" .. وهكذا لما توزع لحم الفتي بين الأماكن استوت الأجزاء رجلاً كاملاً يذوقُ العالم في غرفة بعيدة تضيقُ كل صبحٍ " كانت هذه الجملة الطويلة الثقيلة ببلاغتها وشعريتها هي نهاية شهادة لم أكتبها .. سيرة ذاتية تامة ودقيقة لم أَخُطُّها .. لكنها تلف وتدور وتكبر مع الأيام كلما يكبر هذا المولود في السعودية لأب من القاهرة وأم من بورسعيد ويقيم في آخِر مراكز بني سويف بجوار المنيا ! كانت الغربة في بيتنا هي الأساس والسَنَد ، والحنين هو المرض الدائم والشرود المقيم الذي لا يسأل أحدنا عن سببه لأننا نعرف وندرك .. طفولتي في المدينة الصحراوية الصغيرة كانت السبب والجرثومة في اختيار الورقة والقلم كي يُصاغ ويُنحت في الرمال أمرٌ اسمه التواصل مع العالم ، مع الناس ، مع الحياة ، مع أي آخَر .. لكن بشرط أساسي ولا بديل عنه هو ألا تكون اللعبة صريحة وواضحة وفجة وإنما عن طريق حائلٍ وحجاب ، يحمل الأمان ويقلل من سرعة ضربات القلب .. سر الكتابة هو هذا ، تواصلٌ وهروب في الآن ذاته .. طفولة وحيدة مع صديق وحيد مات أمامي بعد أن قرصه عقرب أسود مسكين كاد السم المُتَكِّوم في ذَنَبِهِ أن يُطبق علي أنفاسه فساب نفسه للريح التي ألقته في حوش المدرسة علي عنق فتي كان منثنياً ليضع الولد ذو النظارات الحقائب علي ظَهْرِه ثم يضحكان لما يقع الهرم لكن الضحك لم يصل يومها بل أرسل مكانه الخوف ورائحة الصراخ وتحديقة الموت التي أقامت للأبد .. صوت الريح يأخذ أفكارك الصغيرة الطفلة بعيداً ويلقي بها لتسقط وتصير حروفاً وكلماتٍ يسمعها الجن والسعالي ولا يسقيها أحد في الأعياد فتموت .. الصحراء تربي الروح وتضعها في علبة صدئةٍ وتهيئك مبكراً للعيش في معيتك وحدك .. تحدد لك بواقعيتها المفرطة في الخيال ، مداخل ومخارج التعامل مع خشونة الحياة وفظاظتها .. القبول والتمرد ثم الإذعان والصمت .. لا يصلح الرمل لبناء بيوت أليفة ذ كما بالقرب من الشواطئ ذ ولكن الرمل الناعم نعومة الأفعي يصلح بامتياز لأن يكون قبوراً ... وبلا تدرجٍ ولا تمهيد جئنا للمكان الآخر .. للنقيض والطرف البعيد من الدنيا .. من حياة تبني أساطيرها من لحم الصمت ، الميت الحي .. إلي الصخب المستمر والفوضي والحميمية التي تصل إلي حد الانتهاك .. إلي الروح ذاتها .. عدنا إلي البلدة الصغيرة التي يعمل فيها الأبوان في بني سويف بعد أعوام طويلةٍ في الغربة بلا إجازات جئت أنا وسطها .. وكانت النتيجة العادية أن يرتبك الولد ويدخل في ذاته بعنف الخائفين وتتربي له ريبةٌ مُفترَضَة يتصادق معها وحرصٌ موازٍ لحرص وريبة الأب والأم وخوفهم عليه فيما سبق ، وكيف لا وهو الولد الوحيد المولود لمهمة مقدسة هي أن يدفنهما ويتلقي عزاءهما بعد أن يموتا " وهل ينجب الإنسان إلا لهذا " كما كانا يرددان دوماً .. كان الأمر مبرراً أكثر بالنسبة للأم التي عاينت الموت كثيراً يزور أهلها تحت الغارات ويحطم بيتهم الأول ثم الثاني ويصاحبها وهي تنتقل من مكان لآخر مع " التهجير " .. لكن الفتي لا يستطيع أن يقاوم ابتهاجه كلما أَطلَّ من خلف ستارة نافذته علي أغاني الباعة الجائلين العبقرية المليئة بالحزن الشفيف أو البهجة اللعوب .. وعلي بياض الأفخاذ والكعوب ثم الغمزات والإشارات علي حافة المصرف أثناء طقس غسل " المواعين " والملابس ، بين فتي طويل أسمر غالباً وعريض الصدر وبين تلك التي ترن ضحكتها فتنخلع القلوب ويتغير شكلها وتتبدل خريطة جسدها كل ساعة .. علي قاموس الشتائم الحريفة لأناس لا يتركون فرضاً في المسجد لكنهم يسهرون علي المصطبة ويشربون الحشيش ويطلقون النكات و" القافية " .. دراجة " نصر" عالية جداً تصل الأقدام بالكاد ل " بَدَّالِها " وولد ممصوص من قرية بعيدة جاء خصيصاً ليحوز متعة الانطلاق في شوارع أوسع وغناء بصوتٍ أعلي .. بائعٌ ضرير يحمل فوق رأسه " مَشَنَّة " الخضروات وينادي علي كل نوع بنغمة معينة ثم يصدح بموال عجيب يعاتب فيه القَدَر ليس علي ضياع نور عينيه بل في ضياع نور المحبوبة وبهاها .. ثم المسحراتي الذي يتفنن الأشقياء في وضع الأحجار الصغيرة مع الكعك الذي هو أجرته عن شهر كامل من التسحير .. يلف علي المدينة كلها ويجمع كميات هائلة من الكعك تكفيه لعام كامل وينغم لك هذا الشهر الملتبس لتحبه ، فقط من تجليه وانجذابه به فوق كونه سكة رزقه ... ويكتب الولد ويرسم وينحت في دنياه الصغيرة التي تسكن فيها معه العفاريت والغيلان التي ما أن يفكر في شخصية منها إلا وتزوره في نفس الليلة ولا تغادر بعدها أبداً ... ثم يتسع المكان مضطراً تحت ضغط المراهقة والذقن النابتة غير المكتملة إلي أسوار عالية تخفي مكاناً مبنياً بأقل قدر من الفنية هو جامعة بني سويف .. التي تنجح في فتح القوس إلي أقصي مدي .. إلي الشيوعية والجنس والغناء والأغاني الجديدة وقصيدة النثر .. وكذلك إلي اكتشاف المحافظة الموزعة بين قيم الريف والحضر .. كورنيش طويل محتل من نوادي الشرطة والجيش والقضاة والمحامين .. ميدان " مولد النبي " ذو النكهة الشعبية الصرف .. مسجد " الست حورية " ومريديها وموالدها الشبيهة في كل مكان .. هي من أكثر المحافظات التي تنعم ب " قديسات " في مراكزها وقراها .. ولأن تحولات