ثمة ارتباط مُلفت بين شعار الدورة الحالية لمعرض القاهرة الدولي للكتاب "الثقافة والتجديد" وما شهدته اللقاءات الفكرية بالقاعة الرئيسية بمبني الصندوق الإجتماعي للتنمية، الأسبوع الماضي، من نقاشات محتدمة ومؤرقة حول ضرورية تجديد الخطاب الديني باعتباره الملف الشائك الذي يواجه الدولة المصرية حاليًا. "الإصلاح الديني ومستقبل الدين في السياق الإسلامي" كان محور "اللقاء الفكري" الذي أقامه الدكتور عبدالجواد ياسين مع جمهور المعرض، مقتربًا بل مقتحمًا للمناطق الشائكة في هذا الموضوع. بدأ "ياسين" محاضرته بتوضيح التناقضات التي حدثت في مراحل تاريخية مختلفة بين النظام الديني والإجتماعي والتي وصلت إلي مرحلة الصدام وانهزام أحد النظامين لصالح الآخر، إذ قال إن التناقضات التي تحدث بين النظام الديني والإجتماعي ترجع إلي جمود الديني بسبب طبيعتة المقدسه، وعلي النقيض من ذلك تطور وتقدم النظام الإجتماعي، مشيرًا إلي أنه في حال استمرار التطورات الاجتماعية دون التطور الجذري تكون ثمة سيطرة عليها من داخل آليات النظام الديني ولكن عندما تتغير بشكل جذري يحدث الصدام العنيف. وأضاف صاحب "الدين والتدين" أن النظام الديني التوحيدي لم يواجه تحولات جذرية في الهياكل الكلية قبل ظهور الحداثة التي أنتجت العالم الصناعي والعلم التجريبي، والتي خلقت صراعًا عنيفًا بين النظامين "الديني والاجتماعي" وقارن "ياسين" بين نموذج المسيحية في السياق التاريخي الغربي والإسلام في السياق الشرقي، إذ قال : في نهايات القرن التاسع عشر تخلي النظام الديني في الغرب عن هيبته التي كان يحتفظ بها ويرجع ذلك لتطور النظام الإجتماعي علي المستوي العقلي والإقتصادي، الأمر الذي أدي إلي انهزام صريح للنظام الديني والكنيسة، وكانت النتيجة الأكثر بروزًا هي العلمانية. أما بالنسبه للإسلام في السياق التاريخي الشرقي، فلم يحدث التناقض الكامل بين النظام الديني والإجتماعي حتي الآن، وذلك لأن النظام الإجتماعي لم يتغير بشكل جذري، فالهياكل الإجتماعية التي عليها الحالة الإسلامية الآن هي تقريبًا ذات الهياكل التي أفرزت النظام الديني في القرن الأول الهجري، ومن ثم لم تصل العلاقة بين النظامين "الديني والتاريخي" إلي مرحلة الصراع أو بالأحري مرحلة كسر العظام، بل هي الآن علاقة توتر، أنتجت تيارات الإسلام السياسي والتي أراها رد فعل استباقي من قبل النظام الديني أمام قانون التطور. وحاول "ياسين" أن يجيب علي السؤال الشائك "لماذا دائمًا ما تنتهي العلاقة بين النظامين "الديني والاجتماعي" بالصدام العنيف؟، قائلًا : النظام الديني ليس مرادفًا للدين بل هو من إنتاج التدين، أي الإجتماع. الدين هو المطلق الإلهي، القادم من خارج الإجتماع، وما كان يحدث تاريخيًا أن البشر كانون يضعوا مظاهرهم الإجتماعية تحت متن الدين في حقبة التأسيس الثانية ومن ثم أضيفت كتلة من الثقافة الإجتماعية للمطلق الإلهي، وأصبح النظام الديني يتكون من هذه الكتلة بالإضافة للمطلق الإلهي. وأوضح "ياسين" أن هذه الكتلة الثقافية أدت إلي إشكاليات ثلاث " التناقض مع قانون التطور، التناقض مع قانون التنوع، وإشكالية النص"، مشيرًا إلي أن النظام الديني لا يعترف بوجود كتلة ثقافية من إنتاج بشري في النص، ومن ثم تظل المشكلة قائمة دون إزاحة هذه الكتلة، التي تختبيء في جوف النص وتتحصن بقداسته- وفقًا لتعبيره. أراد الباحث الكبير أن يترك إجابة حاسمة في نهاية حديثه، عن السؤال الملح من جانب الكثيرين وهو "كيف يمكن تجديد الخطاب الديني؟" إذ قال : إن أي محاولة لتجديد الخطاب الديني دون الدخول بكل جرأة إلي قضية النص لإزاحة الكتلة الثقافية التي أضافها المجتمع البشري في حقبة تاريخية معينة، محكوم عليها بالفشل. زقزوق: مازلنا نعيش في الفكر الظلامي بينما كان الإمام محمد عبده- شخصية المعرض هذا العام- محور حديث وزير الأوقاف الأسبق الدكتور محمود حمدي زقزوق، إذ تحدث عن رائد التنوير والإصلاح في لقاءٍ فكري بعنوان "محمد عبده وعقلانية الخطاب الديني"، لكنه لم يكن لقاءً بالمعني المعروف، بل كانت محاضرة أكاديمية ألقاها زقزوق علي جمهور المعرض الذي أبدي اعتراضه علي عدم السماح له بالمشاركة في المناقشة حول فكر الإمام. استفاض "زقزوق" في استعراض السيرة الذاتية لمحمد عبده، مع بعض الإضاءات علي مشروعه الإصلاحي وكيفية الاستفاده منه في تجديد الخطاب الديني، إذ قال :اعتمد البرنامج الإصلاحي لمحمد عبده علي تمكين العقل، حيث كان يري أن العقل لابد أن يُمكن ولكن بعد أن نزيل العقبات من طريقه، والتي تتمثل في التقليد الأعمي،والثقافة السيئة، ويقصد بها الخرافات والأشياء التي لا منطق لها والتي تنتشر بيننا الآن ولا صلة لها لا بالعقل ولا المنطق. وقد أيد حجة الإسلام الشيخ الغزالي رحمه الله رؤي محمد عبده في هذا الشأن بقوله أن من يُقلد أعمي ولا خير فيه. وكان لزامًا علي الإمام محمد عبده بعد أن سار علي هذا الموروث أن يضع بديلًا، وكان بديل التقاليد والثقافة السيئة العلم النافع والقيم السمحة التي حلت محل هذا الغثاء". وتابع "زقزوق": كان الإمام يعيب علي فقهاء عصره، رجوعهم إلي كتب مضي عليها مئات السنين دون الإلتفات لتطورات الواقع المحيط ودون إعمال العقل. وعن واقع الخطاب الديني الآن، قال العالم الكبير إننالم نتزحزح كثيرًا عن هذا الفكر الظلامي الذي كان يرفضه الإمام محمد عبده حتي هذه اللحظة إلا في حالات معدودة منها علي سبيل المثال ما حدث مع الإمام المراغي وهو أحد تلاميذ محمد عبده والذي كان يشغل منصب شيخ الجامع الأزهر في عهد الملك فاروق، ووقتها تم تشكيل لجنة لوضع قانون الأحوال المدنية، وكانت اللجنة في حيرة بشأن التوفيق ما بين النصوص الدينية والقوانين المدنية. وهنا طمأنهم الشيخ المراغي بقوله: " ضعوا ما لا يتعارض مع مصالح العباد واتركوا لي التشريع الديني"، وقال مقولته المشهورة: "حيثما توجد مصلحة العباد فثم وجه الله" وأشار "زقزوق" إلي أن من يملأون الفضائيات الآن ويكفرون هذا ويحقرون من ذاك ويقولون أن هذا في الجنة وهذا في النار لا علاقة لهم بالإسلام، لكنهم المقلدون الذين يهتمون فقط بالشكل ( الجلباب واللحية) دون النظر إلي الجوهر. وفي نهاية اللقاء أكد أن الخلاص من أزمة الإسلام والحداثة لن تنتهي إلا بتجديد الفكر الديني وهذا يتطلب منا العودة إلي مقررات العقل السليم والبعد عن الأشياء غير المنطقية والخرافات، وكذلك البعد عن ثقافة الإرهاب الفكري التي يمارسها البعض الآن من منطلق أن من ليس معي فهو ضدي. المصادفة: الترجمة ستواجه كارثة حقيقية علي بعد خطوات من اللقاءات الفكرية، شهدت المائدة المستديرة التي تديرها رئيسة تحرير سلسلة الجوائز بالهيئة العامة للكتاب، الدكتورة سهير المصادفة، نقاشات حادة حول الأزمات والتحديات التي تواجه حركة الترجمة المصرية، لكن اللافت في المائدة، كان النقد العنيف الذي وجه للمؤسسات الثقافية والسلاسل المختلفة التي تقوم بالترجمة، والحديث عن العشوائية التي تحكم العملية ككل. "الترجمة عبر العصور" كانت أولي ندوات المائدة، أكد فيها الدكتور علي المنوفي، علي ضرورة هيكلة عملية الترجمة بمشاركة القطاع الخاص الذي يتمثل دوره في مكاتب الترجمة بصفة عامة. وأضاف "المنوفي" أن هناك مشاكل متعلقة بالترجمة تخص دور النشر التي لا تعامل المترجم معاملة حسنة فيما يتعلق بالأجر الذي يليق به ، مشيرًا إلي أن الدولة يغيب عنها وجود خطة عامة للترجمة بما في ذلك المركز القومي للترجمة، متابعًا : رغم وجود لجان علمية للدراسات الأدبية والانسانية إلا أنها لا تقوم بعمل خطة لترجمة عدد معين من الكتب في موضوعات محددة بلغات مختلفة وهي مشكلة سببها المترجمون . وركز "المنوفي" في حديثه علي مترجمي اللغة الإسبانية، إذ قال: إن معظم مترجمي الإسبانية متخصص في الدراسات الأدبية حيث اعتبروا أن كل مايكتب باللغة الإسبانية لا ينحصر إلا في الأدب ونسوا 500 مليون مواطن ينطقون الإسبانية ولهم انتاج فكري وفلسفي وفني واقتصادي نحن في حاجة شديدة إليه. وشهدت ندوة بعنوان"الترجمة .. تجارب مؤسسية ألمانيا نموذجا" حضورًا كبيرًا من جانب طلبة وطالبات كلية الألسن وقسم اللغة الألمانية في الجامعات المختلفة، تحدثت فيها الدكتورة أماني كمال سيد صالح، أستاذ الأدب الألماني والأدب المقارن والترجمة بقسم اللغة الألمانية بكلية الألسن جامعة عين شمس، عن تجربتها في مجال الترجمة وخصوصًا العمل المؤسسي الأخير الذي ترجمته بالتعاون مع المعهد الألماني للآثار بالقاهرة ووزارة الخارجية الألمانية والمدرسة الإنجيلية الألمانية إذ قامت بالاشتراك مع فريق عمل من قسم اللغة الألمانية بكلية الألسن العام الماضي، بترجمة ثلاثة كتب من الألمانية إلي العربية عن الحضارة المصرية القديمة.. وكذلك بردية متحف تورينو: علوم الخرائط والأرض ووصف التضاريس. فيما تطرقت الروائية الدكتورة سهير المصادفة إلي الحديث عن المعايير التي تحكم الترجمة من العربية للألمانية، مؤكدة أن العامل السياسي يلعب دورًا رئيسيًا فيما يتم اختياره من أعمال، وأن الألمان ينقلون إلي لغتهم ما يريدونه، وما يغذي نظرتهم السيئة عن الشرق، كما وجهت انتقادًا لأستاذ الجامعة التي تراه تخلي عن دوره منذ ثلاثة عقود مضت، وحذرت من أزمة ستعاني منها حركة الترجمة قريبًا وهي بحسب قولها- عدم وجود مترجمين جديرين بالقيام بعملية الترجمة، إذا لم يترك الكبار كتائب من المترجمين.