بدا السينمائي الألماني فولكر شلوندورف راضيا في تلك اللحظة التي أسماها لحظة "منحة إلهية"، والتي وقف فيها أمام الجمهور الباريسي -الذي ملأ قاعة MK2 Beaubourg- ليقدّم لأوّل مرّة فيلمه الجديد القديم "بعل" BAAL، الذي صوّره للتلفزيون الألماني(ألمانياالغربية) سنة 1969، وانتظر لأكثر من أربعين سنة ليُعرض في قاعات السينما، وتحديدا في القاعات الفرنسية خلال هذه الأيام. بعد فشل فيلم "مايكل كولاس" الذي أخرجه سنة 1969، رغب السينمائي الشاب في خوض تجربة المسرح، معتمدا علي نص "بعل" للمسرحي الألماني برتولت بريشت، والذي اختاره لأنه "يقول بوضوح ما يختلج في وجدان جيل ما بعد الحرب". وحين أُغلقت أبواب المسرحيين في وجهه، كما ذكر في النقاش الذي تلا عرض الفيلم، قرر شلوندورف معالجة النص سينمائيا في تجربة فريدة وشخصية. "بعل" أوّل نص مسرحي كتبه بريشت سنة 1918، وهو نص ما بعد الحرب بامتياز، ظلّ بريشت يعيد صياغته حتي قبيل وفاته سنة 1955 يتناول النص شخصية "بعل"، الشاعر الغنائي، العبقري في شِعره الذي يُطرَب له العمال والبسطاء في البارات الرخيصة، علي حدّ سواء مع المجتمع المخملي الذي يسخر منه بعل ويتعامل معه بسوقية تستفزّه وتزعزع قناعاته. الشاعر الكسول والمؤذي، "الذي يكسر الأشياء ليعرف كيف هي مصنوعة من الداخل"، والذي يُعاني من شراهة "قاتلة" اتجاه النساء تحديدا الأجساد البيضاء، والكحول تحديدا "الشنابس" المحلّي، والطبيعة تحديدا السماء حين يكون لونها بنفسجيا، ورائحة الحليب التي تأخذه إلي ثدي أمه الذي لو مكث فيه، لما عاش صراعاته مع الوجود. يكتب بريشت: حين كان بعل يكبر في ثدي أمّه، السماء كانت كبيرة جدّا، هادئة وجدّ شاحبة وشابّة وعارية وغريبة بشكل رائع و كما أحبّها بعل، حين ظهر. وحين تعفّن في سواد الأرض السماء كانت لا تزال كبيرة جدّا، وهادئة وجدّ شاحبة وشابّة وعارية وغريبة بشكل رائع وكما أحبّها بعل، حين كان بعل موجودا. لا يغيّر شلوندورف كلمة واحدة في نص بريشت، ولا حتي ترتيب المَشاهد ولا تفاصيلها، ليصبح النص المسرحي هو السيناريو في حدّ ذاته، حتي أنّ المُشاهد يعتقد لأوّل وهلة أن الفيلم لا يعدو أن يكون اتكاءً كاملا عليه، أو بالأحري تصويرا لمسرحية تُعرض علي خشبة في مسرح مفتوح، ما يؤكّد خلفية الرغبة المسرحية أثناء تصويره. غير أنّ قارئ النص البريشتي يُدرك صعوبة تحويل الشخصيات الغارقة في الشِعرية، سواء من خلال الحوارات أو الحالات الوجدانية المعقّدة، إلي شخصيات حقيقية من لحم ودم علي الشاشة، شخصيات نصدّق بسهولة وجودها في هذا العالم، وانسجامها معه علي غرابتها، شخصيات لا تستعير تلك النبرة المسرحية تحديدا النبرة البريشتية أثناء إلقاء الحوارات التي تشكّل نصا شعريا طويلا، إنما تجد لها نبرة خاصة توائم بين خفوت نبرة اللغة السينمائية وحدّة نص بريشت الذي كتبه للعرض المسرحي. وهذا ما نجح فيه فولكر شلوندورف وحرص عليه، تحديدا حين اختار السينمائي الكبير راينر فاسبينر الذي لم يدخل حينها مرحلة مجده بعد- لتمثيل دور بعل، والممثل سيجي غرو لتمثيل دور صديقه "ايكارت"، والممثلة مارجريت فون تروتا التي مثّلت دور"صوفيا" والتي قال عنها شلوندورف أنّه وقع في حبها أثناء التصوير. صُوّر الفيلم في مدينة ميونيخ بعد أسبوعين من التحضير رفقة الممثلين، خُلقت فيهما تلك الألفة بين فريق العمل، وذلك الانسجام، الذي كان يبشّر بنجاح ما علي حد تعبير شلوندورف، وفي بلاتوهات حقيقية خارجية وداخلية، غالبا ما اختارها المخرج دون تخطيط مسبق كما ذكر. في النقاش الذي تلا العرض، تحدّث شلوندورف عن اعتراض أرملة بريشت علي عرض الفيلم، وكيف أنّها لم تُعجب بالمعالجة السينمائية، قائلة: "لا يكفي وضع سيجارة في الفم، وارتداء جاكيت جلدي أسود ليشبه أحدهم بريشت"، معلِّقة بهذه العبارة علي أداء فاسبيندر لدور بعل. كما أشارت إلي المرارة التي تشوب عرض الفيلم بعد كل هذه السنوات، كون عرضه قبل أكثر من أربعين سنة كان سيغيّر حتما مصائر الذين شاركوا فيه ومصيره الشخصي. في سؤال عن فلسفة الفوضوية التي يطرحها بريشت من خلال شخصية بعل وهل إذا كان الفيلم بدوره فوضويا، أجاب شلوندورف أنه لا يعرف تحديدا معني كلمة فوضوية ولا يعرف إن كان فيلمه فوضويا أم لا، غير أنه يعرف الهشاشة، هشاشة بعل التي كان يخفيها تحت قناع القسوة والأذي، الهشاشة التي تجسّدت في مشهد موته وحيدا وتحت لعنة الحطّابين، الذين رثي بعل أحدهم حين مات تحت سنديانة وقعت عليه قائلا: له سلامه ولنا قلقنا. الاثنان جيّدان. السماء سوداء. الأشجار ترتعش. في مكان ما سحب تتورّم. بعد هذه السنوات الطويلة، لا يتخيّل شلوندورف أنّه كان بإمكانه إيجاد حلول مسرحية لهذا النص، ويري أنّ السينما كانت في كلّ الأحوال الحل الوحيد لبعل. "بعل الذي لديه سماء كثيرة تحت جفنه، حتي، ميّتا، لا يزال لديه شيء من السماء وبالقدر الكافي."