اختار محمد إبراهيم مبروك أن يسير في كل الطرق الصعبة، وربما الطرق التي لا تفضي في النهاية إلي شيء. كان أمامه اختيارات أخري، لكنه نبذها منتصرًا لتصوراته عن الفن، ومخلصًا لهذه التصورات حتي ولو لم يقتنع بها أحد. لهذا توقف عن الكتابة بعد مجموعته الوحيدة "عطشي لماء البحر"، وهي مجموعة استثنائية في القص العربي، لا تفارق الواقع فحسب، بل وتزدريه لصالح ما يسميه خورخي لويس بورخس ب "الخبرة الجمالية". رهان مبروك علي قارئ متميز لا ينتظر من النص إلا الجمال، ورهانه علي ناقد خبير يضع كتابته في مكانها، كان رهانًا خاسرًا، أدركه، بحسب مبروك نفسه، "بعد أن لاقت تجاهلًا كبيرًا"، لا يًفسر إلا بالتطرف المجتمعي والثقافي أحادي الذائقة الفنية. لكن الأزمة التي واجهها مبروك بعد كتابه الأول ليست فقط في تلقيه، بل أيضًا في كيف يمكن أن يمد خيط العالم الذي بناه علي آخره. كيف يمكن أن تتوالد هذه الكتابة في طرق أخري. واجه مبروك أزمة التجريب، التجريب المتطرف، أزمة الوصول إلي نقطة لا يمكن الوصول بعدها لشيء، والرجوع عنها غير مأمون العواقب. هذه الأزمة واجهها كُتّاب آخرون، مثل المكسيكي خوان رولفو بعد روايته "بدرو بارامو" وباتريك زوسكيند بعد رواية "العطر" والكاتب الستيني محمد حافظ رجب الذي بلغ معه التجريب الفني ذروته ثم ما لبث أن أدرك أنه علي حافة الصمت الكتابي، فغيّر اتجاهه في سكة القصة التقليدية التي لم يستطع أن يبدع فيها. زوسكيند ورولفو هما "العطر" و"بدرو بارامو"، ما عدا ذلك أعمالًا أضعف فنيًا. من هنا كان التوقف عن الكتابة، في ظني، إجباريًا. لم يفلت من لعنة الانتصار للفن الصافي والتجريب المطلق من الأسماء المؤثرة في الفن إلا بورخس، فما بين العوالم التجريدية وتأليف التاريخ وجد مخرجًا، غير أن هذا المخرج لم يكن متسعًا لكتابة رواية. ورغم أن الغرب تلقي كتابة بورخس بترحيب، فهي الكتابة التي حركت الماء في البرك الأوروبية الراقدة، إلا أن ذلك لم يكن ليصبح شفيعًا له لو لم يعثر علي طرق أخري يحكي بها حكاياته دون التنازل عن الشروط الفنية الصارمة التي وضعها لنفسه، وأهمها عدم الاقتراب من الواقع اليومي. وإن كانت له قصص واقعية قليلة وممتعة، وقصص أخري اعتمدت الحبكة البوليسية كتبها مع ابن بلده بيوي كاسارس. في المرات الكثيرة التي تحدثت مع مبروك عن توقفه عن الكتابة كان يقول بشكل قاطع "معنديش حاجة أقولها". لكنني أظن أنه لم يجد الطريقة، لم يعثر علي الشكل، لأن مبروك كان دائمًا لديه ما يقوله. من هنا، كان اتجاهه إلي الترجمة كبديل عن الكتابة. البحث في أصوات الآخرين عما يريد قوله. الاختفاء كمبدع في زي مترجم. من هنا خسرنا مبدعًا كبيرًا لنكسب مترجمًا فريدًا، فريدًا في اختياراته وصياغته، قادرًا علي النبش في الثقافة اللاتينية ليخرج لنا بأعمال غير معتادة. سألني مبروك منذ سنوات عن الكاتبة والقاصة "أمبارو دابيلا"، قلت لا أعرفها، فابتسم بفرحة طفل وأخبرني أنها قاصة متميزة وأنه ينوي ترجمتها. عندما قمت بعمل سيرش باسمها اكتشفت أهميتها في الأدب اللاتيني، وقرأت بعض قصصها، ومع ظهور الترجمة العربية ل "حين تقطعت الأوصال" و"أشجار متحجرة" انتبهت للمجهود الضخم الذي قام به مبروك لنقل أسلوب الكاتبة وإيقاعها وصورها وتعبيراتها، بما لا يخل بجماليات اللغة العربية التي تختلف بطبيعة الحال عن جماليات الإسبانية. لم يتعامل مبروك مع الترجمة كوسيلة لكسب الرزق، رغم أنها مهنة مرهقة، بقدر ما اهتم بأن يقدم للقارئ العربي ما يراه جديرًا بالقراءة وتربية ذوق فني وجمالي، كان يريد، ربما، أن يساعد في خلق قارئ يقدّر الأعمال التي تغرد بعيدًا عن السرب، والذي يقدّر التجريب حتي لو كان متطرفًا ولا ينتصر إلا للجمالية الخالصة.