في تحويلها إلي السلفية (= أمة الرحمن). فيما تُجسِّد شخصية عمران دورين متناقضين تجاه أمة الرحمن، هما الحب والكراهية. فمن خلال محاولته انقاذ أمة الرحمن من براثن السلفية والرجعية، يُعدُّ رمزاً لابن عدن الحالم باستعادة مدينة صباه ومدنيتهاالفاتنة، هذا من جهة. ومن جهة أخري، يحمل سفر عمران من جنوب اليمن إلي شماله، وعلاقته الجنسية مع أمة الرحمن، صورة للانتقام شبيهة بهجرة مصطفي سعيد - بطل الطيب صالح في رائعته (موسم الهجرة إلي الشمال) إلي لندن وفتوحاته الجنسية التي ينتقم بها من غزوات الإنجليز الحربية علي وطنه السودان. فرواية الطيب تناقش العلاقة بين الشرق والغرب، ورواية سروري تناقش العلاقة بين شمال اليمن وجنوبه. وما فعله عمران، في دور الكراهية (اللاواعي)، يمثل غزواً مضاداً وحرباً روحية، فيما تمثل الرواية حرباً ثقافية، ففيها من الشواهد ما يدل علي هذا النسق الحربي، بدءا من التصدير الذي اقتبسه عن رامبو: "الحرب الروحية لا تقل شراسة عن معارك الفرسان" (ص 7). إلي فصل الختام الذي ورد فيه اقتباس عن (سان تزو)، مروراً بكثير من العبارات التي تدعم هذه الرؤية.
يمكن أن نري في مقولة رامبو السابقة دلالة رمزية علي نوعية الحرب التي شنها الشمال، ممثلاً بالتيار الديني السلفي المتطرف، علي ثقافة الجنوب المدنية المنفتحة، ودلالة أخري علي نوعية الحرب (الثقافية-الجنسية) المضادة التي شنها عمران علي صنعاء. تلك الحرب التي تدعمها مقولة الصيني (تزو)، في كتابه (فن الحرب): "يكمن فن الحرب في هزيمة العدو دون مواجهة، دون أدني خسارة، دون قطرة دم!" (ص 211). غير أن عمران يمارس حرباً ضد جزء منه، ولعل هذا هو الفارق بينه ومصطفي سعيد.
وبين هاتين المقولتين (الحربيتين) تتضمن الرواية كثيراً من العبارات التي تتعالق معهما دلالياً. منها وصف عمران لطبيعة العلاقة المتناقضة بينه وأمة الرحمن والقائمة علي "عشق مضطرم كثيف، وحربٌ روحية صامتة!". فالعشق مضطرم؛ لأنه بين جسدين، والحرب روحية صامتة؛ لأنها "بين موقعين فكريين لا يجمعهما جامع". ونتيجة هذه العلاقة الفصامية "يتحول عدوي الروحي إلي توءمي الجسدي" كما ورد علي لسان عمران (ص 82).
ومن شواهد مشاعره المتناقضة تجاهها، يقول عمران: "أُعجب بها مع كل ذلك، وأحبها (أعشقها في الحقيقة) وأشفق عليها أكثر فأكثر، أخافها وأكرهها أيضاً... الحق أنني لا أستطيع هجر هذه الجنية، رغم كل ذلك! ... أعشقها فعلاً بكل تفاصيلها اليومية الصغيرة، بجمالها وجنونها وصهارة بركان تناقضاتها. هي تراجيدية حياتي الجديدة، هاويتي وكل دوخاتي!" (ص 86 و 106). وهنا يصف حياته بالجديدة، مع أنه يعيش تناقضاً بين حبه الروحي لنجاة- زوجته التي قضت في تفجير إرهابي في باريس- وعشقه (الجسدي) لأمة الرحمن المتضمن رغبة في الانتقام. فعلاقته بها مُوجَّهة من قبل دافعين اثنين: العشق والحقد. فهو يبحث في أمة الرحمن عن ذاته الأولي (= فاتن)، أو كما يقول: "عن جذور غائرة عميقة، أو ربما عن قاتلة نجاة، لا أكثر أو أقل، قاتلتي". وحين نعرف أن علاقته بفاتن لا تتعدي نظرات بريئة في دكان الأعمي، ندرك أنه يبحث فيها عن عدن لينتقم لواقعها المرير. لذلك نراه يسأل عزرائيل، بأسلوب تقريري، أكثر منه استفهامي: "أحقاً أن كل عشق هو ملء فراغ ما، انتقام من شقاء لا علاج له؟" (ص 91).
وعمران ينتقم لعدن من السلفيين ولفاتن ونجاة من أمة الرحمن (الداعية الصنعانية) التي جعلت أخته, "المدججة بأكبر الشهادات العلمية في الطب والماركسية اللينينية... مهووسة بالأدعية والسنن القَبْلية والبعْدية، هي التي كانت مهووسة بالمادية الديالكتيكية والمادية التاريخية عندما كنت أنا (الداعي) في الصغر" (ص 74). فالنكوص في شخصية أخته يُشعره بفشل تربيته المدنية لها عندما كانت صغيرة. وبهزيمته من قبل "داعية صنعانية ظلامية ممن يباركون ويديرون التفجيرات الإرهابية" تحولت لياليه إلي كوابيس، وحياته إلي مستنقع وإلي "حقد دفين يتضاعف!..." (ص 74).
وأمة الرحمن تنتقم من زوجها الذي "تكرهه بضراوة. وتنتقم منه في كل لحظة. وسعادتها الكبري: الانتقام الدائم منه! فكل لحظات حياتها، كل ما تفعله في الحقيقة، انتقام مركب" (ص 94). ولأن "فلسفتها الانتقام، وحياتها انتقام دائم من هذا بذاك" (ص 99)، نراها تنتقم من زوجها، كلما أمرها بالعودة إليه، بأن تدعو عمران "لحمل مرايا الشقة ووضعها في أماكن مختلفة من السرير، وذلك لممارسة بعض الأوضاع الغرامية التي كانت تبدو لها صعبة مستحيلة، لا تطيقها، وتفضل تأجيلها علي الداوم!..." (ص 99). ويستكمل عمران وصف هذا المشهد قائلاً: "تنتقم منه بضراوة، تغمرني بلذتها بعنف، تنتقم، تزداد شهوتها، تنتقم... وحده الانتقام منه يغمرني بتلك النصف ساعة من اللذات الجديدة العاتية ويُضفي علي عشقنا المحموم هاوياتٍ وأبعادا جديدة أتمناها دوماً بلهفة ضارية!" (ص 100). ويقول: "لعل أمة الرحمن تهرب بكل بساطة إلي فردوس عشقنا الرقيق الناعم لنسيان شيء ما، عنف ما، اغتصاب ما... تنتقم من شيء لا أعرفه... لكأن السلفية عندما تمارس العشق تنتقم من كل المحرمات والكبت والحواجز..." (ص 101 و 125).
وتبدو علاقتهما الجسدية نوعاً من الهروب. هي تهرب من ماضي حياتها المضطربة (في عدن) أملاً في حياة أفضل (في صنعاء)، كالمستجير من رمضاء الماركسية بنار السلفية. وهو يهرب من ذكرياته، لكن إلي نعيم باريس. يقول عمران: "ازدادت رغباتنا خلال تلك البروفات الفردوسية بالالتحام الجسدي الطويل الناعم، وبالهروب من تراجيديات حياتنا بالغرام الملتهب. كلانا كان بحاجة عضوية مستأصلة إليه، في حياته الثانية التي رماه فيها قدرٌ غادر" (ص 96).
وأمة الرحمن، تفر من آثار نفسية خلَّفَها اغتصاب زوجها في ليلة العرس، ومن "أزمات نفسية وضعف جراء إهمال أبويها لها وانشغالهما... في صراع يوميّ لا هوادة فيه, فلم يعد لها حلم آخر غير الهروب بعيداً إلي الجحيم!...". وهي بذلك تكرر سلوك والدتها (فيروز) التي انتقمت من زوجها (سالم) بإقامة علاقة مع عدوه اللدود (أحد أهم القادة السياسيين)، الأعلي منه مرتبة والأكث
ر شيطنة" (ص 56 و 137).
وعمران ينتقم أيضاً لعدن، المدينة المنفتحة التي حولها السلفيون إلي مدينة منقبة. وفي الرواية فقرات توضح الردة الثقافية التي صارت إليها عدن بعد الوحدة وحرب 1994. يقول عمران مخاطباً ملك الموت ومعبراً عن حال المدينة قبل الغزو: "كانت الحياة العدنية يومها، عزيزي قابض الأرواح، تميل إلي المدنية والحداثة: المرأة تلبس الملابس المدنية، تتعلم، تعمل، تساهم في أعلي القيادات... التعليم مختلط. الكتب، لاسيّما (التقدمية والثورية)، في كل مكان... يضبط الحياة الاجتماعية قانون مدني متقدم يعطي المرأة حقوقاً هامة ملموسة... الأعين تنفتح علي الحداثة. كل جديد في العالم يجذب الناس... كان هناك مثلاً مصنع وطني للبيرة: مصنع (صيرة)... وكان من الحداثة بمكان، ومن السهل جداً، احتساء الكحول في بارات المدينة بِحُرية" (ص 52).
ثم يعرض مثالاً ينتقد فيه المفهوم السطحي للحداثة عند بعض الأسر العدنية، لكنه مثال يبين لنا مدي الانفتاح الذي كانت عدن قد بلغته. يقول: "ثمة في بعض الأحيان مثلاً، صدِّق أو لا تصدق عزيزي لاطش الأرواح، عائلات محترمة جداً كانت تعتقد أن من الحداثة بمكان أن تشاهد، بعد وجبات دعوات الغداء أو العشاء، فيلماً إباحياً معاً، صغاراً وكباراً، كما يفعل الناس في الدول المتطورة (حسب اعتقادهم!)" (ص 53).
وكانت عدن، أحد أهم موانئ العالم، ممتلئة "بالهنود والأفارقة والأوربيين وببشر طيبين من كل أرجاء اليمن. مدينة سفن وبحارة. حضن لكل الهاربين من أوجاع الحياة. تخرج من أسفل بحرها، كما تقول الأساطير، دهاليز تربطها بأقصي الشرق والغرب. مشروع عاصمة أممية... رغم كل أوجاعها وإخفاقاتها ظلَّت بؤرة الأمل لكل من أراد الهروب من تعاسة العالم واللجوء إلي الحلم..." (ص 202).
لكن عدن الواقع والحلم تحولت إلي مدينة "تخنقها عصابات (عنف بالعنف) في فجر السبعينيات، تزلزلها وتسحقها في يناير 1986. وتهجم عليها في 1994 أبشع العصابات القبلية والظلامية والجهادية لتنهبها ببشاعة وحقد، وتمحق ما بقي فيها من مدنية ورقّة وأمل. تبطحها بالضربة القاضية" (ص 203). وعدن "فنار الاشتراكية العلمية، في سبعينيات وثمانينيات العالم العربي"، ارتد فيها الإنسان الثوري، "تحت المد السلفي الظلامي... إلي إنسان آخر: مهووس بمجيء المهدي المنتظر!..." (ص 123 وانظر أيضاً ص, 64, 67, 68, 69, 154).
وانتقام عمران يأتي كرد علي انتكاسة شخصية أخته سمية التي كانت "ثورية، حزبية ماركسية لينينية مرموقة، وهي في ريعان المدرسة الإعدادية والثانوية!... كانت ناشطة ثورية نسائية مرموقة، لبست (الميني جوب) في ثانويتها". وعندما وصل إلي شقتها، في صيف 1996, "كانت امرأة أخري. طبيبة مرموقة بنقاب طالباني أسود كثيف. تصلي ركعات صلاة الضحي والوتر وسنناً قبلية وبعدية لا تُعد ولا تحصي. كل جدران غرفها وأبوابها مطرزة بأدعية مكتوبة بخط يدها: دعاء السفر، دعاء العودة من السفر، دعاء قرع الباب، دعاء الدخول من الباب، دعاء الخروج من الباب، دعاء المطبخ، دعاء وضع الحذاء، دعاء خلع الحذاء، دعاء اللوز والفستق، دعاء الفيمتو، دعاء الذهاب إلي سرير النوم، دعاء طرد الكوابيس، دعاء الكوابيس..." (ص 70).
مثال آخر علي النكوص الذي أصاب الشخصية العدنية بعد الغزو السلفي، يتمثل في سالم أو سوسلوف, نسبة إلي ميخائيل سوسلوف، مسئول الدائرة الأيديولوجية في الحزب الشيوعي السوفيتي سابقاً الذي درس الماركسية اللينينية في موسكو، وعُيِّن رئيساً للمدرسة العليا للعلوم الماركسية اللينينية في عدن.
كان سالم "قيادياً من الطراز الرفيع، ودونجوان من الطراز الأرفع أيضاً... ويجيد الربط الديالكتيكي بين النظرية والممارسة!... كان نشيطاً لبقاً ناجحاً... كان لطيفاً جاداً، ماهراً في كل أنواع الحديث: من النكتة (كان موسوعة نكت) إلي التنظير السياسي... المنظر الماركسي اللينيني الرسمي بامتياز... المؤدلج الرسمي الذي لا يمل الحديث عن (سمة العصر)... " (ص 14, 53, 54, 55). وبعد الحربين صار "رجلاً يعبر وحيداً في ركن شارع، لا يهمه إلا أن لا يعرفه أحد، فَقَدَ كل أُبّهته... فقد بريق عينيه, نظراته ترابية خافتة تغيب في فراغ، لا ينبض فيها غير القلق والخوف من شيء ما...". وعندما عرّفه عمران بزوجته نجاة "التي مدت يدها بشكل طبيعي لمصافحته. اعتذر عن مصافحتها قائلاً إنه متوضي!". يتعجب عمران لهذا "التقلب من أقصي الإلحاد الماركسي اللينيني المدوي إلي أقصي التظاهر الشكلي والتشدق الصارخ وغير المهذب بالدين" ويعلِّق مندهشاً: "رئيس المدرسة العليا لعلوم الماركسية اللينينية في عدن يرفض مصافحة زوجتي حتي لا ينقض وضوءه..." (ص 65).
النموذج الأبرز للنكوص الفكري يتمثل في شخصية فاتن (= أمة الرحمن). يخاطبها عمران وهما في حياتهما الثانية قائلاً: "شعرك كان في غاية الجمال في حياتنا السابقة في دكان الأعمي. لماذا تخفينه عن الناس وراء هذا المنديل الخانق؟". ثم يستعيد صورة وجهها في حياتها الأولي: "الوجه الإلهي الذي كان يواجهني ساعات طوال في دكان الأعمي، الوجه الذي كان يملأ سماء ليالي منامي في عدن قبل السفر إلي فرنسا..." (ص 134). وعندما التقاها في صنعاء وجدها "امرأة أخري، غيرت اسمها ولهجتها"(ص 140) إلي لهجة صنعانية جبلية، و"كان علي كفيها قفازان واقيان... وكانت مغطاة بحجاب كليِّ أسود ونقاب صارم لا تبدو منه إلا عيناها... (ص 72). فصارت بذلك "أفضل داعية إسلامية عرفتها اليمن، وخير زوجة يمكن أن يحظي بها (علي سنة الله ورسوله) ابن كبير علماء الدين في اليمن وواجهتهم الظلامية الشهيرة، وإن كان الأب نفسه، الطامة الكبري، أكثر المتعلقين بها (علي غير سنة الله ورسوله)!" (ص 83).
ومن خلال علاقتها غير الشرعية بالإمام محمد الهمداني، تظهر أمة الرحمن شخصية سلبية مغتصبة من قبل الزوج وأبيه، وعاجزةعن فصم عري هذه العلاقة- كلما طلب منها عمران ذلك- بقولها: "ماذا أعمل؟ لم يرضَ!" (ص 130). وفي اغتصابها رمز للجنوب المغتصَب بعد حرب 1994، ويأتي الحل مضمراً بقطع هذه العلاقة غير الشرعية بالانفصال.
الشخصية الروائية المُركَّبة من (فاتن =هاوية =أمة الرحمن) مُكوَّنة من عدة شخصيات واقعية. فيمكن أن نري في اختفاء فاتن من عدن وظهورها في منزل الشيخ الهمداني صدي لحكاية شهيرة، أثارت لغطاً، بطلتها (لينا)، ابنة أحد قيادات الحزب الاشتراكي. وتتمثل هاويتها في سوء علاقتها مع أسرتها واضطرابها النفسي، ثم اختفائها من عدن، في 1991، لتظهر منقبة في صنعاء، ثم العثور عليها مقتولة بالقرب من منزل الشيخ عبدالمجيد الزنداني. (انظر ص 137 إلي 140). لكن (لينا) الراوية يتم التمديد في عمرها لتتطابق، واقعياً، مع شخصية ناشطة حقوقية وثورية إخوانية تصدرت المشهد الاحتجاجي في اليمن عام 2011 (بدءا من ص 163).
وإطلاق اسم هاوية علي فاتن يمهد للهاوية التي ستئول إليها صاحبته. فصفاتها المتناقضة في بداية الرواية تؤكد ذلك، حين يقول عنها عمران: "كان جمال لمعة عينيها نافورة سعادة"، لكن "في نظراتها حزن ما، صمت مقلق" (ص 16). وتُعدُّ بذلك رمزاً للمرأة العدنية المنفتحة، وهاوية اسم يبشر بمستقبلها الذي سيحل في أمة الرحمن بسبب المد السلفي الشمالي الذي استغل اضطرابها النفسي وسوء علاقتها بعائلتها الماركسية. ورحلة المرأة العدنية من الجنوب إلي الشمال وما صاحبه من تحول في شخصيتها، يختزل ما حدث لعدن من تدمير ممنهج لكل أشكال الحداثة.
ويمكن اعتبار هاوية رمزاً للهاوية التي سقطت فيها دولة اليمن الديموقراطي. يقول عمران: "في أول زيارة صيفية لي، بمعية نجاة، إلي عدن، بعد حرب 1986، شعرت أن (اليمن الديموقراطي) قد وقع في هاوية بلا قاع. قرأتُ عليه الفاتحة!" (ص 63). وهروب (فاتن/هاوية) رمز لهروب الجنوب إلي الشمال، (عدن إلي صنعاء)، وهو هاوية؛ لأنه انتقال من جنة إلي جحيم أو من رمضاء إلي نار. يقول عمران: "ابنة مدير مدرسة الماركسية اللينينية تهرب من (اليمن التقدمي) إلي (اليمن الرجعي)!" (ص 63).
البعد الرمزي بين عمران وأمة الرحمن، يبرز أكثر عندما تختفي فاتن من عدن وتظهر في صنعاء باسم جديد وهوية أخري، ثم في تحول آخر يحدث في شخصيتها حين تخلع النقاب مع بداية ثورة 2011. رمزية هذه العلاقة بشخصياتها المتناقضة فسرها عمران قائلاً: "في زقاق مظلم نتن تتضاجع فيه رباعية: الجنس الدين السلطة الثورة" (ص 201). وهو ما أدي إلي فشل الثورة والدين والسلطة السياسية في القيام بأي مشروع نهضوي.
الجنس في الحالة الرمزية، عنصر إلي جانب ثلاثة عناصر أخري تهيمن علي الحياة السياسية والدينية والاجتماعية، لكن للجنس في الرواية وجوداً حميمياً بين اثنين يجمعهما علاقة حب لا مجرد علاقة بين جسدين. مثل تلك العلاقة التي جمعت بين عمران ودينا، أو (الدكتورة) كما يحلو لها وصفها، ثم مع زوجته نجاة. لهذا السبب يمتنع عمران عن ممارسة الجنس مع مومسات السيسبان؛ لأنه جنس مقابل المال، والأهم لغياب الحب أو العشق والانتقام.
ونلاحظ أن العلاقة بين عمران وفاتن وهما في عدن- بريئة، لم تتعد حدود النظرات، تحولت إلي علاقة جسدية مضطرمة وهما صنعاء, المقيدة بالكبت والرقابة الشديدة. والوازع الذي منع عمران، وهو مراهق، من تقبيل فاتن لم يكن وازعاً دينياً. يقول عمران: "لم أكن أتجرأ علي عناق ذلك الوجه أو تقبيله، حتي في مخيلتي: ثمة رقيب حزبي لا يلين له قناة يرفع لوحة مكتوب عليها: (جدار بلانك)!... لم أجرؤ يوماً علي ممارسة الرغبة في احتضان هاوية، أو مجرد تقبيل وجهها فقط، لأني كنت أخشي أن أكون مجرماً؛ منتهك ملكوت طفلة بريئة... ولأني بشكل خاص، في قضايا هموم الجسد وأشواقه، كنت أهرول مباشرة إلي أحضان الدكتورة!" (ص 17, 18). وفي ذلك دلالة تفيد بأن الانفتاح لا يعني الإباحية، مثلما أن الرقابة والتشدد لا يعنيان الأخلاق والتدين. وهو ما يقلب الصورة النمطية، عن المرأة في الجنوب وفي الشمال، رأساً علي عقب.
وبتحليل الجانب السياسي في الرواية تكون عدن ضحية اغتصاب جماعي من قبل الماركسيين والسلفيين والقبَليين والثوريين. وفي محاولة انتشال أمة الرحمن من وحل صنعاء يعرض عليها عمران الانتقال معه إلي باريس. يقول: "حلمي اليومي: أن أجذبها للحياة معي هنا، في باريس. أن أطوف العالم معها وهي بدون نقاب أو حجاب، بساعدين طليقين، وبفساتين خفيفة حرة تضيء بها وتشعشع، ليسيل جمالها ورشاقتها ورقة بشرتها الطليقة في كل شوارع الكرة الأرضية" (ص 147). وكأنه هنا يقوم بمحاولات لاستخلاص فاتن من أمة الرحمن، وتنقية عدن من صنعاء، للحياة في نعيم باريس. لكن تمر الأشهر والسنين دون أن يقترب من تحقيق حلمه، خصوصاً بعد فشل ثورة 2011 ووقوع عصافيرها فريسة لثلاثة قوي: الدين والعسكر وفلول النظام السابق.
كاتب وناقد من اليمن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.