وضعت كوب الشاي علي إفريز البلكونة، كنت قرفان، وقفت أطل علي الشارع الضيق، زيكو ابن ياسمين يخبط الكرة الجلد في الجدار المقابل بلا توقف، وأمه تطل من شباك الكشك والموبايل علي أذنها وبعد كل خبطة كرة تضحك ضحكة عالية، انتهت ظاهرة السيدات والفتيات اللائي يقفن في الشرفات، سادت ثقافة غلق الشبابيك وأبواب البلكونات، تزعق زوجتي من الداخل: الذباب ملأ الشقة، لكنني أحب الجلوس في البلكونة ويشغلني هذه الأيام جاري فايز. لم أعد أراه إلا نادراً. مرة كان متكوماً علي نفسه في حضن الكرسي، ظللت أراقبه لوقت طويل حتي حرك ذراعه ووضعه علي الإفريز، ومرة نسي الشباك الذي يطل علي الصالة مفتوحاً وتسني لي أن أراه نائماً علي مكتبه كأنه في غيبوبة، يومها أخذت أنادي بصوت عال: يا أستاذ فايز. انتهت زوجتي إلي اني جننت، لكن بعد ساعات لاحظت أنه أضاء مصابيح الصالة، حط في يقيني أنه سيموت وعليّ مراقبته، نحن لسنا أصدقاء، حاولت التقرب إليه لكنه كان يعاملني كأنه بطل الفيلم وأنا كومبارس، في هذه الأيام الأخيرة ما يشعرني بالأسي أنني أسمعه أكثر من مرة يبكي بصوت مرتفع ويشهق ثم يسكت تماماً ظللت أتابع حياته بالمصابيح التي تضاء وتطفأ، وأترقبه حتي أراه بعد أيام وهو يدلي "السبت" من الطابق الرابع، يمسك بالحبل الرفيع ويجد صعوبة بالغة في تفادي كل حبال الغسيل حتي يصل السبت إلي يديي ياسمين التي تضع بحرص بعض الأكياس البيضاء الصغيرة، ذات مرة لم يستطع فايز أن يشد السبت فصعدت ياسمين ونزلت بعد نصف ساعة، لما لمحت لها بالكلام وأنا أشتري علبة سجائر أدمعت ومسحت أنفها في طرف الإيشارب وقالت إن حاله عدم ومريض ويسألها دائماً "ألم يأت رفيق للشارع"، وتقول ياسمين وهي لا تكف عن البكاء كل مرة يهمس "شوف لي رفيق"، أشعلتُ سيجارة واستغربت، في مرة أخيرة قالت إنها عندما دخلت شقة الأستاذ فايز وجدت الموبايل مبعثراً علي الأرض، وحين حاولت لمه صرخ فايز: اتركيه.. موبايل ابن كلب لا يجد رفيق". فعلاً.. رفيق.. رفيق.. هذا العجوز لم أره ربما من شهور. كان العجوزان في حالة بهجة دائمة، ورفيق يملأ الشارع بضحكنه العالية المجلجلة، التي كانت تستفز زوجتي أحياناً، هذا العجوز أين أختفي؟ الأستاذ رفيق كان لا يلبس البدلة، في الشتاء يرتدي الجاكت الشيك وتحت إبطه المجلات والكتب والجرائد، وفي يده شنطة الخضار، وعندما يراه الواقف في الطابق الرابع يتمايل كراقص في سرور، ويوم البطيخة كان مشهوداً، إلتف الرجال والسيدات والعيال حول رفيق الذي جلس أرضاً علي عتبة البوابة ووضع البطيخة أمامه، وبعد شجار كوميدي مع فايز، كنت في مكاني بالبلكونة، وفايز يضحك ويضرب كفاً بكف، قال لي: شايف.. جاء بالبطيخة ويرفض الصعود بها. ورفيق يقول للمتحلقين حوله: لا أستطيع الصعود للطابق الرابع بالبطيخة. يضحك رفيق ضحكته المجلجلة وينفي بإصبعه: لن أصعد. وحين تدخل شاب بكلية الطب وتطوع أن يطلع بالبطيخة فوق، رفض رفيق، وأصر، وقال: ينزل.. تعبت من البطيخة.. ينزل. وحين نزل فايز كان بيده سكينة، خطفها الولد زيكو ورشقها في بطن البطيخة وقطعها، وتم توزيعها علي المتحلقيين، حتي الشاب بالطب كان سعيداً وهو ينحت القشرة، والعيال يملون أفواههم بالبذر ويطلقونه علي بعضهم، وضحك الجميع، حتي رأيت رفيق بعد منتصف الليل جالساً يشرب الشاي في بلكونة فايز وكان الجميع يشغل راديو الموبايل الذي سمعته واضحا وفيروز تغني "جايب لي سلام.. عصفور الجناين". آخر مرة رأيت فيها رفيق كان من شهور، في وقت الأصيل خرج من البوابة، برجله عرج خفيف، مشي بضعة أمتار ثم توقف ونظر لأعلي، للطابق الرابع، لحظتها نظرتُ للطابق الرابع حيث يقف فايز، عيناه مشدودتان لرفيقه، لم يبتسم، لكن به لهفة، رفع يده بثقل ولوح لرفيق وكان مايزال رافعاً رأسه لأعلي، ورفع يده لوح له كثيراً. هذا المشهد لم يكن مشهداً معتاداً في توديع أحدهما للآخر، زمان كنت أري رفيق يخرج من البوابة بخفة طائر، يتقافز مابين الحفر الصغيرة أو بين الماء المسكوب، ولم يكن رفيق ينظر لأعلي ليودع صديقه ولم يكن فايز يرقبه من البلكونة، ذات مرة قابلت رفيق في الشارع، سلمت عليه، انحني وسلم بأدب كأننا أصدقاء، أكثر من مرة تلعثم في اسمي، لكنني أحب العجوزين وأحب مداعبتهما، بعد أن سلم عليّ، سألته بعشم: كيف حال الأستاذ فايز. أجابني وضحكته تسبق كلامه: زي القرد . لكن.. في ذلك اليوم الأخير ظل فايز يطل علي رفيقه بأسي، لا أعرف كيف شعرت بهذا الأسي، ابتسم رفيق ومشي ببطء، انسحب فايز لداخل الشقة في بطء أيضاً، وحين اختفي فايز، وقف رفيق تماماً في منتصف الشارع الضيق قبل كشك ياسمين، وأخذ يطل علي بلكونة فايز، أخرج منديله القماش ومسح به جبهته مراراً، أطل كثيراً، رفع النظارة عن عينيه ومسحها في طرف المنديل ثم وضعها علي عينيه، وأطل طويلاً، تردد، ثم مشي بعرج ملحوظ، وتهدل في كتفيه، وقف علي ناصية الشارع لحظات ثم اختفي.