في أعمال كورتاثر، تكثر الشخوص التي يطيب للكاتب الارجنتيني أن يطلق عليها "المجانين الهادئون" . هؤلاء من شجرة عائلة إيراسموس. فطبقاً لما يري ايراسموس في مؤلفه" إطراء الجنون" نجد البشر يتجاوزون حدودهم المعقولة. وبالنسبة لباقي الحيوانات فإنها تسعد بما هي عليه من امكانيات طبيعية. أما المجنون وحده، مثل دون كيخوتيه، فيحاول أن يعيش بالحرف كل ما قرأه، ومثل ذلك بيير منراد في قصة قصيرة لبورخس، محاولاً إعادة كتابة نص ثربانتس للغاية نفسها. هم مجانين للغاية مثل آل " بوينديا" من حيث إعادة ابتكار الكيمياء في رواية " مائة عام من العزلة" ، أو مثل " تاليتا وترافلر" وهما يسيران علي ألواح "سراية المجانين" في " لعبة الحجلة". نجد، إذن، ثمة طرائق كثيرة ليكون المرء مجنوناً، لكنها ليست كارثية كلها. لقد تذكرت جنوناً هادئاً استوحاه أوراثيو في واحدة من رسائله، وإيراسموس في أحد كتبه، حيث كان لديه رجل شديد الجنون لدرجة أنه كانكان يقضي الأيام في مسرح وهو يضحك ويصفق ويتسلي، لأنه كان يعتقد أن هناك عملا يتم تمثيله علي المسرح الخالي. وعندما يتم إغلاق المسرح ويطرد المجنون، كان المجنون يتعجب قائلا" لم تعالجوني من جنوني، لكنكم دمرتم متعتي وشعوري بأن هذه سعادتي." مجنون يضحك من مجنون، طبقا لما يقوله ايراسموس، وكل واحد منهما يمتع الآخر، لكن اذا ما لاحظنا الأمر عن قرب سوف نري أن أكثرهما جنونا هو الذي يضحك اكثر، وربما من يضحك أخيراً. وعلي هذا النحو نري أبناء إيراسموس، ابتداء من دون كيخوتيه لثربانتس وحتي بيير منراد لبورخس. وفي الطريق نتعرف علي ضحايا آخرين جنونهم رائع ينتهي بهم لخداع عالم مشدوه بهم. هناك العم " طوبي" لتريستان شاندي الذي قام في رواية لورانس اتيرن بإعادة إنتاج حملات دوق مالبوروج في فلاندس في مزرعة البقوليات وكأن القزمية المؤلفة من خطين من خطوط القرنبيط يمكنها ان توقف جنونا سياسيا وعسكريا لا يمكن تحمله بغير ذلك.. وهاهو جاك المتشائم عند ديدرو وسيده يعملان علي التجوال علي بنسيونات صغيرة ذات مطاعم محكوم عليها أن تقدم نفسها وتقدم لنا مجموعة من الامكانيات التي لا حد لها في كل مناسبة يتم تخيلها، وبالتالي فهي أكثر حرية من وعيها بالشؤم الذي هي عليه. نجد أيضا حفيدات دون كيخوتيه مثل كاترين مورلاند لجان اوستن وإيما بوفاري لجوستاف فلوبير وقد أدينتا أن تؤمنا، مثل دون كيخوتيه، بما تقرآن، أي بقصص الفروسية في إقليم لامانشا الاسباني، وهي روايات قوطية في باث وروايات رومانسة عند يونفيل. يتحول أبناء إيراسموس في أسبانياوأمريكا اللاتينية إلي ابناء إقليم لامانشا، اي أبناء عالم توفيقي وباروكي وفاسد، تحفزهم الرغبة في إحداث اثر، في أن يكونوا، في أن يصابوا بالعدوي حتي يتمثلوا وتتضاعف الامور الظاهرية والواقع المتعدد وأن تكون الحقائق مزدوجة دون أن يسود عالم أرثوذكسي أو عالم إما الايمان او العقل او عالم نقي يستبعد التنوع في الثقافة أو القومية. كانت أسلحة السخرية والروح الفكاهية والخيال، ولا زالت وستكون، هي روح الإيراسمية الي الطرف النقيض مع العالم اسطوري والملحمي واليوتوبي للموروث التراثي الإسباني الأمريكي ها هي ثنائية الحقيقة والأمل الكاذب فيما هو ظاهري وإطراء الجنون. أسهم هذا التوجه الخاص بعصر النهضة والذي يهدف الي تصحيح التوجه الارثوذكسي في الايمان ووحدة اللغة، لكنها أيضا تصحيح للدكتاتورية العقلية ولغتها المنطقية،في الموروث السردي في أوربا وجعله يحافظ علي القيم الانسانية النقدية لإيراسموس في روتردام. غير ان هذا النقد الإنساني توافق بالطبع مع ازدهار تأكيد الشخوص في الرواية وهي شخوص محددة بدرجة دقيقة علي يد تشارلز ديكنز ،وقام فلوبير بسبر أغوارها بشكل عميق، وتولي بلزاك بوصفها وصفا دقيقا، وكذلك الأمر عند زولا وأكثر . إلا أن المشكلة المطروحة بشكل راديكالي ابتداء من كافكا تتمثل في موت الشخصية التقليدية في الرواية والتي استنفدها كل من التوجه الاجتماعي والطبيعي والاجتماعي أيضا المصحوب ببعض التوجهات الواقعية المصابة بالهوس. غير أنها استهلكت بشكل خاص من خلال قصة زماننا: قصص الجرائم التي يتم ارتكابها باسم السعادة والتقدم، ما ادي الي افراغ الآمال التي ولدت في عصر النهضة من محتواها ومعها التفاؤل الذي ساد خلال عصر التنوير والتقدم المادي خلال قرون التطور الصناعي وما بعد الصناعي. في قصص خوليو كورتاثر، نجد المنازل التي تسيطر عليها شخصيات منسية أو لا روح فيها بشكل تدريجي، ونجد الناس تنسي مصيرها ولا تكاد تفعل شيئا اللهم الا شراء التذاكر في محطة السكك الحديدية، وان السوق التجاري في بوينوس أيرس يقود الي سوق تجاري في باريس مع ما يصحب ذلك من السير في الاتجاهين، ونجد الشخصية التي تعاني من حادث مروري في مدينة اوروبية وفجأة تجد نفسها علي ترابيزة العمليات التي هي في واقع الأمر عبارة عن كتلة حجرية للذبح في المكسيك، وحيث هناك ضحية من سلالة الأثتيك تكتشف نفسها وكأنها شخصية جديدة في فراغ لا يتصور لونه أبيض ومحاط بالبشر الذين يرتدون أقنعة ويحملون سكاكين بيضاء لامعة، ومن بين كل هذه القصص اريد أن أختار تلك التي تسمي" تعليمات لجون هويل" وفيها مشاهد بريء في لندن يكتشف انه لا يوجد مشاهدين أبرياء. يجد هويل نفسه مجبرا علي الدخول في عمل مسرحي يشاهده لأن البطلة تهمهم له بشكل سري قائلة: "ساعدني، سوف يقتلونني. " يفهم هويل هذه الكلمات وكأنها تضرع ليدخل في حياة المرأة. غير أن ذلك ممكن في حالة واحدة وهي اذا ما تمكن للدخول الي خشبة المسرح. يتحول تضرع المرأة بهذا الشكل الي تعليمات صوب المسرح الذي يقرر الحياة والموت عند جون هويل. ما يشترك فيه كورتاثر مع كافة الكتاب الذين ذكرتهم هو ضرورة التسمية وأن يعطي للشخوص صوتها . إنها حاجة تبدأ بالعلاقة بين السلطة واللغة، ومع ضرورة انتزاع الكلمة من السلطة ومنحها للمرأة، أي لأم أطفاله. إنها ضرورة فرضتها قيود ناجمة عن أن الملحمية، الحاملة للسلطة، وضعت مكانا للاسطورة الحاملة للغة. وخلال العصر الاستعماري نجد القصائد الباروكية لكل من الاخت / خوانا والشاعر جارثيلاسو ابن ثقافة الإنك يستعيدان اصوات الصمت، لكن الثورة في الأدب الحديث وخاصة في السرد القصصي خلال القرن العشرين سمحت ايضا لكتاب أمريكا المتحدثة بالأسبانية والبرتغالية أن يكتشفوا ويطبقوا تقنيات لغوية اسهمت في التسارع في منح القارة الكثير من زخم الاسم والكثير من زخم الصوت وهي قارة كانت في الأعم الأغلب تكاد تكون مجهولة وصامتة. وليس من الضروري هنا أن نضيف أنه بغض النظر عن كون ذلك محاكاة رخيصة لتقنيات الخيال المعاصر، فإن هذه التقنيات هي التي قامت بسبر أغوار الزمن وسبر أغوار أكثر من ثقافة وأكثر من أسطورة كامنة في أوربا والولايات المتحدة، استطاعت أيضا اكتشاف ما عرفته دائما شعوب أمريكا الايبيرية، الا أن كتابها الذين توجهوا، الذين ساروا علي الايقاع الغربي) نحو انماط الواقعية السردية) لم يكتشفوا حقيقة واقعنا اليونيفرسالي، اي الاسطورة والملحمة والباروك والسخرية والفكاهة والابتسامة الإيراسمية أمام الامكانيات الانسانية. إنها ثقافات متعددة وحاملة لأزمنة مختلفة. ليس لهذا الخيال النقدي للحداثة افضل مما في السرد القصصي عندنا الا الارجنتيني خوليو كورتاثر. ساعد الجمع بين النصوص التراثية أساطير ما قبل التاريخ، وحوليات الهندالغربية)وبين التقنيات الخاصة بما بعد الحداثة في الغرب( جويس وفوكنر وكافكا وبروش و وولف)علي تقديم دعم لا مثيل له للخطاب القصصي في امريكا الايبيرية وقدم مساحة تستوعب ماضيها وحاضرها وآمالها وتعدد تقاليدها وتنوعها: اي أن اللغات في صراع فيما بينها في القارة الأوربية والمحلية والسوداء والمخلطة).ساعد كل هذا في أن نقوم بتوسيع رقعتنا وأن نضع تحت الضوء العديد من انماط الواقع التي لم يكن ليستوعبها النفق الضيق للواقعية, وإدراج كل ذلك في رؤية تاريخية لا تنفصل عن استخدامات اللغة. لقد انتقلت الرواية الغربية من السرد الأفقي قافزة نحو المستقبل وتخاصت من استخدام ضمير المتكلم لتعبر عن التعددية والجماعية من خلال جيمس جويس اي من خلال رؤية للغة من حيث هي مهمة شعبية ومشتركة تنبع في الصلة مع الحضارات نفسها، الحضارة تعني اللغة قبل كل شيئ واللغة هي إبداع اجتماعي تنقسم البنية الادبية لروايته لعبة الحجلة الي ما هنا، باريس، وما هناك، بوينوس ايرس، وهي بذلك تشكل مجموعة من اليوتوبيات تكمن اساسا في جذور ثقافتنا، فإذا ما كانت امريكا هي يوتوبيا اوربا خلال القر السادس عشر، فإنها، اي امريكا، ردت الدين لأوربا القرن التاسع عشر حيث اصبحت أوروبا هي اليوتوبيا، لكنها ليست اي اوربا، بل هي اوربا التقدمية والديموقراطية والليبرالية. تدخل رواية لعبة الحجلة في اطار تدمير التراث الذي أتت منه وبالتالي فهي ملحمة عازمة علي السخرية من الدائرية التراجيدية المستحيلة لتحل محلها الدائرية الكوميدية. استطاع خوليو كورتاثار من خلال " لعبة الحجلة ان يضع الرواية في أمريكا اللاتينية علي أعتاب الرواية المحتملة: اي الرواية التي ستأتي من عالم يتسم بالتنوع وكذا بعدم الرضا.