اختلف النقاد والمفكرون منذ القدم حول الأدوار التي يلعبها الأدب في حياتنا، ومنذ أن لخص أرسطو قيمة الأدب في قدرته علي إمتاع الإنسان وتعليمه to delight and to teach، وحتي يومنا هذا تنوعت أدوار الأدب لتشمل تسجيل الواقع، التحريض علي الفعل، كتابة التاريخ، الدفاع عن المقهورين، التغني بالطبيعة وغيرها من الأدوار التي تم التركيز عليها وتعظيم قيمتها من قبل الكتاب والنقاد علي مر العصور. وفي القرن الواحد والعشرين، ومع موجات ما بعد الحداثة، بلغ تشتت الإنسان ويأسه المدي مع سقوطه في فخ الاستهلاك وافتقاده إلي المعني والهدف. وبينما تعتري الأدب أمواج الصراع بين الأجيال والأجناس و بين الرجل والمرأة، وبينما ينعكس كل ذلك في أشكال أدبية مرهقة للنفس ومربكة للعقل وصاخبة- كما الحياة نفسها- يصبح من الضروري من آن إلي آخر أن نركن إلي شاطئ ما لبعض الوقت، وأن نختبئ قليلاً في مرفأ دافئ بين دفتي كتاب أو بين أحضان أم. تمتلك فوزية مهران الإنسانة والكاتبة تلك القدرة علي انتزاعك برفق من عالم مرعب صاخب الأمواج، تستطيع بكلماتها وأغنياتها أن تحملك وتحلق بك في روحانيات بديلة من خلال لغة شاعرية ساحرة، وثقة بالعدل والحق والخير تسطع في كل ما تكتب.لا تختفي الصراعات في أدب فوزية مهران، فهناك الحرب والفقد والثورة والألم والرغبة في تملك الآخر وإذلاله، إلا أن تلك الكاتبة الرقيقة تحمي قارئها بحنو شديد من وهج كل النيران، وتصعد به عالياً إلي عالم الروح، حيث الأمل والحياة والغد والتجدد والقدرة علي مواصلة الحياة. حتي الصراع بين الأجيال يتحول في أعمالها إلي تواصل فيعود الجد الراحل في صورة الحفيد "مزداد" أو "زياد" ليحيل الجدة إلي شابة صغيرة تولد معه من جديد: "اليوم يعود. . تحدث المعجزة. . و يورق الغد في دمي" (أغنية البحر 42) في عالم فوزية مهران لا يوجد صراع وجودي وجوبي للنوع الاجتماعي gender وإنما تتماهي الأدوار في يوتوبيا ممكنة: فتبني المهنسات مع العمال مدينة علي "صوت الآلات وزعق المعدات" ،ويحنو قلب الرجل ويفيض بالحب والرقة والمودة (أغنية البحر 13، 14). في "بيت الطالبات" تكشف فوزية مهران في لوحات متتالية مثل "الطرحة البيضاء" و "المسافة" عن حب التملك والسيطرة لدي الرجل الشرقي، إلا أنها تنتصر لا للنسوية التي تقصي الرجل وتنفيه، وإنما لتحرير كل من المرأة والرجل من فكرة الصراع المتوهم. في "المسافة" يرسم الكاتب الكبير علامة استفهام ليلخص لبطلة القصة الطالبة والكاتبة المبتدئة كيف يعجز عن فهم طموحها ورغبتها في التحقق، فترد عليه بأن ترسم علي نفس الورقة علامة تعجب معبرة بذلك عن دهشتها من عدم قدرته علي الفهم وهو "المفكر" الذي يروج لأفكار التحرر وحرية الإنسان. فإذا به يكشف عن رغبته في إفنائها بسؤال: "عندما أضع علامة تجمع الاستفهام والتعجب. . . فماذا تكون النتيجة؟" ترفض بطلة "المسافة" السؤال، وتجيب إجابة خارج ذلك السياق بأن ترسم "نغمة موسيقية. . نغمة وبجانبها نغمة أخري . . قد تكونان لحناً في النهاية"(103). ترفض "آمال" أن تفني في الآخر، إلا أنها تدرك ذكما تدرك مهران نفسها- عبثية الصراع كما يدور في الفكر النسوي المتطرف: "لم لا نكف عن هذا الصراع قبل أن يحطمنا أو يحول بيينا وبين الطريق! إننا نسير في درب واحد، . . لكن جئنا من زاوية مختلفة. . . لست أنت نهايتي. .ولست هدفي. . ."(104) تلخص فوزية مهران مشروعها في "قاموس البحر" قائلة: "عملي اكتشاف الكلمات . . وإحياء معانيها ونورها. . وخوض بحور الشعر والإبحار في جوف الكتب" وتستدرك: "مهمة صعبة تحيط بها نذر العاصفة. . ورياح السموم ومقاومة الغرق" (48). هي تعلم إذن ما يعتري مشروعها من مخاطر بعضها يتعلق بما قد يصيبها من يأس ككاتبة، والبعض الآخر يتصل بآلام الوطن أو علي الأقل باستقبال القراء لما تقدمه: تتساءل "آمال" والتي تعبر عن فوزية مهران الكاتبة الشابة في مستهل طريقها: "لماذا يجدها الناس غريبة عنهم وهي التي تبذر حبات قلبها من أجل حبهم والإيمان بهم؟"" (بيت الطالبات 33). إلا أن فوزية مهران تصبر وتثابر وتستمر في الكتابة التي تستحيل في حياتها إلي صلوات . . . إلي كتاب موقوت. . . في اتجاه قبلة ما تعرفها جيداً رغم ما يعتري حياتها أو تاريخ الوطن من أنواء. انظر إلي استخدامها لتعبير "إقامة الكلمات" في إحدي شهاداتها (سيدة البحر 8) حيث تقول: "تعلمت إقامة الكلمات". تقول في نفس الشهادة: "تجلت أمامي آية الظاهر والباطن وأن نكون في اتجاه الحقيقة دائماً". وكما يصلي الإنسان فتغسل صلاته ذنوبه كما النهر، تتشبث مهران بالكتابة كنوع من العلاج. "في الأيام الصعبة والعسيرة نتذكر الكتابة كطوق نجاة. . . أتذكر ما سأكتبه- القصة- الرؤية وبذلك يخف وقعها علي وأحيلها إلي تجربة" (سيدة البحر 9) تلعب كتابات فوزية مهران بشكل عام - وبدايتها "بيت الطالبات" بشكل خاص- دوراً يشبه دور جلسات العلاج النفسي أو محاضرات "التنمية البشرية" التي تساعد الشباب علي التغلب علي المشاعر السلبية كاليأس والخوف والكسل وعدم الثقة بالنفس. في لوحة تلو الأخري يتكرر انتصار الطالبات علي اختلاف شخصياتهن علي القهر والخوف والاكتئاب والكسل. ففي "لقاء إنسان" تلتقي البطلة بالنهر وبالرجل العجوز الحكيم فتتحول من اليأس إلي الأمل وهي تري "الزوارق البيضاء الصغيرة. . . والصياد العجوز فيها يندفع نحو رزق مجهول وهو يغني ويبتسم" (بيت الطالبات 52)، وتنتهي القصة أيضاً بالتحول نحو الحركة والحياة لتلتقي الكاتبة ويلتقي القارئ بالنهر في تناغم شديد. يتكرر النمط في "الخمر المنسكب": ففي هذه اللوحة الشاعرية تسجل فوزية مهران في تركيز شديد التحول من الهزيمة والانكسار إلي الاندماج في المجتمع واستمرار الحياة: "وغادرت الشرفة علي عجل. . . واندفعت نازلة إلي البنات. . . بين تلك المجموعة لابد أشعر بالحياة. . . ويستمد وجودي قدرة علي النمو والانتعاش" (57). ويعاود النمط الحضور مرة أخري في "الطرحة البيضاء" حيث تتحرر البطلة من الحجاب لا كرمز أو فرض ديني، وإنما كمعادل موضوعي لقهر الرجل وتملكه، وتنتهي القصة نهاية يختلط فيها الحلم بالواقع فتري إجلال نفسها و"كلب الحديقة الغامضة يقف علي السور ليفتك بها. . . وحسين يطلب منها أن تأتي. . .ويأتي بحركات مضحكة" (75) تتغلب إجلال- كزميلاتها في بيت الطالبات- علي النفس المقهورة وتنتصر للذات القوية المتحققة: "اغمض عينيك يا حسين طويلاً. . .لأنني سأنثر الذهب علي كتفي . . .وأنت تؤذيك دائماً الأضواء" (75) تتداخل الروحانيات والجماليات الفنية في أعمال فوزية مهران بل تكاد تتطابق ليصبح الروحاني شاعرياً بليغاً والأدبي محلقاً في الروحانيات. فالأعمال القصصية تتشح بلغة سامية وتدعو إلي سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة بينما الأعمال الدينية التي كتبتها تزهو بكل أشكال الجمال في اللغة والشعر. تصف الأديبة والناقدة كرمة سامي كتابات فوزية مهران قائلة: "هي كتابة تنهي عن ضعف القلوب وترجو رهافتها . . . استلهمتها فوزية مهران من حرصها علي "المعية الفائقة" ممدودة بأنوار القرآن الكريم في آية وبشري (1987) ومواقف قرآنية معاصرة (1990) ورب اجعل لي آية (1992)" (سيدة البحر 65). وبعيداً عن تلك الكتابات ذات الطابع الديني، وفي قصص فوزية مهران التي تحكي عن الواقع وتصور الحياة، تسمو الكاتبة بلغتها القصصية لتدثرها برداء مطعم بخيوط قرآنية مطهرة: فالسفينة في "فنار الاخوين" تقترب من الفنار " تطلبه حثيثاً" والزوج البحار في "كتاب البحر" يقول لزوجته "أري أنك لن تستطيعي معي صبراً" فترد عليه قائلة: "ستجدني إن شاء الله من الصابرين". وتتوالي التعبيرات القرآنية فتصف مهران الشجرة ب"الشجرة المباركة" التي "لا يبلغ منها الكبر"، وتسمي الأجيال "بنين وحفدة". إلا أن القرآن في هذه المجموعة وغيرها من أعمال مهران حاضراً ليس فقط كمجرد كنز للمفردات والتركيبات اللغوية، وإنما كمصدر وحي لما ينبغي أن تكون عليه النصوص علي الإطلاق "هدي للناس". فتحية إلي تلك الأم الرائعة، وشكراً علي ما قدمته للمكتبة العربية من أعمال أدبية متميزة تسمو بالروح وتبعث علي الأمل والعمل واستمرار العطاء. مهما علت الأمواج تقف سيدة البحر فوزية مهران مبتسمة وهادئة وصامدة، رافعة هامتها في مصرية أصيلة وممسكة ببوصلتها في ثقة ويقين، ومحتضنة قراءها في حنو ودفء. أعمالها الإبداعية ستظل دائماً مرفئاً دافأ نأوي إليه عندما يرتفع الموج وتهددنا عواصف الحياة بالغرق. أستاذ ورئيس قسم اللغة الإنجليزية بكلية البنات جامعة عين شمس