أول ما يلفت الانتباه في فيليب كلوديل هدوؤه ولطفه. المخرج الصاعد أنجز حديثاً فيلمه الثاني "كل الشموس في شقة في الدائرة السادسة عشرة "في باريس"، والآن يستقر بهدوء في ملابسه كروائي. أصبح كلوديل مؤلفاً معروفاً منذ رواية "نفوس رمادية" و"تقرير بروديك" ( الحاصلة علي الجونكور لعام 2007 ) ومعروف كمخرج بنجاحه في فيلم "أحبك منذ زمن بعيد". احتفظ كلوديل برباطة جأشه وببساطة أصوله المتواضعة، ربما لهذا السبب تعاطف هذا الحاصل علي إجازة في الأدب مع كل ضائعي عالم العمل وضائعي العالم عموما. أما روايته الأخيرة "البحث"- وهي حكاية خرافية حول كوننا الإنساني والكافكاوي- يبوح فيها بكل انزعاجه تجاه الانحرافات التكنولوچية، الأمنية، والمالية في عصرنا. شهادة نابضة بالحياة. السينما، المسرح، أنشطتك المتنوعة، تترك لك القليل من الوقت من أجل الكتابة. - أكتب عندما يكون لدي رغبة في ذلك، لا أجبر نفسي قط. في الواقع تبدأ رواية ما في التململ عندما تكون هناك ضرورة داخلية ملحة. ويتضح أن رواية "البحث" قد ازداد إلحاحها. لدرجة أنك أسرعت بطباعتها -كنت قد انتهيت منها تقريبا حينما شرعت في تصوير فيلم كل الشموس. أرسلت المخطوط منذ ما يقرب من شهر ونصف لناشري جان مارك روبير، الذي كان يود نشرها بأسرع ما يمكن. هذه الرواية ولدت من شعور متململ شعرت به ويرتبط بأحداث في الآونة الأخيرة، فكان لابد أن تصدر الآن. تأخذ روايتك شكل الحكاية الخيالية، بل شكل الرواية الاستشرافية، نوع جديد بالنسبة لك. - لا، ليس حقيقيا. فكل كتاب من كتبي تكملة وإضافة لكل الكتب التي سبقته. فرواية "النفوس الرمادية" لا تأخذ إلا مظهر رواية واقعية، لكن لم نكن نعرف أين تدور، ولا متي. وفي رواية "إبنة السيد لين الصغيرة" سوف اتجه بوضوح نحو الحكاية الخيالية، هناك حيث الأماكن والأزمنة مبهمة؛ ثم في رواية "تقرير بروديك" نجد نفس المحو. وأخيرا رواية "البحث" حيث إرسال مفتش إلي مدينة ليحقق في موجة من حوادث الانتحار، لكن السرد الواقعي لا يستمر في نهاية الأمر إلا لبضعة صفحات. وسرعان ما نتحول نحو الفانتستيكي والخرافي، حتي ننتهي نحو أحداث استشرافية وميتافيزيقية. أتتغذي علي حكايات البطولات الخرافية والحكايات الخيالية؟ -مسيرتي في الكتابة كدائرة تنغلق. في مقتبل العمر، كنت أكتب حكايات خيالية وبطولات خرافية، ثم جربت في كتابة القصص القصيرة وفي الرواية لما يبدو لي جوهريا، إنها الخرافة، والأسطورة. خلال هذه الرحلة تمنيت أن أضيف شطحة بالكلمات والتعبيرات ، مثل " يذهب مباشرة إلي الجدار" زحزحة الخطوط" حتي أُظهر أن لغتنا هي انعكاس لعبثيتنا. تغذيني أيضا السينما، وعلي وجه الخصوص أبطالها الضائعين، سواء شابلن، بوستر كياتون والأخوان كوان وتاتي... تقول إن الروايات تولد من صورة ضبابية. ما الصورة التي أنتجت المكان في رواية البحث؟ - لم يكن هناك مكان، ولكن تراكم. فمنذ ثلاث سنوات أختزن قراءات عن أناس ينتحرون، ولا سيما بعد أن كونوا مجموعات علي شبكة الإنترنت. تضاعفت أخبار الحوادث، ثم كانت هناك هذه الشركات التي شهدت موجات من حوادث الانتحار، ذلك كان العامل المحرك. ما هذا المحرك؟ أشعر أنني فقدت طريقة الاستعمال وأنني أمام آلة فقدت دليل إرشاداتها. قد يكون ذلك أمر يعود للممارسة تماما، كما هو الحال عندما أحاول التنقل في متاهات مشغلي التليفون أو خوادم الإنترنت حال أن أطلب تغيير اشتراكي فيها، أو عندما أحاول أن أسلم نفسي لفة لا تصل أبدا. أشعر بأنني أتحدث إلي نماذج الكترونية، إلي أصوات اصطناعية، وأنني علي رصيف محطة وأن هناك نفس المرأة في كل مكان في فرنسا، بصوتها الجاد الذي لا يستطيع أبدا أن يؤنسن الموقف. لم أعد أستطيع أن أعرف نحو من يجب أن أتجه لأحصل علي إجابة، أو نظرة. أحس بنفس هذا الغياب للمحاور في النطاق السياسي أو الميتافيزيقي. لدي شعور مبالغ فيه بأنني إنسان ضائع، أجد نفسي مثل المحققين في مكان مغلق أضرب علي جدرانه دون أن يسمعني أحد. - ألهذه الدرجة ترعبك التكنولوچيا؟ -بدأت تتفوق علينا تماما. ثمة وقوع شديد الوضوح في ربقة العبودية. في القرن التاسع عشر أشار هوجو لإصبع الآلة التي ستفني الإنسان. اليوم لم نعد في حالة سحق ميكانيكي أو فيزيقي، ولكن في نوع من الخديعة الإفتراضية. أن تعقد نظمنا التكنولوچية ونظمنا المالية مشاريعنا مجهولة الهوية ومجالس إدارتها السرية، وكذلك النظام التشريعي، يوضح أنه لم يعد هناك من يستطيع فهم التجميع الكلي. حالتنا المفرطة في التخصصية تجعل رأسي يدور. محققك الذي يشعر بأنه مراقب علي نحو دائم، أليس مصابا بشيء من البارانويا؟ لا، هو يشعر بالفعل أنه في حالة مراقبة دائمة، وهو ليس مصابا بالبارانويا إن ظن ، أيا كان المكان الذي يوجد فيه ، أنه مسلط عليه بعض البروچوكتورات. ففي ستراسبورج حيث قمت بالتصوير لمدة خمسة أسابيع، هناك علي الطريق العام كاميرات تستطيع أن تقوم بعملية زوم علي العلامة التجارية الموجودة علي الملابس التي ترتديها أو علي الملحوظة التي كتبتها بسرعة في مفكرتك. والتليفون المحمول، وجهاز GPS ألا يتيحان تعقب كل أفعالك وكل حركاتك؟ حيواتنا الخاصة لم تعد كذلك لدرجة أن ذلك قد ينشئ تحديدا علم أمراض السلوك. يقل شعورنا شيئا فشيئا بأننا في لحظة مصانة. فالحلم علي مقعد قد يصبح- لو قمنا بشيء من الخيال السياسي- نشاط مشتبه فيه. الإنسان لم يخيب أملنا قط في أسوأ الأحوال. معذرة لهذا المثال المبتذل، ولكن من كان يمكنه أن يخمن أن ألمانيا جوته وڤاجنر قد تقع في واحد من الأنظمة الأكثر رعبا التي قد وجدت هذا الاستحضار ل ألمانيا أليس تطاولا؟ - الهدف من الفن ليس رسم العالم كما هو، ولكن قبل كل شيء أن ننظر وراء الأشياء. في رواية رصيف الضباب ، يقول رسام ما :" عندما أري سباحا أرسم الغريق الذي خلفه. إن الأمر يتعلق ببؤرة الصورة الفوتوغرافية. المؤلف أو المخرج يحاول تغيير البعد البؤري، السرعة، ليست من أجل الإفزاع بل من أجل التساؤل. يجب أن يكشط ذلك. أليس المشروع المِجسي الذي وصفته بعيدا عن المشروع الرعوي لأرباب المهن في القرن العشرين، وأنت تعرفه جيدا حيث ولدت في الشرق؟ - في دومباسل، بالقرب من نانسي حيث لا زلت أقيم، لدينا سولڤيه، وهي مجموعة بلچيكية ضخمة وعالمية، تنتج كربونات الصوديوم. عندما كنت صبياً كانت توظف ألفي شخص صاروا الآن ما بين خمسة آلاف وستة آلاف من العمال، وهي موجودة في كل مكان في المدينة. إنها هيمنة بالأحري مستنيرة وتقدمية، فهي تهتم بثقافة العمال وبأوقات فراغهم ( إنشاء ملعب كرة قدم علي سبيل المثال) وبأوضاعهم الصحية الجيدة. الناس تميز " ولي نعمتهم". اليوم، لم نعد نستطيع وضع اسم ما، وجه ما، أو مصدر ما علي أي شيء أيا كان. ثم إن المال في المركز من كل شيء، كما لو أن المال يقدر علي كل شيء، يشتري كل شيء، بل ويحل كل شيء. نعرض المعلومة الاقتصادية للنور لدرجة أنها تصبح معتمة. من يستطيع بالفعل أن يفهم ما حدث مع مادوف ومع كيرڤيال؟ ومن له القدرة علي أن يقول توقف؟ صورة السجن حاضرة في كل مكان في رواياتك، بين الشركة المحاطة بالأسلاك الشائكة وبين الفندق المحاط بالجدران ، هل نبع ذلك من تعليمك في السجون ؟ - بالأحري من تجربتي في دار الإذاعة( ضحك) فهذا المكان حتي تدخل فيه يجب تظهر وثائقك، وتمر تحت قنطرة مقوسة، وتواجه الحراس. تصطف للحصول علي الضمان الاجتماعي. هي أيضا تجربة من نفس النوع. كذلك أنا محظوظ، أتحدث فرنسية سيلمة، تقريبا أستطيع إعالة نفسي، بشرتي بيضاء، ولكن لو في مثل هذا النظام لا تجيد اللغة، وأنت أسود، عربي، هندي ، سيكون ذلك مغامرة مرعبة.