تمثل الرواية في أميركا اللاتينية نموذجا قائما بذاته، أحدثت فرقا في مجال السرد الأدبي منذ ظهورها وتصدرها لقائمة الأعمال الأكثر قراءة عالميا، بينما عُرف النص الأدبي لأميركا اللاتينية من خلال قامات مثل خورخي لويس بورخس، روبرتو آرلت، ماثيدونيو فرناندث، أوكتابيو باث، بابلو نيرودا، غابرييل غارثيا ماركيز، خوليو كورتاثار، ماريو فارغاس يوسا، ألفريدو برايس إتشينيكي، باولو كويلهو، إيزابيل الليندي، لاورا إسكيبل. ويعتقد بعض النقاد أن هذا الأدب لمع عقب ترجمته إلى اللغة الفرنسية، ومنها إلى بقية اللغات، خصوصا بعد التوجه الذي عرف بمدرسة الواقعية السحرية التي ظهرت بداية خمسينيات القرن المنصرم، بينما استقبلت الرواية اللاتينية في عالمنا العربي باهتمام وترحيب كبيرين، ويبدو ذلك واضحا من خلال ترجمات لأسماء مثل خورخي لويس بورخيس، غابرييل غارثيا ماركيز، ماريو فارغاس يوسا، إيزابيل الليندي وغيرهم. ويعتبر خوليو كوتاثار (1984-1914) واحدا من أولئك الكتاب الذين عرفهم القارئ العربي من خلال روائعه الروائية والقصصية، إذ وُصف دائما بالروائي الأكثر طليعية في أدب أميركا اللاتينية، وذلك رغم ولادته في القارة الأوروبية لأب أرجنتيني وأم فرنسية، القدر الذي طبع شخصيته ونتاجه بلون كلتا الثقافتين الفرنسية والأرجنتينية، وفي هذا السياق فهم كتاب سيرة كوتاثار حدث حصوله على الجنسية الفرنسية بكونه احتجاجا على سياسات نظام الحكم العسكري في الأرجنتين. كتب خوليو كورتاثار أعماله باللغة الإسبانية رغم تأثره بتيارات الثقافة العالمية وقضائه القسم الأكبر من حياته في فرنسا، بينما عاش في الأرجنتين شبابه، وهناك بدأ كتابة الشعر متأثرا بالتيارات الجديدة في العشرينات والثلاثينات التي جعلت من بوينس آيرس المركز الأدبي في أميركا اللاتينية. يجمع أسلوب خوليو كورتاثار وتقنيته السردية بين فنون الطليعة التي انبثقت في عشرينيات القرن المنصرم، والظاهرة الأدبية التي ظهرت بعد ذلك وعرفت بالواقعية السحرية، كما تأثر بالكتاب الأرجنتينيين الذين سبقوه، أمثال: بورخيس وكاساريس وروبرتو أرلت وماثيدونيو فرناندث. واستطاع كورتاثار أن يمزج في قصصه بين الواقع والخيال والحلم واليقظة في قالب فانتازي، وهو ما شرحه في أحد تصريحاته بقوله: «لا فرق بين الواقع والفانتازيا بالنسبة لي، كل ما هو فانتازي لا يصور سوى الحياة اليومية التي نعيشها»، وفي أحد حواراته يضع الروائي الأرجنتيني تعريفا للرواية والقصة يقول فيه: «القصة القصيرة مرادفة من مصطلح الفضاء.. الفضاء كجسد هندسي كامل، منغلق على نفسه، هذا هو رمز القصة القصيرة، إنها عبارة عن شيء قدري، إنها نص قصير يجب أن يغلق بشكل مثالي، في حين أعتقد أن الرواية ليست فضاء أبدا، إنها عبارة عما يسميه أمبرتو إيكو بالأثر المفتوح، يعني إمكانية بسط الأشياء وجعلها مرادفة للتفرع والتشعب، إن الرواية شجرة، أما القصة فهي عبارة عن فضاء»، ويذهب كورتاثار بعيدا في تصوره للأدب عندما يقول إنه يهتم أكثر بالقارئ إلى درجة أنه يريد تغييره ودفعه إلى تغيير مواقفه، وفي هذا تصديق لعقيدته الاشتراكية. من أهم أعمال هذا الروائي نذكر: (الأسلحة السرية) و (مراقد) و (نهاية اللعبة) و (نحن نحب جليندا كثيرا) و (لعبة الحجلة). وتصنف «لعبة الحجلة» (1966) ضمن الأعمال الأدبية الفريدة في تاريخ الرواية العالمية، وذلك لما تقدمه من رؤية روائية ناضجة ومختلفة تماما عما هو سائد في الأدب العالمي، فهي بناء ساخر مرح في شكل رواية تبحث في الزوايا المتعددة للحياة، ويرى بعض النقاد أنها مثال متميز للرواية العالمية في بنائها الهندسي ونكهتها الأدبية، وأنها تدفق مثير للعبقرية يتهادى على ضفتي التناقض، فهي مزيج من التفكيك والتركيب المليء بالتلميحات المشفرة، ودعوة لصفاء هذا العالم، ويكاد يجمع خبراء الأدب العالمي أن هذه الرواية أصبحت رمز الرواية المعاصرة بتقنياتها وولعها بالتفاصيل، وانتقالها الرهيف من الرصد الخارجي إلى الغوص الداخلي. وتتألف رواية (لعبة الحجلة) من ثلاثة أجزاء: يحمل الجزء الأول منها اسم «من هذا الجانب»، ويحمل الجزء الثاني عنوان «من ذلك الجانب»، أما الجزء الأخير فعنوانه «من الجوانب الأخرى». وقد ألفها كورتاثار وهو في الخمسين من عمره أثناء مقامه بفرنسا، ولذلك توزعت وقائعها بين بوينس أيرس وباريس، وتتعرض لأحداث خارجهما كان لها أصداء عالمية كالثورة الجزائرية وإنقاذ آثار النوبة وبناء السد العالي. وتتناول الرواية في بعدها الرومانسي قصة ناد يضم مجموعة من الأصدقاء تبرز بينهم علاقة حب تجمع بين لاماجا وأوراثيو، وتكشف الأحداث منفى شخص يدعى أوراسيو هاجر إلى باريس فرارا من الديكتاتورية، وعاش محاطا بمجموعة من الأصدقاء المهووسين، وتنقلنا الرواية بين باريس وبيونيس أيريس، كما تمنحنا متعة الحديث عن أشياء أخرى، وتبرز من خلال تطورات الوقائع مغامرة الفرد وبحثه الذاتي عن الحقيقة بشتى الوسائل، إلى جانب أبعاد أسطورية تخرج عن الأطر العقلية، وعبرها يهاجم المؤلف بوضوح أقنعة المجتمع الغربي الزائفة وقهره للإنسان. وهناك من اعتبر (لعبة الحجلة) نصا معقدا يضني قارئه، لأنه «شجرة» ممتدة الأغصان في سماوات التاريخ والفن والنقد الأدبي والسياسة، فالحجلة وهى لعبة القفز بين المربعات تحيل إلى رواية متعددة المستويات، ومثلما تقفز البنت وهى تلعب هذه اللعبة، فإن القارئ بدوره يقفز بين مستويات متعددة، أما بعض نقاد الرواية فقد رأى في النص كتابا مدهشا، يمكن للقارئ أن يعتقد بداية أن بإمكانه الاستغناء عن بعض فصوله، لكن سرعان ما يكتشف أنها تكتسي أهمية قصوى، بل تقدم مفاتيح أساسية لفهم النص. يقول كورتاثار في أحد حواراته: «أنا جد مسرور لأنني منغمس في الواقع، والواقع يمنحني أشياء كثيرة»، قناعة تكشف عنها «لعبة الحجلة» عندما تأخذ صبغة الحياة وتقترن بها في تفاعل مستمر، وهو ما يوضحه أكثر بقوله: «منذ طفولتي لم أكن أنظر إلى الواقع مثلما ينظر إليه باقي الأطفال، كانت تتداخل في نظرتي للواقع أشياء مختلفة تُحوره وتدفعه نحو التغير»، إنها إرادة للاستبصار عبر الأدب. يقول الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا عن رواية «لعبة الحجلة»: «لقد أدت هذه الرواية إلى خلخلة معتقداتنا وأحكامنا ككتاب وحتى كقراء، بخصوص وسائل وغايات فن الرواية، كما أدت إلى توسيع حدود هذا الجنس الأدبي، وبفضل الحجلة أدركنا أن الكتابة تعني اللعب، كما تعني إمكانية اكتشاف أسرار العالم واللغة». انتقل كورتاثار بحدسه الإبداعي من (الحجلة)، لعبة صغيرة تصاحب الأطفال بداية انفتاحهم على الدنيا، إلى رؤية فلسفية تحاول تفسير قضية الحياة والإجابة على أهم أسئلتها الكبرى والحاسمة: البداية والنهاية، الدخول والخروج، الحماس والتنافس والتحدي والمجازفة والسقوط والنجاح والحفاظ على التوازن، كلها مشتركات جوهرية بين لعبة الحجلة والحياة، بل طبيعة الحجلة كلعبة وضعت لغاية محددة تجعلها شبيهة بالحياة نفسها، لعب ولهو خلق لغاية واضحة، تحكمه قوانين ومخاطر عدة، بنهايته يشرع الجد واليقظة. ** منشور بصحيفة "العرب" القطرية 7 أكتوبر 2009