أحيانا تكتشف مدى المحبة متأخرا، تعرف أنك تكن لفلان معزة كبيرة، لكن الأمر لا يشغلك، يرحل، فيكون الوجع مضاعفا ترى أنك لم تشبع منه، تلوم نفسك لأنه مات دون أن يعرف، لم تقل له يوما أنك تحبه. والحزن لذهاب خيرى شلبى ثقيل مثل الجبل، ليس فقط لكونه أحد أركان الثقافة العربية، فأعماله التى تجاوزت ال75 باقية، تختلف على أهمية بعضها، تتفق على بعض آخر، فى النهاية هى موجودة، لكنه حزن الفراق المفاجئ الذى انتاب الجميع. فراق كائن كبير، تختلف ذائقتك مع أعماله، ربما، لكنك لا تستطيع، عندما تأتى سيرته، ذكر اسمه إلا مصحوبا بالكاتب الكبير.
البعض قال إنه «أنخطف»، وآخرون أبتسموا وتمنوا لأنفسهم ميتة مثل ميتته. فالرجل كان يتحدث مع زوجته فى عادية مطلقة، أخذ نفسا عميقا وأراح جسده دون كلام، بهذه البساطة التى تمناها، لتكتمل حكاية البائع «السريح» الذى أصبح من أشهر الكّتاب، بعد حياة فى منتهى القسوة، وتجارب أكثر كما وكيفا من أن تحتويها سنوات عمره.
راح وترك الأصدقاء «يدقون الكفوف» بتعبير عبد الحكيم قاسم، لكنها دقات الدهشة والحزن، وليست دقات الفرح التى قصدها قاسم فى إحدى رسائله ...أجواء العزاء غير مدهشة، لم يخرج الناس من السرادق ليتحدثوا عن كثرة المعزين، وأختلاف شرائحهم الحياتية والعمرية، كان هذا متوقعا: كتاب، سينمائيين، تشكيليين، وناس عادية، من مختلف الأعمار والاتجاهات الفكرية، أشخاص ما كانوا ليجتمعوا إلا فى موقف كهذا، رفقة درب خيرى شلبى هنا ومن اختلفوا معه هناك، المشاركون فى ثورة يناير على يسارك ومن تبعوا النظام السابق على اليمين، الكل راح ذائبا فى نسيج العزاء.
ولم لا؟، وهو صاحب الحديث ذو المذاق الخاص، والحكى الحميمى البسيط الذى يشبه «حدوتة» شاعر ربابة جوال يحفظ القصص ويخلد الأبطال. كان مع مبدأ الكتابة عمن يعرفهم؛ لأن «هذه هى أفضل وسيلة تساعد الكاتب على فهم ذاته، ولكن عليه أن يواجه نفسه بوضوح، وأن يكون شجاعا بما يكفى للوقوف أمام نفسه فى المرآة والسخرية منها»، كان يزعجه أن شباب الكتّاب يفهمون الخيال بشكل خاطئ، «يتصورن أنك ستتخيل أشياء غير موجودة، وهذا خطأ؛ لأن القدرة على تصوير الواقع فى عمل روائى تعد أحد أنواع الخيال».
عندما رسم بورتريها بالكلمات لعدد من الشخصيات العامة اتهمه البعض بالمجاملة، خاصة أن وجوهه كان بينها أصحاب سلطة سياسية، لكنه لم يحسبها بهذه الطريقة: «لم أكن أريد شيئا من أحد»، يقولها عندما طرحت عليه الأمر يوما: «لكن المسألة كانت لها دوافع أخرى، حيث لاحظت أنه عندما تحضر سيرة شخص ما فى جلسات النميمة بين المثقفين، يتم الحديث عنه بشكل سيئ ووجدت بعضهم يتكلم بالسوء عن أشخاص يمثلون رموز الثقافة العربية، فتجد من يقول لك إن طه حسين كان عميلا، وأن رفاعة الطهطاوى خائن»، راح يتأمل الأشخاص، وبدأ يكتب عن الواحد منهم ليعرفه، وكأنه يشرّحه كى يتفهم مكوناته الداخلية: «فإذا بى أجد متعة كبيرة فى هذه الحالة، ووجدت أننى أبحث عما أفتقده فى نفسى من جمال عند الآخرين، أحيانا كنت أقرر الكتابة عن شخص ما، وأجهز المادة الخاصة به، وعندما أجلس وأمسك بالقلم أجدنى أكتب عن شخصٍ غيره».
اليوم التالى للعزاء، أيقظتنى مكالمة من الكاتب عبدالوهاب الأسوانى، هى المرة الثانية التى يهاتفنى فيها، الأولى كانت ليستفسر عن حقيقة ما قاله خيرى، صديق عمره، أثناء إعلان نتائج جوائز الدولة، عندما انفعل الأخير قائلا إن: «الواحد مصاب بالعار لأنه عضو فى لجنة يفوز فيها ناس متخلفين عقليا»، تأثر عبدالوهاب الأسوانى جدا، رغم أن صديقه لم يكن يقصده هو، لم يقتنع لأن صاحبه: «لم يقل باستثناء عبد الوهاب الأسوانى». وعرف صاحب «الوتد» بما حدث، فهاتفنى هو الآخر ليوضح أنه كان يعنى آخرين ممن فازوا بالجائزة دون حق، المكالمة الثانية من الأسوانى كانت مختلفة، قال باقتضاب: «يا ريته كان فضل عايش حتى لو شتمنى كل يوم، هو مكنش شخص مؤذى، الله يرحمه». اطمئن يا عم خيرى، فمحبة الأصدقاء أكبر من كل هذه المواقف.
فى الأيام الأخيرة انتابه قدر ملحوظ من الزهد، وجاءته أيضا دفقة صراحة، فيتحدث بوضوح عن رأيه فى المشهد النقدى المصرى، مثلا، وكيف أن المسألة أصبحت تخضع للمزاج الشخصى والمجاملات، «فتجد أحدهم ترك أربع أو خمس روايات جيدة صادرة قريبا، وكتب رؤيته حول رواية رديئة أو مغمورة، أو تجده يهمل الإنتاج المصرى لصالح أعمال عربية لكتاب لا تعرف عنهم شيئا، ونجد محررى بعض الصحف يكتبون عن كتاب غير مهمين، ويصفونهم بالكاتب الكبير، والأديب اللامع»، كان يرى أن سهولة النشر ساهمت فى هذا الفساد الأدبى، «فأصبح كل من يفك الخط باستطاعته أن ينشر عملا، ويجد بين أصدقائه من يجامله فى صحيفة أو مجلة، والمشكلة الأكبر أن شباب النقاد لن يتفتحوا بشكل محترم فى هذه الأجواء».
ورغم أن السرد الروائى كان ملعبه الحقيقى، وهمه الأساسى، لوحظ مؤخرا حديثه عن القصة القصيرة باعتبارها الأهم، وشبهها بالميزان الحقيقى لإثبات الموهبة، كان أمرا غريبا عليه، سألته وقتها مستفسرا، فكان رأيه أن الأدب العربى كله ابن القصة القصيرة، فهى قوام تاريخه، وأن الرواية تعد نوعا حديثا فى فنون السرد على المجتمع العربى، قال إنه، كمعظم أبناء جيله بدأ الكتابة قاصا، وله مجموعة قصصية كاملة غير منشورة، ثم وجد أن تجربته الخاصة تحتاج نوعا أكثر شمولا وتأنيا فى السرد من القصة التى تعتمد على لحظة زمنية خاطفة، فكانت أولى نصوصه الأدبية المنشورة رواية بعنوان «اللعب خارج الحلبة»، لم يرض عنها فنيا، لدرجة أنه أسقطها من حساباته، ولم يضمها لأعماله الكاملة عند صدورها، معتبرا روايته الثانية «السنيورة» هى البداية الحقيقية، بعد تطعيمها بخمس قصص من مجموعته المذكورة.
كان الرجل مهموما بما يكتبه فقط، لدرجة أنه عندما يتحول أحد أعماله الأدبية إلى دراما أو سينما لا يشغله مستوى التناول، يقول: «الأمر بالنسبة لى يشبه اتفاقى مع شخص جاء ليتزوج ابنتى، فطالما وافقت عليه كشخص لن أتدخل فى تفاصيل حياتهما معا، كذلك عندما يعمل المخرج والسيناريست على إحدى رواياتى، لا أهتم كثيرا بشكلها النهائى؛ لأننى مؤمن بأنه عندما تتحول الرواية أو القصة إلى عمل درامى تصبح شيئا شديد الاختلاف، ومن حق المخرج أن يقدم رؤيته الخاصة، وحتى فى الأعمال التى كتبت لها السيناريو كنت أترك مساحة كبيرة لتدخل المخرج، وأنا أعرف أن الذى أتصوره على الورق لن يتحقق بنسبة كبيرة»، يستعير عبارة نجيب محفوظ: «من يريد أن يحاسبنى ككاتب، فليحاسبنى على الرواية أو القصة المكتوبة».
فى منتصف 2009، نشرت «الشروق» معه حوارا، فجاء أحد تعليقات القراء يطالبه بكتابة سيرته الذاتية، «أطالب العبقرى خيرى شلبى أن يبدأ بكتابة قصة حياته لأننى أعلم جيدا أن حياته مليئة بالأحداث وصور الكفاح والجهاد والنحت فى الصخر، لكى يعطى عبرة للآخرين وخصوصا الشباب أن الإنسان إذا كان مسلحا بقوة العزيمة والإرادة وذخيرته هى الموهبة يستطيع أن يصل القمة مهما كانت العثرات والعقبات». وكان العم الكبير رافضا لكتابة السيرة، حيث إن كتابتها تحتاج إلى شعور صاحبها بأنه أنجز ما عليه فى الحياة، وأنه لن يقدم جديدا، إضافة إلى أنه: «حينما أفكر فى كتابة سيرتى أفاجأ بأن الإنسان لا يملك وحده سيرته الذاتية، وإنما يشاركه فيها أطراف عديدون، بداية من الأب والأم والمحيط الذى عاش فيه، ومدرسيه وجيرانه وأصدقائه وكل من عاشوا معه وتركوا فيه أثرا، كل هؤلاء أطراف لا يجب أن تغفلهم السيرة وإلا تكون كاذبة ومفتئتة على الحقيقة. كما أن أى كاتب سيرة لا يستطيع أن يضمن الموضوعية حين يكتب عن ذاته»، ولكن فوجئنا نهاية العام الماضى بأنه بدأ فى التحضير لفصولها، وصدرت قبل رحيله بأسابيع عن هيئة الكتاب، لم يأت فى الذهن وقتها أن المشوار انتهى، وأن صدورها كان واجبا لتتويجه، سمّاها «أُنس الحبايب»، حبايب عم خيرى صاحب الذاكرة النادرة، الذى كان يختزن أشعار الفؤادين، حداد وقاعود، لطالما رغب الأصدقاء فى التسجيل له وهو يتجلى فيلقى الأبيات من الذاكرة بالساعات دون انقطاع، فيبدو لك: «كأنه عايش أجيالا سابقة»، بوصف دقيق للناقد المعروف كمال رمزى: «يحدثك حديث العارف بعبدالله النديم وأحمد عرابى وقاسم أمين وسعد زغلول، متمتعا بروح شاب فى مقتبل العمر، مفعم بالأشواق والأمل، يتأمل الجوانب المضيئة فى الوقائع والبشر».
أغمض الأصدقاء أعينهم وفتحوها فلم يجدوا بينهم «خير»، وراحوا يتحسرون على أيام مضت ولن تعود.