في مراكش التقيت سيدي حبيب السمرقندي، تعرفت إلي أبيه راعي مقام سيدي الجزولي صاحب دلائل الخيرات وأحد السبعة رجال، البيت مجاور للضريح، ما بينه والمسجد يسعي الوالد ليؤم المصلين في المواقيت الخمس. البيت مفتوح علي الزنقة، لا يغلق بابه أبداً، فسيح الفناء، من طابقين، تطل الغرف علي ممرات مشرفة، تحت أماكن الضيوف، وأعلي الأهل ومن والاهم، إكراماً لي ومحبة أفردوا لي غرفة في الطابق الثاني، فسيحة، رحبة، تطل علي أسطح البيوت المجاورة، منها أري مجمل المدينة وعند الأفق جبال الأطلس الشاهقة بلمعة ثلوج قممها التي تستمر طوال العام في برودة الشتاء القاسي أو قيظ يوليو الوعر، وهذا من أعاجيب مراكش، في المدينة يبلغ الحر مداه، وفي الأفق يبرق الثلج في ذروة الجبل والصيف، فسبحان من جمع النقيضين معاً. يتصدر الفناء المقعد، الجدران من جص فاسي منمنم، والأسقف من خشب مراكشي ملون، الجدران حتي منتصفها مغطاة بزليج مغربي منمنم. في البيت يلتقي أجناساً شتي، معظمهم لا يعرفون بعضهم، لا يسألهم أحد عن منشئهم أو مقصدهم، يقعدون، إذا جاء وقت الطعام يدعون إليه، أحيانا يقف سي حبيب يشرح ما سيقدم خاصة إذا جاء أغراب، أجانب في الجنس أو اللغة، مازلت أذكر وقوفه ذات عشاء وبين يديه الطنجية، الآن وقت هذا التدوين وقد أنقضت سنين لا حصر لها، لا أدري.. أكان ذلك اسم الوعاء أو الأكلة - كما ينطقها سي حبيب - غير أنني أستعيد مذاقها، لحم ضأن مطهي علي الحرارة التي يضمرها الفخار المدفون في رماد حار لنهار وليلة كاملة، يستوي متمهلاً، هادئاً، متفاعلاً، منصهراً مع البرقوق والتين والزيتون وطور سنين، فما أبهي وما أجمل. يبدأ سي حبيب بتوزيع المنون في الأطباق التي يجاور كل منها رغيف خبز من القمح الصافي شبيه بالعيش الشمسي في صعيدي المصري، متعلق أنا به حتي إن صحبي وأحبابي إذا أرادوا ادخال السرور علي روحي يأتوني بأرغفة منه، وأحيانا واحد لا غير فأنفرد به لآكله بدون غموس. سواء قل الحضور أو كثروا لا يحتاج سي حبيب إلي استبدال الطنجية، واحدة فقط يغرف منها مقادير متساوية، إذ ينتهي من آخر ضيف يمضي عبر ممر مؤد إلي ما لا أدري، هذا من أعجب ما رأيت، لكنه ليس الأغرب، فما جري مع سيدي مصطفي سليطين أندر..