... ربما وجوده معه لم يدم طويلا, لم يطل سوي سنوات قلائل, هي بحق صقله الفعلي ومرانه الأساسي, بيد أنه كلما دنا من السور العتيق, وتشمم عبق الماضي وارتاحت قبضته للمس الحيط المشبع بالبرودة. وامتلأت خياشيمه برائحة النشع ينحت في جداره, شعر أن هذا الرجل ليس ببشر؟! ضحكاته, قفشاته, عفويته, مشاجراته.. ربما كان يتستر خلف جدارتها, ليخفي أو ليتخفي كماسة, يحفظها صاحبها في علبة مغلفة بالحرير في قاع صندوق حديدي, داخل خزينة عسيرة الفتح, يسير في الشوارع.. يقطع الطرقات, تتقطع أنفاسه, تسيل قطرات عرقه غزيرة, تمتزج بذرات التراب والعادم ونشارات الخشب ورايش الورش.. يستحيل قميصه الوحيد الذي ابتاعه بعد عناء من الوكالة المجاورة الي لون الأرض ووجهه وجسده مثلها.. الصقيع يشتد, يسري في كل الأطراف والأقدام والسحن أعدادها تتزايد, وهو يلاحظ نفس الملاحظات التي لاحظوها عليه برغم فارق في الطول والوزن وقيمة القماشة.. العمال المغادرون الي ورشهم ومصانعهم الصغيرة, ونفس المطاعم اعتادوا عليها ليملأوا بما تبقي لهم من خصم بطونهم بسندوتشات الجبنة القديمة والبطاطس والفول والطعمية؟! الرجل عندما جاء في المنام, رجاه أن يزوره وألح عليه, قبل يده وكاد يقبل... وحين جاءه بشحمه ولحمه, طلب أن يسمع.. نظر في وجهه وتلمس جبهته وجعل يتفل عن يمينه وعن يساره, بينما يقبض ذراعه وساقه ما يزيد علي الساعة؟! وهو في نفس الوضع بين يدي الرجل, فقط تتلاحق أنفاسه أو تكاد... التمتمات والهمهمات والأنفاس تتري وشبحا الرجلين يهتزان في بطء في ضوء المسرحية الخافت وثمة تجليات تفيض في دعوات ومراكب الليل تتهادي, تبحر في الظلام, كان في البدء يشك في كل شئ, أي شئ.. حتي كاد الشك يصير عقيدة لديه, في البدء والي الآن ومنذ التقاه تبدل صار وجها غير الذي كان, وتبدل شيئا آخر بارعا, يتفجر بالأمل ويمتلئ اشراقا وشروقا.. الوليد وهذا اسمه يصبح هاشا باشا, غير مكترث بما سيجئ لعلمه بما سلف.. تسري في جسده رعشة تزلزل كيانه, ينتشي يردد في ارتياح ولو أن أهل القري آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء, بينما يستعيد في رأسه صورة الجليس ويترحم عليه. عصام الدالي