بالإنفوجراف.. الهجرة تسلط الضوء على مميزات وخدمات صندوق "حماية وتأمين المصريين بالخارج"    بدائل الثانوية العامة 2024.. شروط القبول بمدارس «القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي»    استقرار سعر الدولار مقابل الجنيه المصري خلال إجازة عيد الأضحى    شركات السياحة: لم نتلق أي شكاوى هذا الموسم من الحجاج    أسعار الخضراوات والفواكه اليوم الجمعة.. البطاطس ب 20 جنيهًا    بسرب من المسيرات الانقضاضية.. تفاصيل قصف حزب الله موقع رأس الناقورة البحري    كوريا الجنوبية تحث موسكو على وقف التعاون العسكري مع بيونج يانج    مجلة أمريكية تحذر إسرائيل: الحرب تأتي بنتائج عكسية وحماس تزداد قوة    معلق مباراة الزمالك وفاركو في الدوري المصري    تركي آل الشيخ يرصد 60 مليون دولار لكأس العالم للرياضات الإلكترونية    برلماني يطالب بتوقيع أقصى العقوبات على المتسببين في تعريض حياة الحجاج للخطر    غدا .. استئناف ماراثون الثانوية العامة 2024 بامتحان اللغة العربية    وفاة قائد سيارة بعد محاولته إنقاذ حياة مواطن في دمياط    إيرادات أفلام عيد الأضحى.. «ولاد رزق 3» يهيمن على الصدارة    «الداخلية» تُحرر 169 مخالفة للمحال غير الملتزمة بترشيد استهلاك الكهرباء    تقرير: هل ينتقل رابيو إلى ريال مدريد؟    إجراءات تعويض صاحب العقار الأثري وفقًا للقانون    بعد الإطاحة به من المنافسة.. خيبة أمل تصيب صناع الفن بعد تذيل أهل الكهف الإيرادات    إعلام فلسطينى: 21 شهيدا جراء الاستهداف المتواصل لمناطق متفرقة فى غزة فجر اليوم    بعد تسريبات حسام حبيب الأخيرة.. شقيق شيرين عبد الوهاب يعلن لجوئه للقضاء    وزارة المالية تستعد لإطلاق منظومة إلكترونية للمقاصة بين مستحقات المستثمرين ومديونياتهم    صرف 90% من مقررات سلع التموين عن شهر يونيو.. والمنافذ تعمل الجمعة حتى 9 مساءً    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من مسجد السيدة نفيسة    الاحتلال: نهاية الحرب بعد عملية رفح الفلسطينية.. وخفض قوات محور صلاح الدين    أحمد مات دفاعا عن ماله.. لص يقتل شابا رميًا بالرصاص في قنا    مدير آثار الكرنك: عقيدة المصري القديم تشير إلى وجود 3 أشكال رئيسية للشمس    أزهري يوضح أضلاع السعادة في الإسلام    "صدمة للجميع".. شوبير يكشف قرارا مفاجئا من الزمالك ضد محمد عواد    وزارة الصحة تفحص 454 ألف مولودا ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض الوراثية    استشاري نفسي يقدم روشتة للتخلص من اكتئاب الإجازة    في ذكري ميلاد عبد الحليم حافظ.. ناقد فني يوضح أبرز المحطات بحياة العندليب    موجة حر في الهند تودي بحياة 143 شخصا وتهدد بزيادة الحصيلة    أمين الفتوى محذرا من ظلم المرأة في المواريث: إثم كبير    رغم تذيله الإيرادات.. المخرج عمرو عرفة: فخور بإخراج فيلم أهل الكهف    ميسي بعد اجتياز عقبة كندا في كوبا أمريكا: الخطوة الأولى    طريقة عمل ميني بيتزا، سهلة ومناسبة لإفطار خفيف    وزير الإسكان: جار إنشاء الطريق الإقليمى الشرقى حول مدينة أسوان وتوسعة وتطوير كورنيش النيل الجديد    الصحة تنصح هؤلاء بإجراء تحاليل البول والدم كل 3 شهور    نماذج استرشادية لامتحان اللغة العربية لطلاب الثانوية العامة 2024    عاجل - انهيار جديد لجيش الاحتلال في غزة.. ماذا يحدث الآن؟    سلوفاكيا تطمع في استغلال محنة أوكرانيا بيورو 2024    إسقاط التهم عن طلاب بجامعة كولومبيا اعتقلوا في احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين    سيولة وانتظام حركة السيارات في القاهرة والجيزة.. النشرة المرورية    أسعار الأسماك اليوم 21 يونيو بسوق العبور    عاجل - "قطار بسرعة الصاروخ".. مواعيد وأسعار قطارات تالجو اليوم    توجيه سعودي عاجل بشأن رصد 40 حالة تسمم في جازان (تفاصيل)    اليوم.. الأوقاف تفتتح 5 مساجد في المحافظات    حلمي طولان يناشد الخطيب بطلب شخصي بخصوص مصطفى يونس.. تعرف على السبب    موقف الأهلي من المشاركة في بطولة كأس الأفروآسيوية    طقس اليوم شديد الحرارة على أغلب الأنحاء.. والعظمى بالقاهرة 38    ووكر: يجب أن نرفع القبعة للهدف الذي استقبله شباك منتخبنا إنجلترا    القس دوماديوس.. قصة كاهن أغضب الكنيسة ومنعه البابا من الظهور بالإعلام    تجار البشر.. ضحايا فريضة الحج أنموذجًا    أسامة قابيل يكشف حقيقة وجود أعمال سحرية على عرفات    البطريرك يلتقي عميد كلية اللاهوت بالجامعة الكاثوليكية في ليون    الحبس وغرامة مليون جنيه عقوبة الغش والتدليس للحصول على بطاقة ائتمان    القس دوماديوس يرد على الكنيسة القبطية: "ذهابى للدير وسام على صدرى"    تامر أمين عن وفاة الطفل «يحيى» بعد نشر صورته في الحج: «ربنا يكفينا شر العين» (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة الجامعة المصرية وإشكاليّة الخطاب المعرفي
نشر في أخبار الأدب يوم 03 - 01 - 2015


-1-
منذ اليوم الأول الذي وطِئَتْ فيه قدماي باب إحدي الجامعات العربية التي عملتُ فيها لسنوات، متنقِّلًا ببطء وتردّد بين مبانيها ودهاليزها المتشابهة إلي درجة المتاهة، تذكّرتُ علي الفور حكاية مدينة النحاس في (ألف ليلة وليلة)، وهي المدينة ذات الأبواب الكثيرة والسور العالي والقباب المتلألئة؛ مدينة المتاهة التي كان يتردّد في الدلوف إليها كل دالفٍ، ما لم ينطوِ علي رغبة عارمة في المعرفة. تقول شهرزاد: "في الليلة الثامنة والستين بعد الخمسمائة طلب الأمير موسي من الجنّي الذي في العمود لمّا حكي لهم حكايته من أولها إلي أن سُجِن في العمود، أن يخبره: أين الطريق الموصّلة إلي مدينة النحاس؟ فأشار الجنّي إلي طريق المدينة، وإذا بينهم وبينها خمسة وعشرون باباً لا يظهر منها باب واحد ولا يُعْرَف له أثر، وسورها كأنه قطعة من جبل أو حديد صُبَّ في قالب، فنزل القوم ونزل الأمير موسي والشيخ عبد الصمد، واجتهدوا أن يعرفوا لها باباً، ويجدوا لها سبيلاً، فلم يصلوا إلي ذلك". باختصار، لم يفلح أحد من أرباب الأمير موسي -كما تروي شهرزاد في حكايتها الشائقة- في اعتلاء سور المدينة والدخول إليها وفكّ طلاسم بواباتها العظيمة غير الشيخ عبد الصمد؛ لأنه كان الوحيد الذي ينطوي وعيه علي بذرة المعرفة الحقّة الممزوجة بالإيمان العميق، فقد كان عالمًا بالدين والجغرافيا واللغات والكيمياء والصحراء،.. وغيرها. لقد كان الشيخ عبد الصمد تمثيلًا سرديًّا دالًا علي فكرة الجامعة في ذاتها؛ أقصد إلي المعرفة المتنوّعة التي ينطوي صاحبها علي إيمان دفين بحقيقة الأشياء، دون أدني تمييز بين علوم الدنيا وعلوم الدين.
-2-
الجامعة، أية جامعة، هي ابنة المدينة الحديثة التي هي مدينة التعدّد والتسامح والمعرفة التي لا تحدّها حدود. لذا، فإن البنية المعمارية لأية جامعة حديثة، مثلما هو الشأن في عدد غير قليل من الجامعات العربية النّاهضة، وأخصّ بالذكر منها الجامعات المصرية الاستثمارية المتكاثرة في السنوات العشرين الأخيرة، لابد أن تنطوي هي الأخري علي الدلالات ذاتها، من تنوّع، وتسامح، واحترام للآخر، سواء المختلف في اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة. من هنا، لن يكون الفارقُ كبيرا بين تأمّل جذر كلمة "الجامعة" في اللغة العربية أو الإنجليزية. ففي العربية، تحيل الكلمة إلي فضاء يجمع عددًا لافتًا من طلاب المعرفة الوافدين من بلدان وثقافات شتّي، وعددًا متنوعا كذلك من المتخصّصين من أرباب المعارف والعلوم. والعلاقة بين "الجامعة" و"الجامع" علاقة الشمولية والقداسة معًا، سواء المرتبطة بالدين أو بالعلم. إنّ إطلاق اسم الحرم الجامعي ينسحب علي كل ما يتضمّنه الفضاء الداخلي من مكوّنات معمارية وتشكيلات هندسية يحيط بها سور الجامعة. والحَرَم لفظ مشتقّ من الحُرْمة التي لا تختلف عن حُرمة دور العبادة التي ينبغي أن نستحضر فيها قيمتي الجمال والجلال في آن. أما في الإنجليزية، فكلمة University مشتقة من كلمةUniverse التي تعني الكون الفسيح. وكلتا الدلالتين تحيل إلي ضرب من ضروب المعرفة المتصلة بفضاء الحرية والرحابة والاتساع، سواء في تلقّي العلم أو في تداوله بين مرتادي الجامعة والمُقبِلين عليها من كل صوب وحدب، أو في إنتاجه وابتكاره.
لا أتصوّر جامعةً من الجامعات، قديمةً كانت أو حديثةً، دون بحث علمي أو دون تأثير حقيقي في بنية المجتمع والثقافة التي تنتمي إليها هذه الجامعة أو تلك. فمن ناحية أولي، يجب أن تكون البنية المعمارية لأية جامعة حديثة بنية دالّة علي قيمة معرفية مؤدّاها أنها جامعة تسعي إلي إحداث حراك حقيقي في بنية هذا المجتمع العربي أو ذاك، وليست مؤسسة ربحيةً تهدف إلي التكسّب، ويجب أيضًا أن يكون هذا الدور واضحًا في شعار الجامعة المعلن الذي يمثّل أيقونةً معرفية تجسّد ملمحًا أو عنصرًا من عناصر هذه الثقافة أو تلك.
ومن ناحية مقابلة، يأتي دور الجامعة في التواصل مع مؤسسات المجتمع المدني، ووزارات الثقافة والتراث والإعلام والاقتصاد والزراعة والتجارة والتربية وغيرها، من أجل تكوين كوادر عربية تسهم في بناء المستقبل، وتضخّ في المجتمع علماء ومثقفين وكتّابًا وأدباء وإعلاميين وفنّانين ومعلّمين، وغير ذلك من عقول خلّاقة من شأنها الارتقاء به وتحقيق طموحاته التي ينهض عليها مفهوم "الدولة الحديثة".
-3-
عندما اكتشف الإنسان القديم الكتابة أدرك أنه قد امتلك سلاحا فتّاكا سوف ينتقل بالبشرية كلها من مستوي الضرورات إلي مستوي الحريّات؛ أي أنه سوف يخلّص الإنسان البائس من قيد اللهاث وراء المأكل والمشرب والملبس وكل ما له صلة بضرورات الحياة اليومية العابرة، لينتقل به إلي فضاء الحرية الرحب؛ حيث الإنسان هو الكائن الوحيد الناطق، والمفكّر، الذي من شأنه أن يبحث عمّا يعمُر كوكب الأرض ويجلب السعادة لذاته وللآخرين، عن طريق بحثه المستمر في ماهية التعليم والتربية والأخلاق والثقافة والفنون والآداب. ولذلك، لم تدّخر الحضارات القديمة (اليونانية، والهيروغليفية، والبابلية، والآشورية، والعربية،.. وغيرها) جهدًا في اكتشاف قيمة الكتابة وخطورة فعل التدوين الذي هَدَي الإنسان القديم إلي جدران الكهوف والمعابد وجلود الحيوانات وعظامها ولحاء الأشجار وسَعَفِها؛ من أجل تسجيل كل ما يعنّ له من أمور يراها جديرة بالحفظ في ذاكرة البشرية العريضة، سواء تمثّل ذلك في حفظ بعض المرويّات أو الأخبار أو المعارف أو المهارات أو النصائح أو الترانيم الدينية أو المخاوف أو التأمّلات في الكون وما وراء الطبيعة أو تصوير العالم الآخر والبحث في مصير الإنسان بعد الموت، .. إلخ.
إن مبدأ "الكوجيتو Cogito" الديكارتي (أنا أفكّر، إذن أنا موجود) هو ما جعل الوجود الإنساني والتفكير صِنْوَين متلازمين لا يحضر أحدهما إلا بحضور الآخر ولا يغيب إلا بغيابه. فالتفكير عملية منتظمة، متراكمة، لا تقف عند حد، ما دام في الإنسان قلبٌ ينبض بالحياة. وذلك هو المبدأ نفسه الذي انطلق منه طه حسين نفسه (صاحب أهم رسالة دكتوراة في الآداب في الربع الأول من القرن العشرين) عندما كتب كتابه الشائك (في الشعر الجاهلي- 1926م)، فأقام الدنيا ولم يقعدها، وكان ذلك تأكيدًا علي أحقية العقل العربي، في ذلك الزمان الباكر، في طرح الأسئلة الكبري التي بدأها، قبل طه حسين، العقاد والمازني بكتابهما (الديوان في الأدب والنقد- 1921م)، ومن بعدهم توالت سلسلة من النصوص والكتب الإشكالية التي حرّكت المياه الراكدة في مسار الدراسات الأدبية والنقدية والفكرية العربية، نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: (في الثقافة المصرية- 1955م) لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، (تجديد الفكر العربي- 1971م) لزكي نجيب محمود، (الثابت والمتحوّل: بحث في الاتّباع والإبداع عند العرب- 1973) لأدونيس، (نقد العقل العربي- 1982-1990م ) لمحمد عابد الجابري، فضلا عن دراسات كثيرة لمحمد أركون ونصر حامد أبو زيد، وغيرها من دراسات تقع في الدائرة نفسها التي سعت إلي خلخلة سكونية العقل العربي وألقت في مياهه الكثير من الأحجار والأفكار. لقد كانت مؤسسة الجامعة ومؤسسات المجتمع المدني (المؤسسة الثقافية، مؤسسة الأزهر الشريف والأوقاف، مؤسسة الصحافة والإعلام والمطبوعات،.. إلخ) في حالة جدل فكري خلاّق ارتقي بالثقافة المصرية والعربية درجاتٍ عظمي في سلّم التقدّم والاستنارة والحداثة.
-4-
ما أحوجنا -نحن العرب المعاصرين، خصوصا بعد موجات الربيع العربي المتتابعة، وما خلّفته من تداعيات سوف تبقي آثارها لسنوت مقبلة فيما أظنّ- إلي الفصل بين الميتافيزيقا والمعرفة، كحاجتنا المماثلة والملحّة إلي فضّ الاشتباك الزائف بين الخرافة والعلم، ونزع الرداء عن ديماجوجية الخطاب السياسي المستتر وراء عباءة الدين، ذلك الذي ينزع دائما إلي دغدغة مشاعر الجماهير الغاضبة هنا أو هناك. ولن يكون ذلك إلا في قاعات الدرس والمحاضرة أولًا، قبل شاشات الفضائيات ومحطّات الإذاعات وصفحات المجلات والصحف السيّارة وأحاديث المقاهي والمنتديات ودردشات مواقع التواصل الاجتماعي، وخلافه. ما أحوجنا إلي ردّ الاعتبار للأبستمولوجيا Epistemology (نظرية المعرفة) في محاضراتنا، ما من شأنه غرس قيمة احترام العلم في نفوسنا قبل نفوس أبنائنا وبناتنا من الأجيال المعاصرة، بل قبل أن تدهسنا جميعًا عجلة التاريخ الذي لا يرحم. وليست الأبستمولوجيا هنا مقصورةً علي علوم الدنيا فحسب، من طب وهندسة وزراعة واقتصاد وتجارة، وغيرها، بل علوم الدين أولي بذلك وأجدر؛ أعني ضرورة أن نفكّر في الدّين بوصفه عِلمًا قبل أن يكون موعظةً نشنّف بها الآذان أو خطابةً تستثير أفئدتنا أو بلاغةً منمّقة نطرب لها ونهزّ رءوسنا، أن ننتج خطابًا دينيًا وخطابًا سياسيًا وخطابًا إعلاميًا قائمًا علي أسس العلم ومبادئه التي هي مبادئ المنطق وسلطان العقل الذي يرفُدُ قيم الإنسانية الكبري، كالحق والخير والجمال والعدل والحقيقة والسلام ..إلخ.
-5-
لتكن نقطة البداية الحقيقية التي يمكن أن تمارسها الابستمولوجيا في حياتنا منطلقةً من تحليل دور هذا الثالوث الخطابي المتشابك (الدّين، السياسة، الإعلام) حتي نتمكّن من توجيه مستقبل ثقافتنا المصرية والعربية نحو قيم المعرفة الخلّاقة، قبل أن يجرفنا طوفان الغوغائية الجارف والتحزّب الممجوج وماكينات الكذب التي لا يعتريها الصّدأ أو العَطَب. ما أسمي الطموح، وما أثقل المهمّة الملقاة علي عاتق جامعاتنا المصرية التي أُصيبت بالشيخوخة خصوصًا في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، وما دأبت علي إنتاجه من رسائل جامعية لم نلمس تأثيرًا حقيقيًا لها في حياتنا اليومية. ليس ثمة مخرج، في ظنّي، من متاهة هذه الأزمة التي تشبه أزمة مرتادي مدينة النحاس سوي إدراك طبيعة الواقع العربي والعالمي المتغيّر المرهون بنظريات وطروحات ونماذج معرفية Paradigms هي بطبيعتها متغيّرة باطّرادٍ نعجز عن اللحاق به، في مجتمع عالمي لا يدين إلا للمعرفة، والمعرفة فقط.
باختصار، أن يكون إيماننا بالمعرفة مماثلًا لإيمان الشيخ عبد الصمد الذي كان أمثولةً حيةً جمعت بين عقل العالم المتمرّد علي نفسه ويقين الشيخ المطمئن ولوثة الفنان وحدس المتصوّف الذي لا يخطئ. عندئذ، سوف تنفتح لنا أبواب مدينة التقدّم علي مصاريعها، ندخل من أيّها نشاء.
الشيخ: "يا علماء مصر الأفاضل هل تعلمون أن 90٪ من الشعب المصري يقولون إن الله تعالي في كل مكان فهل الله تعالي المتنزه موجود معكم في دورة المياه، حاشا لله تعالي ؟ يا من تدعون إن الله تعالي في كل مكان أفيقوا من هذا الهبل وتوبوا إلي الله تعالي وأنيبوا وقولوا للناس إن الله تعالي مُنزه عن هذه الخزعبلات والأكاذيب".
يعكس هذا الرد في رأيي مدي التصاق الشيخ بحرفية النص، إذ استشهد بالآية: " إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوي علي العرش"، وبآيات أخري مشابهة، مشيرًا إلي أن معني الاستواء هو العلو والارتفاع، ليؤكد إن الله مكانه في السماء فقط. لم يفكر الشيخ في أن الطفل الصغير يتعلم في المدرسة ما هي السماء وتركيبها، وما هو الغلاف الجوي، وما الذي يوجد في الفضاء، وإنه ربما سافر من قبل علي متن طائرة، وإن الإجابة بعد هذا كله لن تقنعه بكل تأكيد.
الشيخ يستقبل تساؤلات القراء تحت عنوان "أنت تسأل والإسلام يجيب"، الإسلام في هذه الحال هو الشيخ الذي توحد توحدًا تامًا بالدين، وصار يتحدث باسمه، وبالتالي اكتسب لنفسه صفة القدسية والكمال وامتلاك الصواب، ولم تعد إجابته بمثابة اجتهاد شخصيّ بل هي رأي الإسلام ذاته، وذاك فعل من الخطورة بمكان، فناقد رأيه يصبح ببساطة معارضًا للإسلام، بما قد يوجب محاسبته ومعاقبته.
من منطلق مشابه، وفي معرض الرد علي وزير الثقافة بشأن أزمة "نوح"، أعلن أحد رجال الدين -وهو أستاذ للشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر- إن الأزهر يختص دون غيره بإبداء الرأي الشرعي في الأعمال الدينية، وإنه يرفض تجسيد الأنبياء، وفسر هذا الرفض قائلا: "إن النبيّ محمدا عليه الصلاة والسلام قال من رآني في المنام فقد رآني حقًا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي وهذا تأكيد بتحريم تجسيد الأنبياء". الحقيقة إن هذا الاستشهاد الذي اتخذه الشيخ دليلا وسندا في مواجهة الداعين لعرض الفيلم، ليستدعي التأني والتدقيق؛ فما من رابط ظاهر بينه وبين مسألة التجسيد، بل هو يثير من التساؤلات أكثر مما يقدم من إجابات؛ ما علاقة الشيطان بالأمر، وهل يجد الشيخ داعياً إلي تشبيه الممثلين بالشياطين قياسًا، ومن ثم ينظَر إلي منع الشيطان من التشبه بالرسول في الحديث المذكور، كدعوة واجبة التنفيذ إلي منع الفنانين من لعب أدوار شخصيات دينية يتم إدراجها في مرتبة القداسة؟
التفسير الآخر لرفض عملية التجسيد جاء من وكيل الأزهر، وهو مبني علي فكرة مكررة مؤداها أن الفنان القائم بتجسيد نبي لابد وأن يتصف بأخلاق لا غبار عليها، وهو أمر غير وارد الحدوث. لا يبدو هذا التفسير مقنعًا بالقدر الكافي، فالأنبياء أنفسهم ارتكب بعضهم أخطاءً ورجعوا عنها، وصفة الكمال ليست من صفات البشر، هذا غير إن المشاهد يدرك جيدًا أن ثمة فارقاً بين حياة الفنان الشخصية وبين الدور الذي يقدمه في الدراما.
علي كل حال، علق شيخ الأزهر نفسه علي مسألة تجسيد الرسل والأنبياء والعشرة المبشرين بالجنة؛ قائلا: "رأيُ الأزهر بخصوص حرمة تجسيدهم في الأعمال الفنية رأيٌ مدروسٌ من هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية، ولا يمكن لأحد أن تيصادر عليه رأيه في هذا الموضوع"، وذاك رد قاطع لا تلوح في الأفق إمكانية لمراجعته بأي شكل من الأشكال، لكن ماذا لو استخدم المبدع رموزًا مختلفة وتنويعات، وماذا لو قدم في عمله طائرة وعواصف مهلكة وعددًا من الناجيين لا يوجد سواهم علي الأرض، وأسمي البطل فتحي بدلا من نوح، وزعم إنها قصة من خياله، مثلما فعل روائيون كبار في أعمالهم ؟ إن المجال الإبداعي شديد المرونة، يحظي منتجه بمستويات عدة للتأويل والإدراك، بما يجعل ملاحقته بالعصا أمرًا غير منطقيّ بالمرة، وغير ذي فائدة أيضًا.
تفعيل سلطة المؤسسة الدينية
أكد شيخ الأزهر إن الأزهر لا يُمَثِّل سلطة دينية وإنه لا يُبدي رأيه تطوّعًا ولا يمنع تطوّعًا، ولا يصادر الفكر والإبداع، ولا يدرس الأعمال الفنية ابتداءً، بل يجيب عما يُسأل عنه، ويُصدِر فيه الرأيَ الشرعيّ. رغم هذه المُقَدِّمَة المُبَشِّرة، فالحقيقة إن سؤال الأزهر عن قبوله أو رفضه لعمل فنيّ، لا يكون في العادة إلا مُقَدِّمة وتمهيدًا لاتخاذ إجراء ما تجاه هذا العمل، إن معني إصدار الأزهر رأيًا سلبيا في عملٍ من الأعمال إنه سوف يُمنَعُ أو يُصَادر بشكل ما، بما يعني إن الأزهر يمارس سلطة الرقابة والمنع بشكل غير مباشر، أي عن طريق خطوة وسيطة.
لا يَتَضَمَّن قانون الأزهر -الصادر مطلع الستينيات- في نَصِّه ما يُجيز سلطة المنع لمَجْمَع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، لكن لائحته التنفيذية الصادرة في السبعينيات تحوي بندًا يشير إلي إن أحد واجبات المجمع، هي تَتَبُّع ما يتم نشره عن الإسلام في الداخل والخارج للانتفاع به أو مواجهته بالتصحيح والرد، ومن خلال هذا البند، وكما يذكر المؤرخ المصري صلاح عيسي في إحدي مقالاته؛ أنشئت إدارة للبحوث والنشر تُعني بفحص المؤلفات التي تتعرض إلي الدين الإسلامي وتُبدي الرأي فيها، وقد أصدرت الحكومة المصرية في عام 2004 قرارًا بمنح مجمع البحوث الإسلامية سلطة الضبطية القضائية، أي أصبح لرجال المَجْمَع حقّ مُصادرة أي كتاب يرون فيه تعديًا علي ما يوصف بكونه "معلوم من الدين بالضرورة"، فورًا ودون الرجوع لجهات أخري، حيث يعملون بتفويض مباشر من وزير العدل. ولأن الشيء بالشيء يُذكر؛ فقد حاز رجال وزارة الأوقاف مؤخرًا علي الضبطية القضائية فيما يتعلق بخطباء المساجد، وهي خطوة جديدة نحو ترسيخ السلطة الدينية في المجتمع، وإن كان البعض يراها قرارًا إيجابيًا تأخر كثيرًا، وكان من الواجب التبكير بإصداره كي يمكن السيطرة علي إشاعة الفكر المتطرف والحَدّ مِن تداعياته.
المثقف الخائف
ثمة تَحَفُّظٍ يبديه عددٌ مِن المثقفين والمبدعين تجاه الدفاع عن الحرية الفكرية بوجه عام، يفسره بعضهم بكونه إنحناءة خفيفة تسمح بعبور العاصفة، ويراه آخرون مناسبًا لمجتمع لايزال يتلمس طريقه نحو حرية حقيقية مسئولة، وبين هذا الرأي وذاك، وبين رأي آخر يتبني المواجهة الفكرية الصريحة ويراها سبيلا وحيدًا للنضج والتنوير، يظهر الانشقاق في قلب الجماعة الثقافية.
توجه عدد من المثقفين والفنانين لزيارة شيخ الأزهر منتصف العام الحالي، في محاولة لحل الأزمة الناشبة بين المؤسسة الدينية مِن ناحية والقائمين علي العملية الإبدعية والثقافية من ناحية أخري، وهي زيارة بدا إنها لم تؤت ثمارها بالقدر المرجو، فالأزهر ظل علي رأيه بعدم جواز عرض فيلم نوح، ورفضه لتجسيد الأنبياء وعدد من الشخصيات الدينية الأخري، وقد أبرز بعض الحضور بعد انتهاء اللقاء، تعليقًا لشيخ الأزهر علي عدم اقتناعه بمبدأ الفن للفن، وتأكيده علي إن الفن للمجتمع بحكم العادات والتقاليد: "أن الفن قيمة تخدم المجتمعات، ولا عبرة بمن يقول بنظرية الفن للفن"، ولا مفر هنا من القول بان تلك الرؤية قد تقود مباشرة إلي إصدار أحكام علي المنتج الإبداعي مِن خلال قانون الأخلاق، لا مِن خلال معايير الجمال والقبح الفنيّ، مما يؤدّي في النهاية إلي ولوج دائرة مغلقة يَصعُب الخروج منها.
تكتمل تلك الدائرة بمحاولة المثقف المُهَدَّد الهروب مِن سُلطة المنع الدينيّ وتنفذه، عن طريق إدارة نقاش ثُنائيّ علي أرضية الدين ذاته، وهو نقاش لا يتجاوز بطبيعة الحال بحث أسباب المنع، ودوافع الاتهام التي تطال المبدعين، ومحاولة تفنيدها. علي هذا قام عدد من أعضاء الوفد الذي زار شيخ الأزهر؛ لا بمطالبته بإعلان تفعيل وثيقة الحريات التي خرجت إلي النور من مؤسسة الأزهر في عام 2012، وبالامتناع عن ممارسة السلطة الدينية علي الأعمال الإبداعية بوجه عام، بل بإدارة حوار حول سبب تحريم التجسيد، والاستشهاد بالدول المُسلمة التي تبيحه، وبالأعمال الفنية السابقة التي أجيز عرضها، والتي جسدت شخصيات دينية مُحاطة بإطار التقديس، ومنها علي وجه التحديد فيلم الرسالة الذي يظهر فيه عم الرسول حمزة بن عبد المطلب.
وكما صدرت مقالات عدة تناقش فكرة التجسيد وما قد تجلبه من منافع وفوائد إيمانية، جاءت مقالات أخري لتُعَلِّق علي الجدل الدائر؛ مِن زاوية عدم تحريم الشريعة الإسلامية لتجسيد الأنبياء، وغيرهم مِن الخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة والصحابة وآل البيت، ولتعرض الأدلة والبراهين إثباتًا لموقفها، وقد أشارت إحدي هذه المقالات إلي إن الرأي القائل بالحرمانية هو رأي الفقهاء المحدثين، حيث لم تُعرَف السينما كما لم يُعرَف المسرح والتليفزيون علي عهد النبوة ولم يظهر أيهم إلا بعده بقرون، ما يعني غياب نصوص تقطع بالتحريم. هذه المقالة ذوهو الأهم في رأيي- ربأت بالأزهر عن أن يصبح نسخة مصرية من "هيئة تشخيص مصلحة النظام"، وهي هيئة ينص عليها الدستور الإيرانيّ لها سلطة الموافقة والاعتراض علي كل ما يصدر عن السلطتين التشريعية والتنفيذية من قوانين وقرارات. أظن أن الإشارة التي أوردتها المقالة بخصوص الهيئة الإيرانية، تصلح لأن تكون بداية لإطلاق دعوة للفصل بين سلطة رجال الدين والفعل الإبداعيّ في مصر. علي كلٍ، يظل الداعون لفض الاشتباك عازفين عن المطالبة الجذرية الواضحة بهذا الفصل.
رغم الاستنكار الذي أبداه مثقفون وفنانون في بعض المرات، أمام تَدَخُّل المؤسسة الدينية، وإعاقتها أعمالا إبداعية، أو مهاجمتها لمبدعين، فقد قاموا هم أنفسهم باستدعائها واستدعاء رموزها إلي باحتهم في مرات أخري، ويمكننا أن نذكر هنا إلي اعتصام وزارة الثقافة الشهير في النصف الثاني من عام ألفين وثلاثة عشر، حيث احتل أعضاء الجماعة الثقافية مبني وزارة الثقافة الكائن بالزمالك، احتجاجًا علي تعيين وزير مُنتَمٍ إلي جماعة الإخوان المسلمين، وقد أقاموا خلال اعتصامهم فعاليات فنية متعددة كانت بداية لتواصلهم مع الجماهير الموجودة في الشوارع، لكنهم في الوقت ذاته قدموا إلي الجماهير الأوسع التي تابعت تفاصيل وأحداث الاعتصام، خلطة بين الفكر والثقافة والإبداع الفنيّ من ناحية، والدين وشعائره من ناحية أخري، فأدوا الصلاة بإمامة شيخ أزهري في يوم الجمعة الموافق منتصف شهر يونيو في مقر الوزارة، كما ظهرت صورهم في الجرائد خلال الأيام التالية وهم جلوس إلي مائدة الاجتماعات بينما الشيخ المُعَمَّم علي رأسها، وكأنما يترأس المثقفين جميعاً ويقودهم، ويجود علي فعلهم بالمباركة.
عكست تلك الصورة انصياع المثقفين للوضع الذي جاءوا لرفضه والحيلولة دون وقوعه، فلم يتمكنوا مِن الفرار مِن مسألة خلط الدين بالفعل السياسيّ والفكريّ، بل أكدوها، وكأنما انتقل الخلاف من دائرة فصل الدين عن العملية الإبداعية، وانتهاج أسس موضوعية في اختيار القائمين علي مؤسسات الدولة الثقافية، إلي دائرة مَن مِننا الأكثر تَدَيُّنًا، أو: مَن الذي يفهم الدين بالطريق الصحيح.
أبرز هذا المشهد صورة المثقف الخائف، الذي يحاول استمالة المجتمع إلي جانبه، وجذب الآخرين إلي صفه؛ لا عن طريق الدفاع عن قضيته التي يؤمن بعدالتها من خلال خطابه الخاص، بل عن طريق استخدام الدين كغطاء شرعيّ، يُوَفِّر له الحماية ويُعطيه المظهر التقليديّ المقبول، ويُجَنِّبُه أي تشكك أو ارتياب، ويجعل السواد الأعظم من المجتمع راضيًا عنه. هكذا اختلط الخطاب الإبداعي بالخطاب الديني، لكن تلك لم تكن المشكلة الوحيدة، فباستحضار المؤسسة الدينية إلي المشهد، أعطي المثقف الخائف لها حق التدخل في إبداعه وتوجيهه، وأظهر عدم قدرته منفردًا علي مواجهة المجتمع واكتساب تأييده. ربما جاء الأمر تتويجًا لضعف الثقة والعجز المُزمِن عن الفعل، وربما جاء أيضًا نتيجة لثقافة تكاد تكون سائدة في المجتمع بأكمله؛ هي ثقافة الاستسهال، والبحث عن أقصر الطرق وأسرعها في الوصول إلي الهدف، بغض النظر عن العواقب والتبعات.
كل هذا الازدراء
طالت تهمة ازدراء الأديان ألواناً وأطيافاً من الناس في الآونة الأخيرة دون أن تقتصر علي الفنانين والمثقفين، فهناك معلمون ومعلمات يعملون في مدارس شمال مصر وجنوبها؛ اتهموا أيضًا بازدراء الدين، وحوكموا ونالوا عقوبات بالحبس. موجهوا تهم الازدراء في أغلب الأحوال ينتمون إلي تيارات دينية متعددة، ينخرط بعضهم في كيانات لها صفة مؤسسية، ولا يمثل البعض الآخر سوي جماعات غير رسمية الطابع.
نسبة المبدعين داخل هذه التيارات منخفضة، والأسباب تبدو متعددة. بعض الجماعات الدينية تنظر إلي الفن بعين الازدراء، وكثير من صنوف الإبداع يتم تحريمها بفتاوي واجتهادات، وإن لم تكن مُحَرِّمُة فهي علي الأقل مكروهة أو غير محببة، إذ تُري مِن منظور الأشياء التي تُلهي عن الدين والذكر. تصبح العبادة في هذا الإطار الفكريّ هي الأكثر فائدة للفرد والمجتمع، وبالتالي فمبدع ينتمي إلي تيار دينيّ لا يمكن أ
ن يلقي الترحيب في محيطه، حتي وإن امتلك الموهبة.
سبب آخر هو حال الخوف التي تلعب دورًا في تثبيط الميول الإبداعية، الخوف مِن التفكير خارج أطر معينة، الخوف مِن تجاوز الحدود، الخوف مِن طرح التساؤلات التي قد تراود كل شخص عن الحياة والوجود، الخوف مِن إطلاق الخيال الذي يقود دوماً إلي جديد غير مألوف، وبينما يغرد المبدع خارج السرب، يشاكس المجتمع وقد يصدم بعض فئاته أو جماعاته، فإن هذا التغريد لا يبدو متاحًا في ظل ثقافة دينية صارمة، تضع القواعد والحدود للجميع، وترفض التمرد وتتململ من إثارة التساؤلات التي قد تبدو محرجة في كثير من الأحايين. لا يسهل دمج المبدع في هذا السياق وإلا ما صار مبدعًا ولا مختلفًا.
في إطار محاولات التوفيق بين الدين ومتطلبات الإبداع؛ تَشَكَّلَت فِرقٌ مسرحية مكونة من الرجال حصرًا، وكذلك فرق إنشاد لا تحوي نساءً، وأفلام تكتفي بالممثلين دون الممثلات، برز بعضها في فترة الحكم الإخواني، بينما كان البعض الآخر أقدم ظهورًا. أذكر واقعة قريبة الحدوث، قام فيها فريق من فرق الكورال بتغيير كلمات أغنية من أغنيات الراحل عبد الحليم حافظ، ليشدو أعضاؤه: "قدر ثابت الخطي" بدلا من "قدر أحمق الخطي". حظي الفريق بإشادة حماسية مِن كتاب وصحافيين يرفعون لواء الدين، كونه استلهم روح ثورة يناير، وصَحَّحَ أخطاء "الجاهلية" السابقة عليها. علي كل حال، تأتي هذه المحاولات وفي خلفيتها هاجس من التوتر والخوف من الوقوع في المعصية، وبالتالي تعوزها التلقائية المستمدة مِن واقع الحال، تبدو مُفَتَعَلة مُصطَنَعة، كما لو كانت مزروعة في صوبة، لا يمكنها أن تتنفس وتنمو بعيداً عنها، تبدو أيضًا غير صالحة لمخاطبة آخر؛ يعيش وينمو في هواء طلق.
الحراك الثوري والسلطة الدينية
الأزمات ما بين الفعل الإبداعي والسلطة الدينية كائنة منذ زمن بعيد، والملفت للانتباه إنها أزمات متشابهة؛ ما قبل ثورة يناير وما بعدها. ربما كان هناك توقع بأن تخلخل الثورة العلاقة السلطوية التي تمارسها المؤسسة الدينية علي الإبداع، وأن تقوض بعض دعائمها خاصة مع التخلص من السلطة الأبوية العليا المتمثلة في الحاكم (مبارك)، ومع التمرد علي السلطة الأبوية الشبيهة الممثلة في شيخ الأزهر وبابا الكنيسة الأرثوذوكسية وعصيان رغباتهما الخاصة بالكف عن الاحتجاج في وجه السلطة.
لم يتحقق التَوَقُّع بعد ثورة يناير، لم تَكُفّ السلطة الدينية يدها عن المنتج الإبداعي، بل ربما تزايد انخراطها شيئًا فشيء في محاولة السيطرة عليه والتحكم فيه من خلال فرض معاييرها الخاصة، ومن خلال إعادة طرح مصطلحات وتعبيرات من قبيل "الفن الهادف" و"رسالة الفن الإيجابية"، وتُضاف إليها أفكار حول قيم المجتمع وثوابته وخطوطه الحمراء التي لا ينبغي تجاوزها، وجميعها تعبيرات وأفكار نسبية ومتغيرة، تم تجاوزها لصالح العملية الإبداعية منذ زمن.
لم يجلب إذن سقوط نظام الحكم الدينيّ الذي حاولت جماعة الإخوان المسلمين إرساءه علي مدار عام ، إلا مزيدًا مِن محاولات فرض السيطرة التي تقوم بها المؤسسة الدينية الرسمية، ورغم نفور نسبة كبيرة مِن الأشخاص العاديين مِن استخدام جماعة الإخوان للدين واستغلاله في إضفاء المشروعية علي حكمها، إلا إن هذا لم يكن سببًا كافيًا لنبذ تَدَخُّل الدين في المسائل غير الدينية كالفن مثلا؛ بقي التَدَخُّل مَقبولا بل ومُبَاَركًا في مرات، وهو أمر يدعو إلي إعادة النظر والتقييم.
إن عدم إحراز أي تقدم فيما يتعلق بفصل العملية الإبداعية عن الإطار الديني بعد الحراك الثوري الذي بدأ في يناير عام 2011، ليمكن اعتباره مؤشرًا علي صدق الرأي القائل بإن الثورة لم تفعل سوي إزاحة الرأس بينما بقي الجسم قويًا فاعلا؛ أي بقي النظام السُلطَويّ المستبد قائمًا، ومعه بقيت أوجه السلطة المختلفة راسخة معافاة، ومنها السلطة الدينية المتغلغلة في مختلف مناحي الحياة.
أخيرًا: السلطة الدينية المتوجسة
مع غياب الحجة المقنعة، لا يزال السؤال مطروحًا حول إصرار المؤسسة الدينية علي عدم عرض فيلم "نوح" وما في حكمه من أعمال، تري ما الذي يخيف الأزهر في مسألة التجسيد علي وجه التحديد ؟ بناء علي الآراء التي عرضها شيوخ وأساتذة وعلماء دين، فإن الخوف الرئيس يأتي مِن إمكانية خلط بعض المشاهدين بين أفعال وسلوكيات الفنان الخاصة، ومثيلتها لدي الشخصية الدينية التي يؤديها، ومِن ثَمّ يسفر التناقض بينهما عن اضمحلال الهالة المقدسة المسبوغة علي الشخصية الدينية، وانهيار الصورة المثالية المرسومة لها في أذهان العامة.
ثمة خوف إذن مِن تداعي المنظومة القائمة علي استلهام مآثر النموذج المثالي الذي كان منذ قرون، وهي منظومة تَحثّ علي الاقتداء بسير أشخاص مقدسين، لا سبيل لإسباغ صفات البشر العاديين عليهم، وتُحَفِّزُ علي اتباع نهجهم كطريق إلي الفوز بالدنيا والآخرة، ومِنها يَستَمِدُّ بعضُ رجال الدين قوة معنوية وفي بعض الأحيان سلطة فعلية، وتنسحب عليهم بعض الصفات المثالية ويوضعون في مرتبة خاصة بين الشخصيات المقدسة وهؤلاء العاديين. يبدو إنه في حال أنسنة المُقَدَّسين، والاعتراف بكونهم بشرًا مثل جميع البشر، فإن جزءً مِن قوة المنظومة يتلاشي، ومعه تتراجع قدرة رجال الدين علي السيطرة.ختامًا؛ تبقي محاولات المنع والتحريم قاصرة عن تحقيق مآربها في عصرنا هذا، فما من عوائق يمكنها أن تصمد أمام التطور السريع، وعلي الجانب الآخر، لا أظن إن مخاوف المؤسسة الدينية قد تتحقق في القريب أو البعيد، فهؤلاء المؤمنين لن تُزَلِزلهم أفلامًا ولا روايات، واللا مؤمنين لا يقفون في انتظار العروض الإبداعية أو دواوين الشِعر لتؤكد لهم قناعاتهم وأفكارهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.