الدخول لعالم الفنان خاصة التشكيلي المتخصص في الرسوم المتحركة صاحب الأفكار المنطلقة الحاملة لرسائل وفكر معقد وعميق، ليس سهلا .. في وسط مصر الجديدة حيث التاريخ الخاص والمميز يعيش أحد أهم فناني الرسوم المتحركة والفنان المصري الوحيد الذي استطاع الوصول لقلعة الرسوم المتحركة العالمية والت ديزني، أيضا شركة dream works والمشاركة في صناعة أحد أبرز أيقوناتها الفنية وهو فيلم Prince of Egypt، الفنان هاني المصري وبحسب ما وصف به حياته يعيش كما الأقزام، في شارع هاديء من شوارع مصر الجديدة وبإضاءته المنخفضة كما هو الحال بكل شوارع العاصمة، يعيش "المصري" في الدور المنخفض للمنزل الذي يبدو للوهلة الأولي مهجورا، إلا من المنحوتات المتناثرة في أرجاء بهو المنزل، وبالنزول علي سلم ضيق قليلا تصل لباب "المصري" مفتوحا ويقف في استقبالك بابتسامة تختفي حدودها تحت اللحية والشارب الكث، لكن بريق عينيه المرحب لن يخطئه الزائر. كان اللون البني هو الغالب علي الجو العام للمنزل المكتظ بالتفاصيل المرتبة بعشوائية، حيث اهتمامه الواضح بكل ما هو من الطبيعة ومن خامة الخشب تحديدا، في حديقته التي هي أقرب للغابة أو المحمية الطبيعية أكثر جلسنا لنبدأ حوارنا حول حياته ومسيرته الفنية التي ذهبت به إلي ديزني ثم أعادته مرة أخري لمصر، سؤال عابر سألته وهو : أخبارك؟ .. جاءت إجابته صادمة نوعا فكانت : أخباري أنني أتحول من الرسام والمصمم إلي الكاتب! .. السبب في ذلك هو محاولته الوصول لأكبر عدد من الناس، لأن أعماله الفنية هي تصميمات تطبيقية وتستخدم للحياة اليومية والتي لا يستطيع من خلالها إيصال أفكاره التي يريدها. ما طبيعة الأفكار المهتم بتوصيلها عبر الكتابة للناس؟ هناك الكثير كالأمل والصمود والكفاح وأخري أكبر كمناقشات في التاريخ ومحاولة أن نفهم ما نعيشه بكل تفاصيله الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لماذا نعيشه، فنحن كأشخاص لم نتغير من حوالي 300 ألف عام، خاصة وأن ما حدث في العشرة آلاف سنة الأخيرة أكثر مما في الثلاثمائة السابقة عليهم، أما ما حدث في الألف عام الأخيرة أكثر مما حدث في العشرة آلاف، وما حدث في القرن الماضي أكثر مما حدث في الألف سنة، أما ماحدث في العشر سنوات الأخيرة أكثر مما حدث في القرن كله! .. فتغيرنا التكنولوجي تغير مرعب، فلو رسمنا رسما بيانيا سنجد أننا نسير بشكل أفقي ليتغير الخط فجأة ويصبح رأسي! يري "المصري" أن الإنسان قد ضل طريقه عن إنسانيته من فترة طويلة، ما جعله يعيش في عزلة اختيارية وصومعته التي صنعها لنفسه، حرصا منه علي روح ومبدأ التأمل والبحث الذي يعيشه، بعيدا عن أية تفاصيل قد تفصله عن عالمه هذا، في الوقت الذي يعمل فيه علي إعطاء الشباب من خبرته التي اكتسبها في عمله وحياته، إضافة لوجوده في فترة غنية في مصر بأحداثها المتباينة لطرح الأفكار وتنوعها والبحث عن الأفضل. يري "المصري" أن ثورة مصر لا تزال في بدايتها وقد تفشل ويتم تصحيحها بثورة أخري كما حدث مع فرنسا التي تعيش جمهوريتها الخامسة الآن، و هو ما يجب علي العقول أن تفكر فيه جيدا وتحسب له جيدا أيضا. في اعادته لقراءة رواية "البؤساء" بلغتها الفرنسية تأكد "المصري" أن الناس لم تتغير، فبالرغم من فارق السنوات إلا أن مصر والمصريين يعيشون نفس حالة الفرنسية وقت سقوط ثورتهم بعد هزيمة نابليون بكل تفاصيلها، ما جعل المصري يتوصل إلي أن الناس فعليا لا تقرأ التاريخ بالتالي المعظم عديمي الثقافة، ما تسبب أن الشعب المصري علي سبيل المثال يعود إلي الوراء. تساءل المصري عن غياب الفنون والثقافة وحالة ثرية فكريا وتنويريا كانت تعيشها مصر حتي الستينيات، ليذهب كل هذا سريعا، هنا يظهر التساؤل حول أسباب هذه الحالة الثرية فكريا وفنيا رغم ضعف الأدوات علي عكس إتاحة كل الأدوات الآن إنما الثقافة والفن غائبين، يعزو المصري هذا التناقض بين الفترتين إلي عبودية الإنسان للتكنولوجيا الآن التي أصبح منساقا وراءها وليس العكس، ما جعله قد ضل طريقه عن أهدافه الحقيقية، إنما ليس معني ذلك أنه يحاول إعادة العجلة للوراء إنما يري أنه علينا أن نضع التكنولوجيا في إطارها الصحيح. بدأت علاقة المصري بالفن من نعومة أظافره، كان والديه من هواة الرسم والتصوير، لكنه قرر أن يكون الفن مهنته بعد مناقشة حادة بينه وبين والده لشراء "جينز" الذي أنهي المناقشة بكلمة: طول ما انا باصرف عليك تلبس اللي انا عايزه ولما تشتغل وتصرف علي نفسك إلبس اللي انت عايزه، كان هنا قرار "المصري " بالنزول لسوق العمل كمصمم وأصبح معروفا رغم أنه مراهقا صغيرا يبلغ خمسة عشر عاما وأصبح يكسب كثيرا وعاش كما أراد أن يعيش ويرتدي ما يريده. "الفن هو من اختارني" ... مرحلة السفر إلي أمريكا أواخر عام 1986 سافر إلي أمريكا، وكان متخبطا في البداية بحثا عن عمل مناسب، قضي واسرته يوما مع أسرة صديقه الطبيب المهاجر لأمريكا منذ فترة طويلة، وأثناء سيرهما معا نصحه صديقه باستغلال قدراته المتنوعة في إجادة اللغات وذكائه للعمل في أي شيء آخر غير الفن، فما كان من المصري سوي أن سأله: هل تذكر متي قررت أن تكون طبيبا؟ .. أجابه : أكيد أتذكر فهو يوم لا ينسي .. فسأله: هل تذكر متي قررت أنا أن أكون فنانا؟ .. سكت برهة ثم أجابه: لا .. فجميعنا منذ الصغر نعرف أنك فنان.. رد عليه "المصري" و دموعه منهمرة علي وجنتيه قائلا: هذه هي الفكرة .. الفن اختارني ولم اختره أنا... بالتالي غير مسموح لأحد أن يحدثني مرة أخري في ذلك. يستكمل "المصري" قائلا: لم أندم يوما علي هذه الكلمة، ولم أندم يوما علي ممارستي للفن، وكأنني مصاب بلعنة الفن، ثم بدأت رحلة التحدي للعمل بوالت ديزني من خلال إعلان يطلب رسامين للعمل بديزني بولاية فلوريدا، أرسل سيرته الذاتية وصور اعماله مصورة slide بالبريد العادي، فلم يكن وقتها قد ظهر البريد الإليكتروني بعد، وبعد 15 يوما استلم خطابا من ديزني يشكرونه ويعتذرون عن قبوله هذه المرة، وهو ما أدهشه وجعله يقرأ الرسالة أكثر من مرة، ولأن "المصري" يرفض أن يقال له " لا " قرر أن يبحث عن سبب الرفض، ثقة منه في كفاءته الفنية وقدرته علي الإضافة لمؤسسة ديزني، من أرقام الهواتف المرفقة في نهاية الرسالة اتصل وطلب أن يحادث الراسلة ليسألها "المصري" عن سبب الرفض، عللت ذلك بأنه لم يرسل لهم أي من شخصيات ديزني مرسومة، أجابها بأنه يعرف أنهم لا يسمحون بسهولة بأن يرسم احد شخصيات ديزني لحقوق الملكية، فطلبت منه أن يرسم ويقدم لها ماذا سيفعل بهذه الشخصيات. بالفعلن رسم المصري لوحة كبيرة بها 60 شخصية من شخصيات ديزني، كلهم يمشون في مظاهرة حاملين أدوات "المصري" وأرسلها لديزني، لكنه فوجيء برغم إبداء الإعجاب الشديد باللوحة لكنه رفض للمرة الثانية من المدير التنفيذي، صانع البراويز اليهودي كنت صديقا لأشهر صانع براويز في نيوجيرسي وهو يهودي الديانة لكن لا علاقة له بالصهيونية وكان يحبني جدا و دائما ما يساعدني في ايجاد عمل مناسب، في مارس 1990 مررت عليه بمحله وأعطاني ورقة صغيرة من جريدة وقال لي : افتحها حين تصل لمنزلك، وابتسم ابتسامة خفيفة ذات معني، مما أثار فضولي وفتحتها بمجرد خروجي من المحل وعبوري للشارع، لأجد أن تطلب رسامين للعمل لديها والمقابلة غدا و بعد غد Imagineering بنيويورك، قررت ألا أذهب سوي بعد غد بحيث أكون قد أعددت ما سأقدمه، بالفعل ذهبت مبكرا لأكون في المجموعة الثانية من المقابلة وعند خروجي كان الطابور قد ملأ السلم والتف حول الفندق ! للصدفة قابلت إحدي الموظفات بالشركة لا أعلم بالضبط ماهية وظيفتها، انبهرت حين رأت رسوماتي واخذتها سريعا للجنة مرة اخري وسمعت صوت الانبهار واعطتني موعد خاص في اليوم التالي، بالفعل اتيت في الميعاد بالضبط وقابلت من ستصبح مديرتي فيما بعد وأخبرتني بأنه يجدر بي الانتقال إلي لوس انجلوس لأنه سيتم اختباري بعدة اختبارات أخري، بالفعل في أول مايو كانت اختبارات عديدة ومتنوعة في كل شيء، وبعدها بيومين تلقيت خبر قبولي للعمل وأرسلوا لي تذكرة الطيران وشركة نقلت أشيائي.. انتقلت لكاليفورنيا وبدأت المغامرة الحقيقية. مغامرة والت ديزني يستكمل المصري حديثه بمنتهي الحيوية وكأنه يعايش هذه الأحداث كما هي بطزاجة تفاصيلها، ويصف Imagineering بأنها خلية نحل والتي قضي فيها ست سنوات، و وصفهم بأنهم من أجمل سنواته المهنية رغم معاناته من بعض المشاكل والتي تركزت في العنصرية، في البداية ظننت أنها عنصرية الدين، لكن المفاجأة أنها عنصرية اللون، كان المصري هو أغمق لون بشرة بالشركة ما جعل معظم زملائه لا يتعاملون معه خارج نطاق المناقشات في الاجتماعات! مرحلة "أمير مصر" مع فيلم "أمير مصر" في مقتبل عام 1995 بدأت علاقة "المصري" مع dream works، وهو عام تأسيس الشركة و أعلنوا أن بدايتهم ستكون بإعادة فيلم "الوصايا العشر" بأسلوب التحريك، هنا قرر المصري ألا ينفذ هذا الفيلم بدونه، وعليه تواصل مع المنتجين بالفيلم واتفقوا معه علي موعد للمقابلة خاصة وأن سمعته الفنية تسبقه، أثناء المقابلة أخبروه بأن المناصب الهامة قد تم توزيعها، كان علي المصري ان يفكر سريعا في مدخل آخر وبالفعل جاءته الفكرة سريعا وسألهم: هل تعرفون شكل باليتة المصري القديم؟ .. أجابوا: لا .. سألهم : هل تعرفون شكل اسلحة الجيش المصري القديم؟ .. هل تعرفون شكل الأواني ؟ ما هي قوانين رسم الجداريات بالمعابد؟ ... كانت الإجابة واحدة وهي "لا"، فما كان من "المصري" إلا أخذ أشيائه وقال لهم: وتريدون أن تنفذوا الفيلم بدوني! .. حظا سعيدا.. بادرته سريعا إحدي المنتجات للفيلم وسألته: متي يمكن أن تبدأ معنا؟ .. فاختار عيد ميلاد إحدي صديقاته وكان 13 نوفمبر ليتصادف وأنه نفس عيد ميلاد هذه المنتجة التي ابتهجت لهذا الاختيار، و بالفعل قدم استقالته من Imagineering ليبدأ في فيلم Prince of Egypt، وكانت مغامرة من نوع جديد تماما، فهو المصري الوحيد في تنفيذ فيلم عن مصر وينتجه مجموعة من الصهاينة! ... كانت مهمة "المصري" هي "التطوير البصري" وهو عمل مرهق للغاية لمسئوليته الجسيمة، لأنه مسئول عن خلق البصمة المميزة والروح للفيلم، خاصة وأن المصري كان يعلمهم أيضا كيفية تنفيذ ذلك علي مدار الثلاث سنوات التي قضاها والتي قد أرهقته بشدة، فكانت الجملة السائدة في الاستديو أن "الجميع يعمل علي الأمير وهاني المصري يعمل علي مصر"، ما دعاه لإنهاء العمل معهم بعد الانتهاء من الفيلم وقبل نزوله السينما بأيام قلائل وقد شارك معهم أيضا بفيلمين آخرين، وعمل في مشاريع فنية متفرقة، من ضمنها عمل في فيلم smoothes Jones لاستديو Warner Brothers ، وكان يجتهد في أن تتبني أحد الاستديوهات إنتاج فيلم عن ألف ليلة وليلة لكن أحداث سبتمبر حالت دون إنجاح المشروع، و انتهت مغامرات هاني المصري الأمريكية في 2005 ليعود بعدها ويستقر في مصر. سألته ما السبب في عدم استثماره لعلاقاته وخبرته في إقامة استديو رسوم متحركة علي مستوي الاستديوهات الكبري التي عمل بها في مصر.. ما هي صعوبة تنفيذ ذلك؟ .. كانت إجابته أن الصعوبة في ذلك بسيطة جدا! .. أردف: بساطتها في وضوحها ، أولا بالرغم من أن طلبة الفنون بعضهم موهوب لكن دراستهم متواضعة، لأن دراسة الفن في مصر سقطت منذ سبعينيات القرن الماضي، كذلك وصول التيارات الدينية لكليات الفنون كان له أثر سلبي، أيضا هناك تخصصات متعددة ومتنوعة ودقيقة مرتبطة بالرسوم المتحركة فقط وليس فرع آخر من الفن البصري، وهو ما ليس متوافر في مصر! واستكمل المصري قائلا: طبعا هناك الكثيرون في مصر ممن يحملونني فوق طاقتي، لأنني عملت في أكبر استديوهات العالم عليّ أن أريهم وأعطيهم، وهو ما لا أفهمه، فما وصلت إليه نتيجة دراسة ومثابرة واجتهاد وبحث وثقافة ودفعت مقابل ذلك من حياتي الشخصية والزوجية التي دمرت، هذا ما فعلته في حياتي. من أكثر ما أزعج الفنان هاني المصري هو تغير المصريين الكامل كشعب فقد قدرته علي النكتة واستعداده للتنوع وسعة الصدر في استقباله للآخرن ووصف ذلك قائلا: زي ما يكون جه علينا جاز!