«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصص
نشر في أخبار الأدب يوم 24 - 07 - 2010


الدم
أخذت المائة جنيه من زكريا، وذهبت الي محل الفراخ، اشتريت نصف فرخة مشوية، مع السلاطات، وكيلو يوسفي من محل الفكهاني المجاور، وذهبت الي كشك »سيد زرافة«، سيد كان شبعان، فأكلت نصف الفرخة وحدي، وأكل هو بعضا من اليوسفي، وكلما أنهي واحدة من ثماره قال: أنت محتاج غذاء كل أنت، ثم يتناول واحدة جديدة ويقشرها ويأكلها في ثوان.
وتوقفت عربة أمام الكشك، نزلت منها سيدة شقراء، اشتريت من سيد بخمسين جنيها شوكولاته، وعادت إلي سيارتها وانطلقت، وقلت:
- دائخ يا سيد.
وقال سيد انني لابد أن أرتاح لفترة، وقال إن زكريا ربنا فتح عليه من وسع، كان معصمي يؤلمني، و كان زكريا يتحدث طوال الأيام الأخيرة عن سبوبة كبيرة، تساوي التبرع بدمي مقابل المائة جنيه كل مرة لمدة عشرات السنين، وقال سيد:
- لو أن واحدة عليها الدورة الشهرية، هل يمكن تبيع؟..
وقشرت ثمرة يوسفي، وقلت:
- ننتظر مجيء زكريا ونسأله.
فهمت أن واحدة من زبائن زكريا جاءته مثلا اليوم، وكانت تحتاج إلي نقود، وسألت عن زكريا، ويبدو أنها كانت عليها الدورة الشهرية، وقال سيد:
- كوثر رفضوا أخذ دم منها.
زكريا قال لي، لماذا، سألت أنا، وحكي زكريا أن السبب هذا الوشم الذي علي صدرها، الذي دقته ادارة السجن علي صدرها لما حكم عليها بالسجن في قضية الآداب، سرح تفكيري بعيدا، وقلت انني لن أضع وشما أبدا علي ذراعي مثلما كنت أخطط، كنت أريد أن أدق وشما علي ذراعي، أقول فيه مثلا »إن الله مع الصابرين«، أو »حياتي عذاب«، أو ربما مجرد فقط أول حرف من اسمي، كان عدد الأنفار الذين يعملون لحساب زكريا يكبر يوما بعد يوم، وكنت عرفت أن كوثر أجبرها أمناء الشرطة في الحي علي العمل مرشدة لهم.
وقال سيد انه حصل علي ربعين حشيش اليوم من كوثر، وفهمت أنا أنها أكيد حصلت علي ربعين الحشيش من أمين شرطة تعرفه، ويرافقها هذه الأيام، وكانت قد بدأت تمطر، فدخلت الي الكشك، لأحتمي بسقفه، وقلت الحمد لله لأني شبعت جدا بعد العشاء المعتبر، وبدأ سيف يلف سجائر الحشيش، وأمسكت جريدة من الجرائد العديدة، وحاولت قراءة العناوين الكبيرة.
وتذكرت كلام ممرضات المستشفي عن أنني لابد أن أرتاح لفترة، بيعي لدمي كل اسبوع شيء خطير، كما قالت تلك الممرضة التي قال لي عنها زكريا انها مرافقة ابن عمه سائق الميكروباص، وكانت كل عناوين الجرائد عن التنمية، وعن زراعة الصحراء، وحاولت أن أعرف متي ميعاد مباراة المنتخب بعد غد، وقال سيد وهو ممسك بورقة البفرة:
- يعني نصف لتر الدم سيظل بمائة جنيه؟
وقلت:
- آه، لو تتم السبوبة التي كلمني عنها زكريا، مجرد فص، فص من الكبد.
وقال سيد انني يمكنني أن أمتلك كشكا مثل كشكه هذا لو بعت الفص، لكن طبعا في مكان آخر، كي لا أقطع عليه، وحلفت لسيد بحياة العيش والملح، أن الكشك سيكون طبعا بعيدا عنه، وكنت أكح وصدره ضيق، وفكرت أن كحتي خطيرة، وتذكرت أنني لما خرجت من الغرفة التي أعيش فيها، نسيت القلة خارج الغرفة فوق السطوح، لو رأتها جارتي ربما تأخذها، فهي بنت حرام، وناولت سيد فص يوسفي، وفكرت في كلام زكريا أنه يريد أنفارا جديدة، وأنه تعرف علي المزيد من الممرضات يعملن في مستشفيات خاصة كثيرة، وأن السوق عطشان للدم، وأن الرجل الجدع هو القادر علي التبرع كل اسبوع مرة، وكنت أضع لسيد فص اليوسفي في فمه وهو يلف سيجارة الحشيش، وأضع في فمي فصا.
استغماية
طرت أنا وظلوا هم طوال المساء حتي ساعة متأخرة من الليل يبحثون عني، فوق أسطح البيوت، في مداخل الشوارع المحيطة بمنزلنا، خلف الأشجار، وخلف الأعمدة تلك التي تحمل كبائن التليفونات العمومية، كنت أفعلها فيهم كل مساء تقريبا، أطير لأختفي، تارة أذهب الي غرفة نومي ببيتنا، ادفس نفسي في الفراش، ومعي عدد من مغامرات »المغامرون الخمسة«، وأظل أقرؤه، وهم يبحثون عني في كل مكان، وتصلني أصواتهم العالية وأنا مندفس في فراشي، أضحك علي هذا الهطل الذين هم خائضون فيه.
أحيانا كنت أجلس أمام التليفزيون كي أشاهد مسلسل الساعة الثامنة، وبعدما ينتهي أتذكر فجأة أنني كنت طاير!، وأنه علي العودة، كي ألمس ذلك العامود الخرساني الذي جعلناه علي ناصية الشارع نقطة الملتقي، نقطة الانطلاق ونقطة العودة، مع الوقت والسنين، كنت أطير أنا والبنت عبير، ونختفي تحت سلم بيتنا، في ذلك التجويف المدهش الذي اكتشفناه معا، وكانت عبير صممت علي اللعب معنا، وكانت أمها تنهرها لأنها تعلب مع الصبيان مثل »الدكر«.
وقلت لعبير تحت السلم:
- لو أردت اللعب معنا دعيني ألمس صدرك النابت الناشيء المفاجيء لنا تماما.
وقالت عبير انني قليل الأدب، لكنها بعد الحاحي وضعفها أمام رغبتها في اللعب معنا رضخت لطلبي، فكنت أطير معها، مرة نختفي تحت السلم، ومرة نصعد فوق السطوح، ومرة نروح شقتهم عندما تذهب أمها الي بيت جدتها.
ولما عرفت عبير انني أحوش مصروفي وأشتري المغامرون الخمسة طلبت مني نسخا، وكانت فرصة سنحت لي أن أساومها مرة ثانية، وتتركني أتحسسها بحرية من تحت ملابسها، وكانت أمي تحذرني من أم عبير، وتقول كلمات لا أفهمها عن أن والد عبير في السعودية، وأن أمها كل يوم خارج البيت، كانت هناك العديد من الأشياء الجافة في طفولتي، والقليل من الأشياء الطرية، الندية، وكانت أطري الأشياء عبير، والشعر الحرير، وكنت أغنيها لعبير، ونحن في عشة الفراخ، وكانت هي تقول:
- »تعرف تقيس الفرخة وتشوف عليها البيض ولا لأ؟«.
وعلمتني عبير كيف أقيس الفرخة، وكيف أعرف ما ان كانت عليها البيضة أم لا، ومن المؤكد أن تلك الخبرة أفادتني كثيرا فيما بعد، عندما قابلت لاحقا الكثير من الدجاج في طرقات الحياة وعششها المختلفة، فكنت من أول نظرة أبصها علي الدجاجة، أعرف ما تخبيء في تجويفها، أو هكذا علي الأقل كنت أظن، كانت عبير فرحة رغم ذلك أن عشة فراخ أمي بها عدة ديوك، وكانت تحب ذلك الديك الكبير كهرماني الريش، وكنت أسميه أنا »ديك البلد« فكلما هاجني الشوق إلي اللعب مع عبير أقول لها:
- تعالي نطلع فوق نشوف ديك البلد.
فوق السطوح شفنا معا ديك البلد، وبعدها بسنوات، عندما غبت عن عبير، شفت ديك البلد وحدي مرات عديدة، في أقسام شرطة كنت أدخلها، في مكاتب مكيفة يجلس خلفها بشر لهم بشرة برتقالية كهرمانية، في علاقات بشرية و خصومات كانت تتصارع بين مجموعات انسانية تذكرني كثيرا بديوك كانت في عشة الفراخ التي كنا نطير اليها في الزمان البعيد الأخضر.
يبدو أن عبير كبرت اليوم وتزوجت واحدا من هؤلاء العيال الذين كنا نلعب معهم في الطفولة، يبدو أنها اليوم أما تملك مؤخرة كبيرة وبعض الحكايات البلهاء، ويبدو من المؤكد أنها حتي اللحظة تحكي لزوجها عن أنه أول من لمسها، من الوارد أن تكون عملت سكرتيرة في شركة كبيرة، يزنقها في مطبخها مديرها في العمل مقابل ألف جنيه في الشهر، أو ربما سكرتيرة رئيس تحرير جريدة متصاب، يظن أنه وحده من يعرف كل الحقائق، يبدو أنها نسيت أيامنا الحلوة، وربما رغم ذلك تتذكر أننا يوما ما طرنا معا، وشاهدنا ديك البلد سويا، وتعاهدنا علي ألا يخدعنا أحد، وألا نفقد في الطريق كل تلك الفرص التي تفننا في تضييعها.
ثمة من يظن أنني بالغت في طيراني، حتي أنني نسيت أنني مرتبط بأشياء كثيرة كان علي أن أفعلها، مثلا الزواج مثلا، وتكوين أسرة ، وادخار بعض عشرات ألوف في البنك، وثمة من يظن أن لعبة الاستغماية قد استهوتني حتي النهاية، أو أنني مثل قد نسيت مكان ذلك العامود الخرساني، الذي كان يشبه لا شيء سوي مجرد نقطة ارتداد، مثل فوهة عميقة نود أن ندخلها في عز البرد كي نحصل علي دفء ما، مثل منصب نتجبر به علي آخرين، مثل علاقة جنسية نقيمها مع رئيس في عمل من أجل حظية ما، مثل سرير واحد متسع لأحلامنا أو أوهامنا علي حد سواء، مثل ملابس جديدة وحضن أمان لطفل شوارع، مثل فرصة لسجين عتيق خرج لتوه من سجن طويل يبحث عن فرصة تحت الشمس.
يبدو أن عبير لم تكن رغم ذلك محبة لفكرة الطيران والتحليق، فثمة فارق بين أن تطير مثل يمامة، وأن تطير مثل ورقة شجر، كل هذه الصورة مرت في خيالي، وأنا شارد في صحراء صمت مطبق تناوشني، وأنا أشاهد هؤلاء الصبية الصغار يلعبون في الشارع، لو كانت عبير معي لحظتئذ، لربما حاولت أن تقنعني أن العيب مني أنا، وسوف أغمغم أنا كعادتي بكلمات غير مفهومة، وسوف أحكي لها ولابد تفاصيل كنت لا أرغب في حكايتها، وربما تصاعدت حدة الحوار، وقلت لها في النهاية:
- اننا جميعا نمارس لعبة الاستغماية، من البداية حتي النهاية.
وربما حكيت لها عن فيلم أمريكي أيضا اسمه، أن تكون جون مالكوفيتش، وسوف أقول لها إن أذكي البشر ربما يكونون هم محركو العرائس، وسوف تسخر هي مني، وتنطلق الي محل الكوافير، الذي ربما تقيم مع صاحبه أيضا علاقة من خلف ظهر زوجها، وربما تحكي له عن تعاستها لأن زوجها المقيم في الخليج لا يعاشرها معاشرة الأزواج سوي مرات قليلة جدا كل عام، ويقول هو لها ان ملايين النساء في بلادنا يعشن هكذا، ثم انني أشعلت سيجارة، ودخلت بين الناس، وكل احساسي وشعوري، انني مازلت طائرا
صفقة
كان الغضب قد بلغ به مداه، وجد نفسه يبصق في وجهها، وبصقت هي بدورها في وجهه، صفعها، فصفعته، ركلها ثم ركلته، وراحا في هياج يشتعلان، تلك نوبة جديدة من نوبات جنونهما معا، سوف يمزق عنها ملابسها، ويمددها فوق تلك الأريكة في ردهة البيت، ويدخل فيها حتي تنكسر شوكتها، وفي ضياعه الموحش سوف يتذكر كل صنوف الغربة، ويسمع كل كمنجات العذاب، وتنهشه هي مثل لبؤة شرسة، فقدت في صحراء الحياة طفلها الوحيد اليتيم، يقشرها مثل حبة فول سوداني، ويقضم غربتها وحزنها وتعاستها ويذوب تعاسته في تعاستها.
كان قد التقي بها صدفة قبل عام واحد، كانت هي النجمة الشهيرة في عالم الضوء، وكان هو المغمور التعيس البائس، كذلك عليها في البداية كيفما تعود أن يكذب علي جميع النساء، بداخله يعلم جيدا مثل معظم الرجال أن موهبة المرأة الحقيقية في الفراش.
عندما التقيا أول مرة، طلبت منه أن يحكي لها حكاية، يكتب لها قصة من مائة سطر، عن عالم خرافي مجهول، حكي لها فيها عن مجموعة من البشر، يعلمون مسبقا أنهم سوف يموتون فيحزمون أمتعتهم، ويذهبون الي شاطيء البحر ينتظرون طائر الموت الخرافي الملامح، كانت تقرأ هي قصته، وتضحك، وحار وقتها في فهم ما خلف ضحكتها من إيحاءات، عندما صحا من النوم في ذلك الصباح البعيد، كانت هي بجواره عارية من كل شيء حتي عزلتها، وكانت قد اختلفت حياته، أخذته الي عالم كان غريبا عنه، جلس معها الي موائد الكبار واستمع الي الكثير من قصص النميمة التي ولابد أنه اتخذها فيما بعد مادة لقصصه ورواياته.
لم يحك لها في البداية الكثير عن جنونه وشطحاته، ونظرته العدمية الي الحياة برمتها، كانت الصفقة من البداية أن تستحوذ هي عليه، وأن يرضي هو بالفتات منها، عند سور شهوتها، كان يلقي أمتعة الرحيل المضني، ويقول خبئيني داخلك، تعشق هي الضوء، ويعشق هو العذاب، لم ينكر أنه أحب أشياء فيها، يحب تلك الطفلة بداخلها رغم كل تلك المساحيق التي تحاول أن تخفي الطفلة بها، لفت نظرها فيه من البداية غموضه، وكان يقول لها انني لا شيء سوي مجرد رقم من الأرقام، مجرد عابر طريق، ربما تدهسه عربة طائشة في الصباح، ويغطون جثته بتلك الجريدة التي تكتبين فيها ولا يقرؤها أحد، وهو يقبض علي نهدها الجائع يبص في عيونها بغل وضعف وتشفي وخذلان، يلمح في عيونها تلك النظرة الشبقية التعيسة الحائرة المتعبة.
لاشك أنها مثله عاشت سنوات تحلم بيقين ما، لاشك أنها جاعت كثيرا وحلمت كثيرا وعرفت أصنافا من الرجال تناوبوا علي سرقة براءتها، ولاشك أنه يعرف أنه أيضا ولابد أن يسرق منها نصيبه من الصفقة المستمرة الأبدية، لم يكن يشعر رغم ذلك لأن القسمة ضيزي، يعرف أنها سارت في حياتها طوال المشوار منهكة، ويعرف أنها تقع تحت سلطة تلك القوة الجبارة التي تدفعنا الي فعل أشياء وددنا لو لم نفعلها منذ البداية، عندما يتعريان في العتمة، تتفلق حبات الحزن، وتجيء من مدنها الداخلية كل أشجار الشجن.
يسأل نفسه كل صباح نفس السؤال القاتل، ما إن كان فعلا يحب تلك المرأة، في مبني الجريدة، يجلس هناك، مثل غريب، الصفقة تقتضي أن يكونا خارج البيت غريبين، علاقة محايدة، لها عالمها وله عالمه، حتي لقب زوج الست لم يفز به، كانت سرية العلاقة هي أغمض ما في المشوار كله، سرية تشبه تماما تلك السرية التي يحكمنا بها ديكتاتور سيكوباتي، أو تلك السرية التي تجعلنا لا ندرك أي نطفة من نطفنا تحديدا قابلت تلك البويضة في رحم امرأة كي تنجب طفلا لا نعرف أبدا ما ان كان سيموت بطريقة مشابهة لموتنا أم لا.
في لحظات هياجه مرة، كان يصرخ بها، من تظنين نفسك، فرانسواز ساجان؟!، آه،.. ربما أنت ساجان تعيسة مثلها تقتلين نفسك بمخدرات لعينة، من تظنين نفسك؟!، فيرجينيا وولف، ان جنون وولف حتي صاحبه قدر كبير من البهاء والرومانتيكية، آه، ربما تظنين نفسك أليس ووكر مثلا!،و هي تعايره، أنها اشترت له ما يلبسه من ملابس، ويصفعها هو، فتحتضن كفه، تضعها فوق نهديها، تتأوه مثل قطة ستموت بعد دقائق قليلة، ترجوه أن فقط يضمها اليه، يصفعها مرة ثانية، وهو يعرف انه يفعل ذلك لأنها فعلا صادقة، ولأنها فعلا اشترت له ما ارتداه، مرات ومرات، لكن ساعتها كانت اللعبة مختلفة، كانت تتحدث عن أنهما واحد، وأنهما لابد أن يقتسما متع الحياة معا، يصفعها لأنه لن يستطيع أن يصفع رئيسه القميء في الجريدة، ولأنه لا يستطيع أن يخرج الآن في منتصف الليل ليقابل غريبا ليصفعه، تجلس بين يديه، وتصرخ به وترجوه أن يهدأ، وينفجران معا في البكاء، بينما يغرس وجهه بين نهديها، تصرح هي له بمدي تعاستها، في لمعة جسديهما تحت الضوء الحزين، يختلط عرق جسديهما بالدمع، كم أنا تعيس يقول لها، كم أنا تعيسة تقول له، يجمعان التعاسة في زجاجة واحدة ويحتسيانها في الصباح، فوق الوجه ترسم هي صورة المرأة الشرسة، التي يهابها الجميع، ويرسم هو فوق وجهه صورة الفتي المدهش الضاحك الساخر.
الأذكياء لن يجدوا صعوبة في التعرف علي مدي حزنهما معا، يقول هو لها أن كل الأنهار تصب في البحر في النهاية، يقف في احدي الندوات ويصرخ أن كل شيء خطأ، وأننا جميعا عبيد، ويبص إليها من فوق المنصة، ويشعر أنه يريد أن يقول انه نفسه عبد لهذه المرأة، يعرف أنها بدورها عبدة لرئيس تحريرها، وأن رئيس التحرير بدوره عبد لرئيس مجلس الادارة.
يخرج من البيت الي البار، يجالس امرأة أخري، تحكي له المرأة الأخري عن تعاستها، تحت تأثير الخمر يسبها ويسب الحزن والبار والمجتمع والحراك السياسي، ومشروع توشكي، والعلمانية، والليبرالية، والوجودية، والدولة العثمانية، والانترنت والنقابات المهنية، والجامعات، وكامب ديفيد، والاخوان المسلمين، والشعراء، والجاهلين، والمتعلمين، والفنيين والتكنوقراط، والحرية، والسادية، والماسوشية، وسكان المدن، والريف، والعشوائيات وكل السياسات والخطط الخمسية، والمجلات الفنية، ومباريات الكرة، والشوارع، والشجر، والليل، والنهار، يعود اليها في المساء، مثل كلب جريح لا يطال جرحه كي يلعقه، يقول لها منكسر الصوت، أنا رجل شرقي!، تأخذه بين ذراعيها وتهمس، سلامتك حبيبي، لأول مرة يشعر أنها حنون، ويشعر أنها فعلا تفيق من أوهامها، وأن حنان المرأة في النهاية هو الغالب.
دوما تشك فيه، فارق السن بينهما جعلها مجنونة تماما، لا سعادة لرجل تزوج امرأة أكبر منه، هناك دوما ذلك القلق المضني المنهك، سوف تجلس كل يوم تنتظر مجيء ذلك اليوم الذي يخرج فيه ولا يعود أبدا، لكنها تلك الليلة قالت له انها لم تعد تريد شيئا، هي تريده هو فقط، تقسم له أن أهم هدف لها في حياتها اليوم ألا تذهب للفراش وحيدة، تصرخ له:
- إن كل البهرجة والضوء في الخارج لم تعد تعني لي شيئا، ما هي ثروتي حين أذهب الي فراشي كل يوم وحيدة تعيسة وخائبة.
هو يعرف جيدا مدي تعاستها، يكره أنه يعرف، ويحاول وهو يأكل معها وجبة الغذاء ألا يطيل النظر اليها، وهي تمضغ طعامها بصعوبة، يعرف جيدا انها مثله اعتادت لسنوات أن تأكل وحيدة، ان من تعودوا علي تناولهم طعامهم لوحدهم لا يشبهون الآخرين، يتذكر كيف قضي معظم سنوات عمره يتناول طعامه وحيدا، في المطاعم والشوارع وأماكن العمل وفوق أرصفة وفي محطات رحيل، ربما لهذا السبب ظل طيلة عمره يشعر بالجوع الأبدي الصارم، ربما لهذا السبب يكره أن يتناول طعامه في حضرة آخرين، انه يأكل ويسرح، ويفكر في قصص عجيبة، وتحضره ذكريات متعددة معظمها مؤلم، ويحكي لها وتحكي له، ويداعب خصلات شعرها، ويهمس لها أنه يحبها، ويشعر في منتصف المسافة بينه وبينها أنه يكذب من جديد، انه يريد أن يقول لها انه يحبها، لكنه يكره بؤسها، بل بالأحري يكره بؤسهما معا، ويريد أن يشرح لها أن المشكلة الحقيقية اننا نأتي الي هذه الحياة اللعينة ولا نختار شيئا.
وكانت هي تترك يده تقطف دمعتها، وهي لم تعد تتحرج من أن يري دموعها، عندما تعود الي جدران المنزل، ويزحفان الي سرير واحد بيد كل منهما كتاب، ولا شيء بينهما سوي الصمت، ومشاعر يعرفها جيدا، لماذا أنا هنا؟ يعرف أنه لو تركها ربما لقتلها ذلك، يعرف جيدا أنها تعتبره ملكية خاصة، وتحديا دونه الموت، ويسأل نفسه أين يروح وأين يذهب، وهو شريكها في البؤس، ومعها اقتسم خبز الشقاء طوال عام، ندم أنه تركها تريه جراحها كلها، ومن المؤكد أنه ندم أكثر لأنها شافت كل جراحه، وكان بينهما كل مساء تسير جبال من الوحشة، لا يهزمها ضوء.
وجلسا يشاهدان اليزابيث تايلور وريتشارد بيرتون في فيلم، من يخاف فيرجيينا وولف، وكانت بينهما نفس المساحة من الصمت، نفس الصمت الذي لا يقطعه سوي عندما يهمس لها كلمة ماما وهو يضاجعها، وكانت تقول له ان تلك الكلمة هي ما تسير بها الي الأورجازم الحقيقي وقمته، وكان هو يتعجب انه يشعر بذات الشعور، كل توجهاتها طبقية، وهو نفس الماركسي القح، الذي مازال يعيش أوهامه العبيطة أنه سوف يجيء يوم يتحقق فيه عدل وعدالة، وينفر من صاحباتها الهوانم ويصفهن بأنهن حفيدات الشماشرجية من مسحوا أحذية فاروق، وهي تنام بين ذراعيه وتداعبه قائلة، برغم كل الاختلاف العقائدي ما بيننا، لكني أحب فيك كل بجاحتك الشعبية، ويهب هو واقفا يريد أن يعبر في حركات مسرحية عن أنه لا يفهم كيف يكون الانسان متحضرا بغير أن يكون ماركسيا، وتضمه هي اليها، وتقول له، تعرف ان اختلافنا هو كمالنا معا، لولا هذا ما اكتملنا، وتنهمر دموعها وهي تقول له، أرجوك لاتتركني أموت، لا أريد أن أموت وحيدة في سرير بارد تعيس، وكل ذلك يعذبه، فمنذ البداية هو قد حدد فترة مؤقتة في ضميره للعلاقة، قال عاما أو عامين، لا بأس، وسوف أهرب منها، لكنه الآن متورط في حزنها، كما هي متورطة معه بكل وحدتها وانهزامها.
يعرف أن كل القصص لا تكتمل في الحياة اللعينة، وأنه ما من قصة تطول حتي يكسرها حادث يجيء من مدن تشبه هذه المدينة الخرافية الهائلة الميتة، التي تحت كباريها ينام أطفال غرباء تعساء لا تقل هي ولا هو تعاسة عنهم، وراح يصفعها وتصفعه، وفي السرير تصالحا علي العالم الغريب التعيس كله بمقدار تعاستهما معا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.