البنت التي تنساب خطواتها في هيبة وثقة غير مكترثة بكل تلك العيون التي تتفحصها ذاهلة، غير مكترثة بنفحات الهواء التي تتغذي علي هالتها المضيئة، فحين تمر بجانبها لابد وأن ينتابك ذلك الشعور اللطيف بالدفء، وتلك الدغدغات التي تداعب صدرك محدثة أنغاما عديدة من موسيقي صاخبة مرحة، وكل تلك التمتمات التي تزاحم رأسك في محاولات يائسة للتعبير عن بصمة الجمال التي حفرت في قلبك. ما بين البرتقالي والأصفر والأحمر والأزرق كانت تتبدل ألوان ملابسها، في كل صباح متكرر طوال سبعة أيام ذهاب وعودة من نفق "سيدي جابر" علي الكورنيش، إلي القهوة التي تجاور محطة القطار، كانت تظهر أمامي بروح جديدة، حيث يضطرني قرب القهوة من مكان عملي إلي الجلوس علي احد كراسيها البالية، محتملاً في سخط مكتوم القهوجي القصير الأصلع ذا البدلة البيضاء ومزاجه السيئ الذي أراه في الريم الأبيض المرسوم علي صفحة كوب الشاي، وأكرهه ليس فقط لأن ذلك يعني أن الماء لم يصل إلي درجة كافية من الغليان لتصنع الشاي، لكن أيضا لأنه أحيانا يرسم فوق شفتي خط أبيض شفاف به بعض الفقعات الصغيرة. ومحتملاً أيضا ذلك المزاج السيئ الذي يسمح له دون غضاضة في أن يقطع الموجات الصوتية التي يبثها الراديو علي إذاعة الأغاني بصراخ شاذ غريب. قائلاً " اشربوا..اشربوا بسرعة"! وكانت الوحيدة التي ينحني أمامها، يبتسم إبتسامة تكشف عن تجاعيد حول عينيه في تأكيد صريح علي صدق إبتسامته، يتلون وجهه لرؤيتها، ووحدها كان لها الحق في الجلوس علي الجانب الأيمن في الممر الأخير من القهوة بجوار النافذة وبعيداً عن صفير القطار وثرثرة المنتظرين الطويلة، ووحدها كان لها الحق في أن تحتفظ بقهوتها أمامها أكثر من نصف ساعة وهي تدير ظهرها له محدقة في المارة عبر النافذة. ذلك العجوز الأسمر المزعج لابد أنه افتتن مثلي بهالات الضوء التي تنبعث من الفتاة في تتابع بطئ ولذيذ يبقيك دائما تحت سيطرة السحر، لم تكن بديعة الحسن بحسب معايير الرجال في تقدير مفاتن الأنثي، كان جمالها عاديا هو ذلك الجمال الذي ربما لا تنتبه له لكن فتنتها كانت تكمن تماماً في عدم اهتمامها بشيء، في طريقة ظهورها الذي يملأ الفراغ، في الشموس الصغيرة التي تشرق بابتسامتها وتتعلق باكسسواراتها الرخيصة وشنطتها الجينز. لكن كل تلك الشموس المضيئة والتي تحدد هويتها بدقة وبشكل لا يسمح لملاحظتي وذاكرتي القوية بأن يلتبس عليّ الأمر أو تحاول حيلي الدفاعية أن تنكر ما رأته ليلتها من مشهد حزين عكر صفو صباحاتي التالية لم تكن كافية، حيث قادته الصدفة والذاكرة الي إكتشاف عجيب سيظل عالقاً بتيار وعيه ليالي طويلة، أما الصدفة فكان دورها قد تحدد في ليل لم يحجب ظلامه حزني ولا ملامحها التي رأيتها في لفتة ولمحة أيقنت ان الزمن قد توقف بها. كنت أمشي مرتدياً منديلاً رماديا به مربعات متشابكة، حين شعرت بغضب شديد تجاه الذكري السيئة التي يمثلها لي وتصادف مروري بجوار صندوق القمامة بشارع "المشير" مما شجعني علي اتخاذ قراري، فانتزعته من حول رقبتي ورميت به في سرعة خاطفة في الصندوق ومضيت غير عابئ، لكن الفضول عاد بي ثانية فعدت مسرعاً تجتاحني رغبة ملحة في معرفة مصيره خاصة انني لمحت حينها ظلاً لم اتبين ملامحه، ورأيتها هناك ترتدي الأسود تنبش في الصندوق بتركيز شديد، التقطت المنديل وكومته في كيس صغير، بينما ظلت تنبش تجمع زجاجات المياه والبيبسي وبعض الطعام، تحوم حولها قطة فتحجب عنها الطعام وتتفاداها، كانت تعمل في طبيعة وتلقائية حتي أن رؤيتي لها وأنا أقف أمامها مأخوذا بتفاصيل الحدث ومختنقاً من الرائحة التي تنبعث من الصندوق لم تزعجها ابداً، وعند انتهائها رمقتني بنظرة سطحية ثابتة خالية من أي تعبير ومضت حاملة أكياسها التي بها غنائمها. وأما الذاكرة فقد تحدد دورها عند متابعتي لها حتي التقت بتلك العجوز التي انتظرتها عند نهاية الرصيف، وما إن رأيتها حتي استدعيت صورتها أمامي وهي تجلس في نفق محطة القطار تبيع المناديل، النفق الذي يجاور القهوة والذي أمر به يومياً حتي أصل لموقف سيارات الميكروباص عائدا الي بيتي، كيف لي أن أنسي علبة المناديل الملوثة التي أعطتها لي واستبدت حيرتي حينها ما بين احتياجي للمناديل التي أنساها دائما خاصة وأنا في نوبات برد مارس وبين رائحتها العفنة، حتي انتهيت أخيرا إلي القائها حيث القيت بالمنديل، ثم مضت الفتاة ومعها العجوز يحملان غنائمها في اطمئنان واضح، ووقفت أنا في مكاني تتداعي المشاهد أمامي وأعاني من صدمة الموقف.