في الوقت الذي كانت الصحافة المصرية الناشئة في أعقاب الحرب العالمية الأولي تخوض غمار المعركة الوطنية، كانت أصداؤها تتردد في ربوع السودان في نفس الوقت، ولن تلبث أن تولدت هناك ضرورة قيام محافظة سودانية تعبر عن مصالح الشعب السوداني بمختلف فئاته وجماهيره الواسعة، وقد استغرقت فترة التكوين الأولي للصحافة السودانية ما بين 1919-1935، وفي هذه الفترة بذلت جهود كثيرة، كان لها الأثر في تحديد المعالم المميزة للصحافة السودانية. كانت بالسودان مصلحتان معارضتان.. إحداهما سودانية خالصة تعبر عن رغبة الشعب السوداني في التحرر من السيطرة الأجنبية، وأخري أجنبية تقوم علي سلب حقوق الشعب السوداني، وتقف في طريق تحرره وتقدمه، وبين هذا بدأ أول نسيج لصحافة السودان خلال السبعة عشر عاماً التي أعقبت الحرب العالمية الأولي. بدأت الصحافة الوطنية هناك متخذة طابعاً أدبياً في "الفجر" و"النهضة السودانية" و"مرآة السودان" و"رائد السودان"، وكان في الناحية الأخري من الصحافة "حضارة السودان" التي عاون في تنظيم إدارتها وإصدارها أصحاب صحف كانت تصدر وقتئذ في مصر- صروف ونمر مكاريوس- وكانت تحرر وتنشر بواسطة قلم المخابرات البريطانية في السودان الذي أصبح بعدئذ "مكتب الشئون الأهلية" ثم "مكتب الاتصال العام" وأخيراً "مكتب الإرشاد القومي" وكانت هذه الجريدة تصدر مرتين كل أسبوع وتوزع بطريق الاشتراكات التي كان يجمعها من أنحاء السودان المفتشون الإنجليز.. ولكي تخفي طبيعة هذه الجريدة، أعطت الإدارة الإنجليزية امتياز هذه الجريدة إلي ثلاثة من المغتربين بالسودان واحداً بعد الآخر، ولم يلبث الوعي الوطني أن نما وكبر، وفي سنة 1935 صدرت صحيفة "السودان" في الوقت الذي بدأت "حضارة السودان" تموت موتاً طبيعياً، فأدمجت مع "الجريدة التجارية" وأعطت اسماً جديداً هو "ملتقي النهرين" ولكن بعد أن لم يعد في وسع الاستعمار أن يوقف التقدم والكسب الذي أحرزته الصحافة السودانية. وكان القاسم المشترك بين الصحف الوطنية هو كتابة المقال ونشر الأخبار الخارجية، التي تحتكرها وكالة أنباء "رويتر". في 1936 تم أول تأكيد للصلة المباشرة بين صحافتي مصر والسودان منذ صدور أول جريدة يومية هي "النيل" وقد اختير لرئاسة تحريرها صحفي مصري هو الأستاذ حسين صبحي حسين، حيث نفخت أول نسمة من الروح الصحفية المصرية الحديثة في صحافة السودان، وكان الأستاذ "أحمد يوسف هاشم صاحب "السودان الجديد" الحالي قد اشتغل في صحافة مصر عدة سنوات بمجلة "روزاليوسف" وجريدتها اليومية.. كما زامل في ذلك الوقت الدكتور محمد عزمي والأستاذ عباس محمود العقاد. وكان في مصر عدد من الصحفيين السودانيين منهم الأستاذ "محمود أمين حسين" محرر "أم درمان" التي كانت تصدر بالقاهرة، والأستاذ صالح عرابي صاحب "التلغراف"، كما أدخل الفنان "محمد عثمان جودة" فن الكاريكاتير في الصحافة السودانية. كما كان تردد كثيرين من صحفيي السودان علي مصر بانتظام، مما عمل علي تحول صحافة السودان، إخراجها من الطابع المحلي الصرف. في 1939 بعد أن استولي "الأنصار" علي جريدة "النيل" برزت حاجة طائفة "الختمية" إلي صحيفة خاصة، فتأسست "صوت السودان". 1944 صدرت "السودان الجديدة" أسبوعية مصورة، وتحولت إلي يومية في 1947. 1945 صدرت "الرأي العام" يومية، و"الأمة" كذلك مع نشأة الأحزاب السودانية وتخصيصاً في مهاجمة الاتحاد مع مصر. 1946 حمل القادمون من مصر تفكيراً جديداً كما أتيحت لهم فرص التعبير عن أفكارهم بالنشر في جميع الصحف علي اختلافها، انتظمت وتركزت أكثر في 1950 عندما أنشئت "الصراحة". وقد أقفلت هي الأخري بعد أن نال السودان حق تقرير المصير 1953، وعلي أنقاضها أنشئت جريدتان إنجليزيتان، يديرهما سودانيون، ورغم أنه كان ملحوظاً علي الجريدتين نزوع إلي إرضاء الدوائر الأجنبية، فإنهما في معركة مصر الأخيرة اضطرا إلي مسايرة الاتجاه الوطني الجارف. صحافة البحث وتوجد أيضاً صحافة للبحث العلمي معدودة علي أصابع اليد الواحدة، تساهم في إصدارها مصالح الحكومة، منها "السودان" و"الكتلة" وهي التي أصبحت الآن جامعية. وضع الصحافة السودانية اليوم إذا تركنا جانباً ضعف المستوي الصناعي الفني للطباعة والحفر، فإن عوامل مختلفة تشكل جوانب أخري من أسباب تخلف الصحافة السودانية اليوم فانعدام انتظام المواصلات من جهة، وارتفاع نسبة الأمية من جهة أخري، بالإضافة إلي تدفق الصحف المصرية المتقدمة فنياً وصناعياً.. كل هذا يؤثر علي إقبال القراء السودانيين جزئياً علي الصحف السودانية، ولكن نسبة التعليم بالسودان وارتفاع الوعي لابد وأن يؤثرا في تطور الصحافة السودانية خلال السنوات العشر المقبلة. مراحل الصحافة السودانية ودورها في الحركة الوطنية كان من الطبيعي أن تخنق حرية الصحافة في "حضارة السودان" التي أوجدتها حكومة استعمارية للدفاع عن أغراضها، وفي الوقت نفسه "1933-1946" كانت الصحف الأخري تراقب بواسطة "مكتب الاتصال العام" وقد أجبر الإنجليز علي رفع هذه الرقابة عام 1936، إلا أن الصحفيين كانوا ممنوعين من النشر في مسائل: مستقبل السودان السياسي، وعلاقة جنوب السودان مع شماله.. إلي غير ذلك من قيود. 1936 بدأت نذر الحرب العالمية الثانية، ووجد "مؤتمر الخريجين" الذي تألف من تكتل الطبقة المثقفة السودانية، وبتأثير المؤتمر حطم الصحفيون بعض تلك القيود. 1952 صدرت مجلة أسبوعية وباسم "كردفان" تصدر مجلة أسبوعية في "الأبيض". 1953 حمي وطيس النشاط الصحفي فجأة بظهور "الأيام" يومية، وذلك في مجال "التنافس الإخباري" الذي تحول إلي تسابق في الطباعة، وتصميم الخطوط "المانشيت". وفي السودان صحافة مستقلة من الأحزاب، ولكن الأحزاب تجد فيها فرص النشر، ويمثل هذه الصحافة "الرأي العام"، "السودان الجديد"، "الأيام"، و"الصراحة" وتمثل حزب الأمة عموماً، وطائفة الأنصار بالذات جريدتا "النيل" و"الأمة" وتعبر "صوت السودان" عن طائفة "الختمية" التي كانت في خدمة الدعوة الاتحادية فترة من الفترات. وتمثل الحزب الوطني الاتحادي جريدة كانت تسمي "الأشقاء" ثم صارت "الاتحاد" ثم صارت أخيراً "العلم" وقد استفادت مجلة "الجهاد" بالاتفاق مع بعض الوطنيين السودانيين من ذوي التفكير الجديد المتقدم. ولكن لم تكن تعلن الحرب حتي فرضت الرقابة من جديد، وكانت بعض أعمدة الصحف تظهر بيضاء.. ونادي "المؤتمر" بحق تقرير المصير بعد الحرب، ولم يستطع الإنجليز مقاومة الصحافة السودانية في خوض هذا الموضوع. 1945 بعد أن أوقفت المذبحة العالمية الثانية وضح انقسام في الرأي العام السوداني نحو اتجاهين.. الاتحاد مع مصر، والاستقلال. وكانت فكرة الاستقلال متهمة من الرأي العام السوداني، لأن الإنجليز ظلوا يؤيدونها، وكان من الطبيعي أن تتمثل اتجاهات الحركة الوطنية في الفكرة الاتحادية التي تنادي ب"الكفاح المشترك بين الشعبين المصري والسوداني ضد الاستعمار".. ولم تنجح محاولات الإنجليز في منع الصحافة السودانية من تأييد وجهتي النظر مع وجود الرقابة- وقتئذ- والتي رفعت بعد الحرب مع إبقاء المنع وحظر النشر في موضوع الجنوب وحده، ولكن هذا المنع لم يلبث أن أزيل بعد أن تغلبت عليه الأقلام الوطنية السودانية. وكانت الصحف السودانية بلا استثناء تعاد من الحكومة علي أساس مساعدتها في المجهود الحربي، فاستخدمت الحكومة وسيلة قطع هذه الإعانة عن الصحف كنوع من العقاب، ثم ذهبت إلي أبعد من هذا، فقدمت عدداً من الصحف الوطنية إلي سلسلة من المحاكمات التي أصدرت فيها أحكاماً بالغرامات المالية الكبيرة المرهقة ضد الصحف محدودة الدخل والميزانية مثل "صوت السودان" و"المؤتمر" و"الصراحة" التي أغلقها الحاكم العام الإنجليزي ستة أشهر عام 1952. وتتجه للثورة المصرية القائمة رحبت الصحافة السودانية جميعها بما تمخضت عنه الأحداث منذ تصفية حكم أسرة "محمد علي" وما أعقبها من إصلاحات وتغييرات وطنية بدار السودان بقانون إنجليزي مستمد من القانون الهندي- عندما كانت إنجلترا تحكم الهند- ويحتوي هذا القانون علي قيود شديدة ضد الصحافة والصحفيين بالسودان. ولكن التماسك الذي أبداه الصحفيون في الأزمات جعل كثيرا جداً من مواد هذا القانون علي ورق، فقد اشتركوا في عدة احتجاجات وإضرابات ضد ما كانت الحكومة تبطش بالصحافة، لا أن هذا القانون- الإنجليزي الأصل- لازال كما هو، يعطي وزير الداخلية كما يعطي السكرتير الإداري من قبل- حق التعطيل- كما أن مواد هذا القانون مطاطة. ومن الغريب أن سوابق الصحفيين والوطنيين التي سجلت عليهم في العهد الإنجليزي مازالت قائمة محسوبة عليهم اليوم في سجل الجرائم. زهدي العدوي