كان خيري شلبي صارما في رفضه لكتابة سيرته الذاتية. كان يعتبر الكتابة عن الآخرين خيانة هو الذي كتب أكثر من ستمائة بورتريه عن ستمائة من هؤلاء "الآخرين"! في فن البورتريه كان يكتب عن "الجميل" بالمعني الفلسفي والفني في الإنسان، فلم تكن كتابته تلك تثقل ضميره بالذنب، حتي في الأوقات التي كان يبالغ فيها في تقدير جمال إنسان ما، أو في الأوقات التي كان يقر بجمال إنسان يبدو أنه بالنسبة لنا لا جمال فيه، ففي النهاية لم يكن بهذه المبالغة "يخون" هذا الإنسان، لم يكن يفضحه، لم يكن يقدمه لمحاكمة غيابية غير عادلة بالضرورة. أما في كتابة السيرة الذاتية فلن يكون من الممكن تحاشي الفضيحة، ولا تجنب محاكمة إنسان ما دون منحه نصيبه العادل في تقديم دفوعاته وحكاية حكايته. علاقته هو نفسه خيري شلبي بأبيه مثلا كانت فيما يبدو ، من بعض حوارات جرت بيننا علاقة مركبة، كانت موزعة بين المحبة والغضب، بين التقدير والشعور بالخذلان، لهذا كان تحاشي الكتابة عن الأب اختيارا نبيلا لشخص يُقدّر دائما أن للحقيقة أوجاً عدة وهو ما انعكس علي طريقته في التخييل التي كانت تميل للرواية متعددة الأصوات. كان يمكنه الكتابة عن علاقة شخصية خيالية ما بأب خيالي ما في رواية خيالية لكنه أبدا لم يكن بإمكانه حسب معاييره المخلصة للبشر وللحقيقة الكتابة عن علاقته هو المركبة بالأب في سياق كتابة السيرة الذاتية، لأنه وقتها كان سيتورط إما في خيانة الأب الذي لن يكون حاضرا للدفاع عن نفسه وإما في خيانة فن السيرة الذاتية التي كان يُعجب بكتابها البارزين وكتب مقالا مهما ممتدحا شجاعة كاتب كتينسي ويليامز مثلا علي فضح نفسه بنفسه. لهذا فإن كتابه الأخير أُنس الحبايب والذي تم تصنيفه من البعض باعتباره سيرة ذاتية متأخرة لم يُكتب الحقيقة كسيرة ذاتية أو بقصد التراجع عن موقف قديم بإزاء كتابة السيرة الذاتية، وإنما تمت كتابته علي سبيل استحضار الأنس الذي كان متواصلا عبر رحلة حياة بفضل أناس دفع بهم الله في طريقه لتوجيهه نحو قدره ككاتب. أحد فصول الكتاب حمل عنوان "عدلني علي السكة واختفي" عن رفيق كان يكتب القصة ويقرأها منح خيري شلبي بعض المجلات التي كانت تنشر القصة القصيرة وقتئذ وبعض كتب لكتاب مهمين في هذا الفن ثم اختفي من الحياة بعد أن أشعل خيال خيري الصبي. أناس يبدو أنه كشخص في طريقه للرحيل كان يرغب في إعلان امتنانه لهم، وفي توديعهم أيضا. لكل هذا أشعر بأني أُدفع للخيانة مع كل مناسبة تتم دعوتي فيها للكتابة عنه لاعتبارات المصاهرة كشخص وليس ككاتب، وهذا يحدث في كل مناسبة تقريبا، لأني وقتها أكون علي حافة التورط إما في خيانته بالكتابة عما لم تُسنح لي فرصة استئذانه في كتابته أو في ملء ثغرات كثيرة بخيال محض وإما في خيانة سيرته الذاتية التي أجاد دسها في إبداعه أو بالأحري التي حوّلها إلي إبداع. ولكل هذا أشعر بالامتنان حين تتم دعوتي للكتابة عن "أدب" خيري شلبي وليس عن شخصه، ففي النهاية هذه كتابة كان ليحبها أكثر.